أن أكثر ما يميز الشراكة الإيرانية-الروسية في سورية هي أنها تطوَّرت خطوة خطوة بوتيرة تتناسب مع طبيعة التحديات وأهداف التدخل العسكري المباشر التي تبدو متقاربة إلى حدٍّ بعيد بين طهران وموسكو على الأقل في شكلها المعلن، ومع أهمية هذه الشراكة بين الدولتين في سورية إلا أنها لا تعني التعاون مع المستويات كافة، أو تمنه ظهور الخلاف بينهما. إذ غدا موضوع تباين المواقف بين روسيا والنظام الإيراني، الأكثر إثارة وتداولاً لدى أوساط ديبلوماسية وإعلامية في المرحلة التي أعقبت السيطرة على حلب وشهدت إعلاناً «هشاً» لوقف النار رفضت طهران التوقيع عليه، قبل أن تدفعها موسكو الى المشاركة في «تثبيته» بعد اختتام مفاوضات آستانة. إذ يحمل السجال العلني، وغير المألوف دولياً، بين روسيا والنظام الإيراني حول من يمكن وصفه بـ «صاحب الفضل» في إنقاذ دمشق، وتالياً النظام السوري، من السقوط خلال الفترة الماضية، أحد معنيين أو المعنيين: إما أنهما بدأتا التنافس حول وراثة النظام بعد أن فقد من وجهة نظرهما مبرر وجوده، أو أنهما تشيران الى تباين جدي بينهما حول أولويات المرحلة المقبلة… تسوية سياسية للحرب السورية، أو استمرار هذه الحرب لسنوات أخرى.
فليس مألوفاً بين الدول في الجماعة الدولية، بخاصة إذا كانت كبرى كما هي حال روسيا، أو ساعية لدور اقليمي ودولي كما هو النظام الايراني، أن يدخلا في سجال حول من ساهم أكثر من غيره، أو ربما حتى من دون غيره، في الحرب الإبادية الناشبة منذ ستة أعوام في دولة ثالثة. وسواء حملت هذه الحرب اسم الدفاع عن النظام في سورية، أو محاربة الإرهاب، أو غيرهما، فلا يغير ذلك في الأمر شيئا: تدمير سورية وتشريد شعبها في أصقاع الأرض في نهاية المطاف. كذلك فإنه بغض النظر عن غياب النظام عن هذا السجال، فضلاً عن الاتفاقات المسبقة في شأن المفاوضات في آستانة، فلا يقلل هذا الأمر من شأن «الاشتباك» بين موسكو وطهران حول ما تم حتى الآن، ولا حول ما سيجري مستقبلاً.وقد تكون الزيارة المنتظرة للرئيس الإيراني حسن روحاني الى روسيا أواخر الشهر المقبل نقطة تحول لتحديد ملامح تطور العلاقة التي وصفها أخيراً مسؤول روسي بأنها «شر لا بد منه».
ولعلّ أولى علامات عدم التناغم بين الدولتين، هو التوصل إلى اتفاق “وقف العمليات العدائية” في سورية، والتفاهم على استئناف مفاوضات جنيف، والذي تمّ بين روسيا والولايات المتحدة، بعيداً عن النظام الإيراني، ما عزّز شعور الأخير بأن تدخّل روسيا في سورية سحب منها أو يكاد، الورقة السورية، والتي استثمرت فيها، خلال السنوات الماضية، مالاً وسلاحاً ودماءً. في هذا السياق، وضع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في تصريحاته، يده على واحدة من نقاط الخلاف بين الجانبين، وهي مستقبل سورية التي لا تمانع روسيا في أن تكون فيدرالية، بينما تتمسك إيران بسورية واحدة، تحت حكم نظام بشار الأسد.
أما النقطة الخلافية الثانية بين الجانبين الروسي والإيراني فهي مصير رئيس النظام بشار الأسد، والذي يعتبر عند الإيرانيين مسألة جوهرية، نظراً لأن تعويلهم في تحقيق مصالحهم مرتبط بشخص الأسد أو العائلة الحاكمة، خلافاً للروس الذين يقيمون علاقات أوثق مع قيادات الجيش وأجهزة الأمن، ولا يتمسّكون بشخص الأسد. وعلى الرغم من أن الروس يدركون أن بشار الأسد هو العقبة الرئيسية أمام أي حلّ سياسي في سورية، لكنهم يعرفون أن التشكيك في شرعيته يعني أن الوجود الروسي والإيراني غير شرعي، وهذا لا خلاف عليه بين موسكو وطهران، لذلك يلوذون بالعبارة الضبابية بأن “مصير الأسد يقرره الشعب السوري”.
وكان أول من عبّر عن هذا الخلاف، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، والذي قال في كلمة ألقاها في طهران، في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015م، إن “جارتنا روسيا تساعد في سورية، لكنها ليست سعيدة بوجود حزب الله، وليس من الواضح أن مواقف روسيا تتطابق مع إيران بشأن بشار الأسد”.
وبدأ الخلاف الروسي الإيراني في سورية يخرج إلى العلن عندما وجه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف رسالة واضحة إلى النظام الإيراني بأن التدخل الروسي حال دون سقوط مؤكد للعاصمة السورية دمشق بين أيدي المجموعات المسلحة، وأن وجود مستشارين إيرانيين والآلاف من عناصر الميليشيات المرتبطة بطهران لم يكن ذا قيمة لولا التدخل الحاسم للقوات الروسية.
واعتبر متابعون للشأن السوري أن الرد القوي للافروف يأتي على خلفية سعي إيران وحزب الله اللبناني لتعطيل مسار أستانة، وخلق عراقيل ميدانية لدفع المعارضة المسلحة إلى مقاطعة اجتماعات التي عقدت في 23 كانون الثاني/ يناير الماضي، والتي ترعاها كل من موسكو وأنقرة، وتهدف إلى فرض وقف إطلاق النار على جميع الفرقاء بما في ذلك القوات السورية، والميليشيات المرتبطة بالنظام الإيراني. وأشار المتابعون إلى أن تصريحات لافروف هدفها تذكيره وحزب الله و بشار الأسد بأنه لو لا روسيا لكان المشهد الآن مختلفا، وأن عليهم أن يعترفوا بالأمر الواقع، وأن يسيروا وراء موسكو في تثبيت الحل القائم.
وكان واضحا من البداية أن النظام الإيراني ليس راضيًا عن اتفاق وقف إطلاق النار الأخير لأن روسيا أخذت الملف بيدها، وأوكلت لنفسها مهمة ضمان بشار الأسد مقابل ضمان تركيا للمجموعات المسلحة المعارضة، وهو أمر لم يعارضه بشكل علني، لكن مراقبين على الأرض يقولون إنها تعمل على إرباك الاتفاق بخرق وقف إطلاق النار على أكثر من جبهة.
من هذا يتضح أن هناك الرؤية الروسية تتناقض مع الرؤية الإيرانية لسورية، فالأولى تنطلق من رؤية لها علاقة مباشرة بمركزية روسيا كقوة دولية, ويمكن تلخيص جوهر هذا المشروع عبر نقطتين:
- لا تعتبر موسكو سوريا بمثابة الركيزة الأساسية للاستراتيجية الروسية العالمية, فموسكو تتعامل مع سوريا كملف من ملفات استراتيجية مهمة مفتوحة بينها وبين الولايات المتحدة ومن خلفها الدول الغربية.
- حاجة روسيا الماسَّة إلى تأكيد دورها كقوة عظمى بإمكانها صناعة السلام وفرضه في منطقة حساسة كالشرق الأوسط.
مقابل ذلك، يتبنى النظام الإيراني مشروعًا يستند في مركزيته على نفوذه كقوة إقليمية يقود محورًا متعددًا من دول وحركات وأحزاب ومنظمات تجتمع تحت شعار المقاومة وعدم الاعتراف بإسرائيل, لهذا فإن نظرته إلى سورية وأزمتها تختلف بالكامل عن النظرة الروسية؛ إذ تبدو أكثر استراتيجية وأقل براغماتية؛ وذلك يعود لأسباب عدة، أهمها:
- خسارة سوريا وخروجها من دائرة المشروع الإيراني لا تعني خسارة حليف فقط بل تعني كسر ظهر المشروع الإيراني في المنطقة كون سوريا بنظامها الحالي تعتبر حلقة الوصل الأكثر أهمية في حلقات المشروع الإيراني. بطبيعة الحال، قد لا يتطابق المفهوم الإيراني لوحدة البلاد وسيادتها، بالضرورة في الحالة السورية مع التعريف السياسي والقانوني الدولي، لأن النظام الإيراني قد لا يمانع في دعم حدود “سورية المفيدة” التي يروّج لها نظام الأسد في حال تعذّرت عليه استعادة السيطرة على كامل أراضي البلاد، لكنه يحبّذ أن يضمّ أوسع ما يمكن من مساحة، تحديداً العاصمة دمشق وحتى مناطق في الجنوب السوري. تتعارض الفكرة الإيرانية مع المفهوم الأضيق، أو ما يُسمّى بـ”الدولة العلوية” التي تقتصر على منطقة الساحل، وربما معها مركز مدينة حمص فقط، والتي قد يحبذها أنصار النظام، كخيار أخير.
- بعكس روسيا فالنظام الإيراني يريد الخروج من سورية كصانع انتصار للمحور الذي تقوده مقابل محور آخر يتكون من بعض الدول العربية وتركيا بالتعاون مع الأميركيين وبعض الدول الغربية.
- وبحسب خبراء استراتيجيون فإن روسيا الإسرائيليين جادّة في منع تحول سورية إلى جيب للنظام الإيراني، لأن “أهداف النظام الإيراني في سورية تختلف عن أهداف روسيا، فبينما تسعى طهران إلى بسط نفوذها في المنطقة، وتقويض الأنظمة في سورية ولبنان والعراق بواسطة دعم فصائل موالية لها، ترغب روسيا في تقوية نظام الأسد على الأرض والتعامل مع الدولة السورية، بهدف التوسع وإيجاد عالم متعدد الأقطاب تؤدي فيه دوراً كبيراً.
أن من يعتقد داخل النظام الإيراني أن التفاؤل بعلاقة أكثر إستراتيجية بين طهران وموسكو مما هي عليه الآن هو تفاؤل مفرط لا يأخذ في الاعتبار محدِّدات المصالح الجيوسياسية والمصالح العليا للدول التي قد تتخذ أشكالًا مختلفة من مرحلة إلى أخرى. هؤلاء يقولون بأن الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والنظام الإيراني في سورية هي شراكة مرحلية بدوافع وأهداف متباينة وأن بقاء الشراكة صامدة لا يعني أن طهران وموسكو باتتا حليفتين استراتيجيتين فذلك طريق طويل يحتاج خلطة خاصة فيها الكثير من الثقة والعوامل التاريخية والتقاطع بعناوين حضارية كبرى؛ فروسيا لا تزال تتعامل مع إيران من باب الهيمنة وفرض التبعية بينما ترفع إيران شعار: لا شرقية ولا غربية. تجاوُز كل هذا يحتاج تغييرات جوهرية لا يبدو البلدان بصدد الحديث عنها فما بالك بتطبيقها عمليًّا على الأرض. وهذا يعني أن الشراكة الايرانية-الروسية في سورية ليس من الضروري أن تكون متطابقة الأهداف.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية