خلال حملته الانتخابية، تعهد الرئيس دونالد ترامب في كثير من الأحيان بأن أيام نزعة المغامرة الأميركية في الشرق الأوسط قد انتهت (في الوقت الذي وعد فيه، بما يدعو إلى الغرابة، بالقضاء على “داعش” باستراتيجية متطورة قائمة على استخدام المزيد من القنابل). وقد شجب ترامب هيلاري كلينتون بسبب دورها في العمل العسكري الذي نُفذ تحت قيادة حلف شمال الأطلسي في ليبيا في العام 2011. وبصراحة، كان بوسع مشكك مبدئي في نزعة التدخل الأميركية أن يحدق في ذلك بعينين نصف مغمضتين ويميز بعض الأفكار الجيدة -حتى ولو أن الإطار الفكري لم يتم “تغريده” بعد.
لن تتوقف المغامرات الأميركية في الشرق الأوسط
ولكن هذه المواقف عن يوم جديد في الشرق الأوسط كانت مجرد خدعة مدروسة، مثل معظم كل الأشياء التي خرجت من فم ترامب خلال هذه الحملة. ويبدو فريق ترامب على وشك جعل المنطقة المضطربة أصلاً أكثر سوءا بكثير.
لمنصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، قدم ترامب دان فريدمان، وهو مدافع عن المشروع الاستعماري الإسرائيلي في الضفة الغربية، وشخص يشبه حياده تجاه الصراع حياد الآباء المفرطين في حماية أطفالهم في مباريات كرة القدم. كما يبدو ترامب مستعداً أيضاً لتقديم مهندس حرب العراق، جون بولتون، ليكون نائباً لوزير خارجيته -وهو شخص من المحافظين الجدد غير متصالح مع الاتجاهات الجديدة، والذي كان يوصي بشن حملة قصف ضد إيران في نيسان (أبريل) 2015، حتى بينما كانت مفاوضات مجموعة (5+1) توشك على الوصول إلى نهايتها الناجحة. وإليكم شيء يمكنكم الوثوق بصحته: لا يريد جون بولتون الآن أن يكون أقل انخراطاً –عسكرياً- في الشرق الأوسط. ولذلك، يكون اختيار المرء هذا الرجل للعمل في وزارة خارجيته أشبه بحك عود الثقاب مباشرة بعلبة كبريت الحروب.
ثم هناك ترشيح ترامب المنافي للعقل للرئيس التنفيذي لشركة “إكسون موبيل”، ريكس تيلرسون، لشغل منصب وزير الخارجية، والذي يشير بوضوح إلى أنها ستتم مقاربة القضايا الإقليمية (كما كان الحال دائماً تقريباً) من خلال عدسة أمن الطاقة، وأن مستويات ما قبل أوباما من الانحناء والاحترام الكبير لدول البترول الخليجلية سوف يستعاد بالكامل.
لكن التعيين الذي ربما يكون الأكثر إثارة للقلق هو تعيين المحترف المصاب برهاب الارتياب والعظمة، مايكل فلين، مستشاراً للأمن القومي. وكان فلين قد شارك في تأليف كتاب (تم دفعه إلى النشر بتسرع قبل انعقاد المؤتمر الوطني الجمهوري) والمعنون “ميدان المعركة”، بالاشتراك مع وسيط إيران-كونترا السابق، مايكل ليدين، الرجل الذي مارس ضغوطاً قوية بلا هوادة من أجل خوض حرب مع إيران منذ التسعينيات. وقبل غزو العراق، كان ليدين قد أدلى بمشورته سيئة السمعة: “يمكن للمرء أن يأمل فقط بأن نحول المنطقة إلى مرجل، بسرعة، من فضلكم”. هذا هو نوع الشخص الذي يمنحه فلين أذنه حول السياسة في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من بعض الخلافات، يعتقد هذا الحشد عموماً بأن سياسة أوباما في الشرق الأوسط كانت كارثة كاملة. ومن المرجح أن يكون أولى ضحايا عقيدة “المرجل، بسرعة من فضلكم” هم المدنيون في سورية، الذين يواصلون الموت زرافات ووحداناً بينما يستخدم بشار الأسد القوة العسكرية الروسية لإنهاء المعارضة ومحو “داعش”، وبينما يأمر ترامب جيشنا بالقصف هناك بطريقة أكثر عشوائية وأقل تمييزاً.
ترجيح تجدد المواجهة مع إيران وإهمال حقوق الإنسان
في عهد ترامب، سوف يكون احتمال تجدد المواجهة مع إيران أكثر من العكس. فما يزال بولتون مهووساً بكل وضوح بفكرة “تغيير النظام” التي جلبت ما يقرب من 14 عاماً (والعد ما يزال مستمراً) من الخراب على العراق وجيرانه. ولدى نائب مستشار الأمن القومي المعين، كيه. تي. مكفارلاند، سجل معلن طويل من العداء للاتفاق النووي. وربما يفضل تيلرسون الانخراط مع إيران، ولكن إذا عمد ترامب إلى سحب الولايات المتحدة بطريقة انتقامية من اتفاق العام 2015، كما وعد، فإن إيران قد تتحرك بسرعة نحو تحقيق اختراق نووي. والفكرة القائلة إن لدى الطاقم القادم تلك اللمسة الذكية المطلوبة لإعادة بناء نظام العقوبات العالمي هي أمر مثير للضحك. فشركاؤنا الأوروبيون مشغولون في محاولة لوقف القارة عن التدمير الذاتي، وليس هناك أحد سيكون حريصاً على العمل معنا إذا تم إلغاء اتفاق متفاوض عليه، والذي تحقق بشق الأنفس، من دون سبب معين واضح.
هل لاحظتم أن حقوق الإنسان كانت غائبة بطريقة واضحة عن خطاب السياسة الخارجية لترامب (بقدر ما يمكنك أن تسميه خطاباً)؟ يوحي إعجابه الغريب بالحكام السلطويين المتعطشين للدماء، مثل صدام حسين، ورودريغو دوتيرت، وفلاديمير بوتين، بأنه سيكون عن استعداد أيضاً لتقديم المطلوب لكل من عبد الفتاح السيسي في مصر، وبشار الأسد في سورية، وزمرة الحكام الذين يشرفون على دول الرقيق في المنطقة. ويجب أن يشعر بالراحة أي شخص مستعد لاستخدام القوة المميتة من أجل إبقاء الغطاء مُسدلاً على التوترات الاجتماعية، ويرفع قدميه ويدخن الشيشة، بينما تصبح أجهزته الأمنية أكثر جموحاً خلال السنوات الأربع المقبلة. وتبدو التداعيات التي سترتبها على حقوق الإنسان إدارة أميركية لا تعرض حتى مجرد تظاهر بأنها تهتم بالدبلوماسية متعددة الأطراف والقانون الدولي، تبدو هذه التداعيات قاتمة وتقشعر لها الأبدان.
استمرار الحكم الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية واستهداف الإسلام
يمكنكم أن تتوقعوا المزيد من تعزيز الحكم الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية. وقد ابتلعت العاصمة الأميركية الرسمية أساساً خط نتنياهو بحيث إن حلي الدولتين والدولة الواحدة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لقيا حتفهما، وإن أفضل ما يمكن أن نأمله هو “إدارة ” للصراع إلى أجل غير مسمى -في رمز لاستمرار الاستلاب والبقاء بلا دولة اللذين يعاني منهما معظم الفلسطينيين ما دامت دولة إسرائيل نفسها تزدهر. وسوف تنخرط إدارة ترامب الجديدة على نحو شبه مؤكد في العمل الاستفزازي العبثي المتمثل في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ولعل من الصعب أن نتخيل هذا الفريق القادم من صناع القرار وهو يفعل الكثير من أي شيء في مواجهة استفزازات أكثر تطرفاً تقوم به إسرائيل أيضاً، مثل عمليات الطرد الجماعي للفلسطينيين في أعقاب وقوع هجوم عنيف كبير مثلاً، أو ضم مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية من جانب واحد.
توحي تصرفات ترامب خلال حملته -وخاصة إصراره على أن استخدام عبارة “الإرهاب الإسلامي المتطرف” مراراً وتكراراً هي التي ستجلب الاتساق للسياسات- إلى أنه وضع رهانه واصطف مع هامش يميني مصاب برهاب الإسلام، والذي يعتقد أن بإمكانه أن يعجل -و”يكسب”- عملية إعادة ترتيب تاريخية عالمية للدين الإسلامي، وأنه من مصلحة الولايات المتحدة شن حملة طويلة على مدى أجيال لتحويل الممارسات والمعتقدات الدينية للآخرين، والمفهومة خطأ. أو كما قال فلين في كتابه “ميدان المعركة”: “إن العالم بحاجة ماسة إلى إصلاح إسلامي، ولا ينبغي أن نتفاجأ إذا كان ذلك سينطوي على استخدام العنف. هذا طبيعي”. وإذن، ثمة المزيد من “المراجل المشتعلة، أسرع من فضلكم”.
الحكام المستبدون يكسبون والأكراد يخسرون
ينبغي أن يكون الكاسبون من حقبة ترامب الجديدة المتسمة بالعبادة المفتوحة للاستبداد واضحين. سوف يستطيع الرئيس التركي أردوغان، العاكف على عملية حرق المجتمع المدني في بلده، وإلقاء الأكاديميين والصحفيين والقضاة في السجون، المضي قدماً على أساس أن الولايات المتحدة لا تهتم بمن يَقتل أو أي مؤسسات ديمقراطية يُحطم. وفي مصر، كان واضحاً منذ الانقلاب العسكري ضد حكومة محمد مرسي المنتخبة غير الكفؤة أن السيسي لا ينطوي على النية للتخلي عن السلطة في أي وقت قريب. وينبغي أن يكون هذا على ما يرام ولا بأس به بالنسبة لإدارة ترامب، طالما ظل المصريون صامتين إزاء إسرائيل. وفي الحقيقة، يبدو الجميع مرعوبين جداً من فكرة وقوع القاهرة وقناة السويس في أيدي “داعش” بحيث لن يفعلوا أو يقولوا أي شيء لتغيير الوضع القاتم القائم هناك.
ثمة خاسر كبير آخر من سياسة إدارة ترامب الشرق أوسطية: الأكراد، ثاني أكبر مجموعة قومية في العالم بلا وطن، والتي يرتكب قادتها الخطأ الفادح المتمثل في معاودة الثقة بأن الولايات المتحدة ستخلصهم من وضع اللادولة كل 20 عاماً أو نحو ذلك. وتتسامح تركيا بالكاد مع وجود كردستان العراق، وهو كيان يشكل دولة مستقلة في كل شيء إلا الاسم. وسوف يود أردوغان أن يستخدم أي عذر ممكن، بما في ذلك الهجمات الإرهابية مثل اغتيال السفير الروسي في تركيا، لإطلاق عملية توغل عسكري في العراق، والتي ربما تصل إلى -وتتضمن- محو الإقليم ككيان منفصل، كل ذلك كجزء من مشروع لسحق تطلعات الأقلية الكردية في تركيا. ومع وجود العديد من القادة السياسيين الأكراد في تركيا في السجن، فإن الطريق ممهدة لتصعيد يبدو نظام ترامب في وضع سيئ بشكل فريد للتمكن من إدارته.
لماذا يمكن أن تتخلص الولايات المتحدة من الأكراد وتتخلى عنهم -في العراق وسورية- بعد 25 سنة من زراعتهم واستثمارهم منذ عملية “عاصفة الصحراء”؟ فكروا في الأمر. لدى الرئيس الجديد تاريخ مهني طويل ودنيء من استخدام الناس ثم التخلي عنهم بمجرد أن يتم استنفاد فائدتهم. وكان الأكراد يخدمون، في سورية والعراق، كحصن منيع ضد “داعش”. ولكن، مع استعداد ترامب لإطلاق بوتين والأسد على ما تبقى من سورية، فإن الأكراد وبراعتهم العسكرية قد لا يكونان زائدين على الحاجة فحسب، وإنما مصدر للإزعاج لكل من حليفنا التركي ولزملائنا الجدد في دمشق. وبمجرد أن يفقد “داعش” موطئ قدمه على الأراضي في الرقة، فإن أمره سينتهي في العراق أيضاً على الأرجح. وإذا وعندما يحدث ذلك، فإن الأكراد سوف يعودون بالضبط إلى الوضع الذي كانوا فيه دائماً -بلا أصدقاء ومحشورين مثل الشطيرة بين قوى أكبر منهم وأقوى، والتي لديها جميعاً أسبابها الأنانية الخاصة للعمل ضد قيام دولة كردية. ولن يرف لترامب جفن قبل أن يخدعهم وينبذهم مثل أي واحد من المتعاقدين معه.
عداء تجاه المؤسسات الدولية
كانت السمة المميزة للسياسة الخارجية للجمهوريين بعد العام 2000 هو العداء الذي لا يلين للمؤسسات الدولية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية من أجل إدارة العالم بالانسجام مع المصلحة الذاتية الأميركية المستنيرة. ويجعل هذا الواقع بشكل عام من الشرق الأوسط مكاناً سهلاً تماماً لتنفيذ رؤية ترامب ذات النزعة التجارية القومية العدوانية، لأن المنطقة تفتقر في معظمها إلى البنى العاملة متعددة الأطراف، وما تزال أجزاء واسعة منها مشتعلة لمعظم فترة 25 عاماً. ويوحي تعيين تيلرسون بأنه يرى المنطقة بالطريقة التي يعتقد سكانها أن معظم الأميركيين يتبنونها: كمصدر للموارد الطبيعية فقط تقريباً.
مع ذلك، لا يعني هذا أنها لا توجد بعض التناقضات المحتملة، وبالتالي مواطن عدم يقين سياسية. فالعديد من الشخصيات التي توشك على تولي مناصب ذات أهمية كبيرة في جهاز الأمن الوطني، مثل مكفارلاند وتيلرسون، تظل غير منشورة وآراؤها غير معروفة تقريباً (إلا إذا كنتم ترون نصوص عناوين “فوكس نيوز” على أنها “كتابة”)، وتظل احتمالات تصرفهم على نحو غير متوقع مرتفعة بشكل غير عادي. وإذا شغل ترامب إدارته بأناس، مثل فلين، من الذين يرون روحاً شريرة للفاشية الإسلامية تحوم عند النهاية الضحلة لكل واحة، فكيف يمكن التوفيق بين وجهات نظرهم وبين احتضان ترامب لتركيا التي تصبح أكثر ثيوقراطية بازدياد، أو التوافق مع عبادة تيلرسون لعقيدة الاستبداد المستقر؟ وإذا كانت الخطة هي التشارك مع الروس لتهدئة المنطقة، فأين يترك ذلك عميل روسيا الإيراني وقواته في العراق وسورية؟
تشبه النتيجة الأكثر ترجيحاً إعادة إنتاج مسرحية غير متقنة لفترة إدارة بوش الأولى. فمثل بوش، الذي تحدث في حملته عن الحاجة إلى أن تكون أميركا أكثر “تواضعاً” دولياً، أحاط ترامب نفسه بأناس يعتقدون بأن لمشاكل المنطقة حلولا عسكرية أميركية -وإنما الذين لديهم إحساس واقعي جامح بما يمكن إنجازه حقاً باستخدام القوة. وقد أثبت هذا كونه توليفة سامة في السنوات الأولى من هذه الألفية الجديدة، وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن استعادة لتلك التوليفة سوف تكون أفضل حالاً.
ديفيد فارس
صحيفة الغد