إعادة النظر في التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط

إعادة النظر في التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط

ربما يكون الشعب الأمريكي قد سئم من “الحروب التي لا تنتهي أبداً” في الشرق الأوسط، إلا أن المصالح الحيوية للولايات المتحدة تتطلب استمرار تدخلها العسكري في المنطقة. فاحتياطيات المنطقة الهائلة من النفط والغاز تُعتبر أساسية من الناحية الاقتصادية لشركاء تجاريين رئيسيين، ويكون تجاهل دورها على صعيد الانتشار وكمصدّر للاضطرابات والتطرف العنيف والإرهاب على مسؤولية المرء الشخصية. فمنذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر، تعلمت الولايات المتحدة درساً صعباً مفاده أن ما يحصل في الشرق الأوسط لا يبقى محصوراً فيه.

غير أن الولايات المتحدة لم تتعامل بفعالية كبيرة مع التحديات الأمنية في المنطقة خلال حقبة ما بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر – بدءاً من مكافحة الشبكات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية، أو قمع الحركات المتمردة المقاومة أو التحديات التي تهدد بناء دولة أو أمة. وقد ساهم تدخلها (أو في بعض الأحيان عدم انخراطها) في بروز دول ضعيفة أو متعثرة كما هو الحال في العراق وليبيا وسوريا، في حين أن الإرهاب الذي نشأ في المنطقة أو انبثق منها قد ازداد بشكل كبير منذ 11 أيلول/سبتمبر. على صناع السياسة الأمريكيين إعادة تقييم كيفية تفكير حكومتهم وترتيبها للأمور وتدخلها العسكري في المنطقة، لكي تعزّز المصالح الأمريكية في جزء من العالم لا يزال يكتسي أهمية حيوية بالنسبة لبلادهم.

وهذا يعني تطوير فهم أفضل لثقافة المنطقة وسياستها (أو بيئة العمليات، وفقاً للمصطلح العسكري) ولا سيما كيفية عمل نظام الدولة “غير الويستفالي – حيث غالباً ما تتدخل دول الشرق الأوسط في شؤون بعضها البعض، وتسير مع التيار (بمساعدة قوى خارجية عموماً) بهدف منع الأعداء من دمج نجاحاتهم العسكرية ومنع بروز قوة إقليمية مهيمنة.

وقد فاقمت انتفاضات “الربيع العربي” بين عامي 2010 و2011 هذه الميول فضلاً عن ازدياد عدد الدول الضعيفة والمتعثرة في أعقابها، مما سمح للجماعات الإرهابية على غرار تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة» بالتمركز في مساحات لا تخضع لسيطرة الدولة، وأتاح لدول عربية ناشطة حديثاً مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر (فضلاً عن قوى غير عربية مثل تركيا وإيران وروسيا) التدخل في الصراعات في جميع أنحاء المنطقة. وقد أصبحت الصراعات أكثر تعقيداً وتداخلاً، مما أدى إلى بروز “نظام صراع” إقليمي يمتد من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى جنوب آسيا، تنتقل فيه الأسلحة والمقاتلون الأجانب والتكتيكات والتقنيات، والمحاربون من صراع إلى آخر، ما يؤدي غالباً إلى إذكاء هذه الحروب المدمرة وتكثيف حدّتها وتعقيد الجهود الرامية إلى حل هذه الصراعات.

لهذا السبب، يتعيّن على صناع السياسة الأمريكية التخلي عن إيديولوجية الحل – أي سعي الولايات المتحدة الواهم والجوهري لحل مشاكل الشرق الأوسط – وخفض توقّعاتهم في ما يتعلق بالإنجازات التي قد تحققها التدخلات العسكرية في المنطقة، لا سيما ضد الشبكات الإرهابية والمتمردة الصامدة. ونظراً إلى الزخم الذي يدعم أعمال العنف، لا يمكن حل معظم الصراعات في الشرق الأوسط، بل إدارتها فقط – على الأقل في الوقت الراهن.

ومع ذلك، تعمل هذه الدينامية في كلا الاتجاهين، وتخلق فرصاً للولايات المتحدة لتقويض إنجازات خصومها إذا أرادت ذلك، كما أنه سيكون هناك دائماً أطراف متعثرة تبحث عن رعاة أجانب. ولكن المنطقة ليست ذاتية التنظيم، وسعياً لتحقيق ذلك على الولايات المتحدة التعاون مع شركاء محليين ضد خصومها، كما فعلت ضد الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط خلال السبعينيات، وفي أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.

الإخفاقات الأمريكية

أدى الفهم غير المناسب لبيئة العمليات إلى قيام الولايات المتحدة بخطوات خاطئة وتقديمها أداء دون المستوى المطلوب في عدد من المجالات. فقد أوجدت السياسات الأمريكية تجاه دمشق وطهران تصوراً بأن الولايات المتحدة متحالفة مع إيران وتدعم بقاء بشار الأسد ونظامه بشكلٍ ضمني، الأمر  الذي عاد بالفائدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» من ناحية تجنيد عناصر [جُدد] وأعاق الحملة العسكرية ضده. كما تعرقلت جهود الولايات المتحدة الرامية إلى ردع الأعداء وطمأنة الشركاء بسبب عجز واشنطن عن الحفاظ على مصداقية التزاماتها السابقة (على سبيل المثال، رسم خط أحمر لاستعمال الأسلحة الكيميائية في سوريا عام 2012) والاعتقاد أنها تتخلى بسرعة عن شركائها التقليديين (مثل الرئيس المصري حسني مبارك) وتحتضن الخصوم (مثل إيران، وفي الآونة الأخيرة روسيا أيضاً).

وخلال تقديمها المساعدة للقوات الأمنية، غالباً ما تجاهلت الولايات المتحدة الميول الثقافية لشركائها وحاجاتهم العملياتية خلال سعيهم لإقامة جيوش تكون نسخة مصغرة من القوات الأمريكية المسلحة، في الوقت الذي كانت فيه تلبية نظام المبيعات العسكرية الخارجية لحاجات الحلفاء الملحة بطيئة للغاية، مما دفع بهم إلى التوجه نحو مصادر أخرى مثل روسيا لشراء الأسلحة. كما أنها لم تولِ الاهتمام الكافي للأنشطة الاستخباراتية التي تُعتبر خط العمليات الفاصل لعددٍ كبير من أعدائها وخصومها (على سبيل المثال، تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»، وإيران وروسيا)، وقدمت أداءً سيئاً من ناحية ربط أنشطتها الاستخباراتية بأنشطتها على الساحتين الدبلوماسية والعسكرية. ونتيجةً لذلك، لم تقم الولايات المتحدة بما يكفي لتقويض جاذبية جماعات مثل تنظيم «الدولة الإسلامية»، ونفوذ منافسيها الإستراتيجيين كإيران.

وينطوي هذا التقييم على عدد من التداعيات المترتبة على “أسلوب الحرب” الذي يعتمده الأمريكيون، وعلى كيفية استخدام أمريكا لأداتها العسكرية في الشرق الأوسط، وعلى حربها المستمرة ضد الجماعات السلفية-الجهادية مثل تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة».

نهج جديد

أولاً، يتعين على صناع السياسة التخلي عن نهج تفكيرهم المزدوج بشأن “الحرب والسلام” و”النصر والهزيمة” والصراعات “النظامية وغير النظامية”. ويُعتبر هذا التحول أساسياً لتحقيق نجاح في منطقةٍ غالباً ما تكون فيها الحدود الفاصلة بين هذه العبارات غير واضحة، وحيث من المرجح أن تؤدي الصراعات إلى نتائج غامضة. وعلى وجه الخصوص، على الولايات المتحدة أن تعترف أن حربها ضد الجماعات السلفية-الجهادية ستكون على الأرجح طويلة الأمد. فالعديد من أبرز مناصري هذه الإيديولوجيا هم في سن المراهقة والعشرينات من العمر، وسوف يتواجدون لعقود قادمة. وفي حين أن إلحاق هزيمة عسكرية بجيش تنظيم «الدولة الإسلامية» وتفكيك ما يسمى بدولة الخلافة يعتبران شرطاً ضرورياً لتحقيق النصر، إلا أنهما ليسا كافيين. وبدلاً من ذلك، يجب استنكار إيديولوجية الحركة السفلية-الجهادية العالمية. وتشكّل الهزيمة العسكرية للتنظيمات التي تعمل باسم هذه الإيديولوجيا الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. غير أنه يتعيّن على الولايات المتحدة فهم العملية التي تكسب من خلالها الإيديولوجيات المتطرفة زخمها ومن ثم تفقد في النهاية جاذبيتها، لكي تتمكن من التأثير على هذه العملية بشكلٍ أفضل.

ثانياً، على صناع السياسة التوقف عن السعي إلى التوصل إلى حلول تكتيكية وتكنولوجية (كما تجسدها “استراتيجية التعويض الثالثة” التي أعلنتها وزارة الدفاع الأمريكية) في النزاعات ذات الدوافع السياسية – على غرار الصراع ضد الجماعات السلفية-الجهادية – حيث تكتسي التكنولوجيا، على الرغم من أساسيتها، أهمية أقل من الفطنة السياسية والثقافية والغرائز الجيوسياسية السليمة. إن البراعة التكتيكية الأمريكية ومهاراتها التقنية العالية، بالإضافةً إلى نقل الأسلحة والتأكيدات الشفهية لشركائها وحلفائها، لا يمكنها التعويض عن الأخطاء ذات التأثيرات الإقليمية من حيث المدى والجيوسياسية من حيث الحجم. وعليه، فمن الحكمة إدراك ذلك وتجنّب العثرات الجيوسياسية على غرار تصرّف أمريكا الخاطئ في أعقاب غزوها للعراق عام 2003 والإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي في عام 2011، وانسحابها من العراق بين العاميْن 2011 و2014، الأمر الذي مكّن صعود تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعجزها عن دعم المعارضة غير السلفية في سوريا، مما ساهم في [تنظيم] أكبر حشد للجهاديين في العصر الحديث.

ثالثاً، تحتاج الولايات المتحدة إلى اعتماد نهج “البصمة الخفيفة” القوية بما يكفي للمحافظة على الزخم ضد تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»، وردع إيران ووكلائها، وضمّ شركاء إقليميين، ودعم الدبلوماسية وتعزيزها، على أن تقوم بذلك من دون التسبّب بتفريط غير مستدام بالدم والثروة. ويمكن لمثل هذه المقاربة أن تنجح فقط إذا تصرّفت أمريكا أشبه بما يفعل خصومها – أي العمل “عبر ومع ومن خلال” شركائها ووكلائها المحليين لتحقيق مكاسب تدريجية. ويعني ذلك إضفاء الطابع الرسمي على التعديلات الفردية للطريقة التقليدية التي تخوض بها أمريكا الحرب منذ إطلاق حملتها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا عام 2014. كما يعني إعادة النظر في نهج الولايات المتحدة لمساعدة قوات الأمن ودعم القوات غير النظامية المشاركة في حملات حرب غير تقليدية. وتجدر الملاحظة بأن الولايات المتحدة قد حققت نجاحات ملحوظة سابقاً في كلا المجالين، وعليها تجنب تكرار أخطائها في تدريب “قوات الأمن العراقية” والمعارضة السورية. ومن شأن النهج الذي يعتمد على الشركاء والوكلاء المحليين أن يضمن استدامة التدخل الأمريكي المستمر في المنطقة، وأن الولايات المتحدة تحتفظ بالمرونة الضرورية لتلبية حالات الطوارئ العسكرية في أماكن أخرى من العالم.

رابعاً، إلى المدى الذي يسعى فيه خصوم أمريكا الرئيسيون – الجماعات السلفية-الجهادية السنية على غرار تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة» من جهة، وإيران الشيعية المتطرفة من جهة أخرى – إلى تقويض نظام الدولة العربية، فإن دعم الدول القوية المتبقية في المنطقة (مصر وإسرائيل والأردن وتركيا ودول الخليج) إلى جانب الأطراف المعنية من غير الدول مثل «حزب الاتحاد الديمقراطي» السوري الكردي، يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، حيث أنه بإمكان هذه الجهات الاحتفاظ بالأراضي والحكم بطريقة يقبلها السكان المحليون ومحاربة الجماعات المتطرفة مثل تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة». أما في المناطق التي شهدت فشل الدولة، فعلى الولايات المتحدة العمل من أجل الحدّ من أي انقسامات إضافية وذلك عبر السعي إلى التوصل إلى تسويات سياسية مستدامة بين الجهات الفاعلة المحلية بما يتماشى مع المصالح الأمريكية. غير أن الفوضى التي تعمّ المنطقة في الوقت الراهن ناجمة عن تغييرات جوهرية في ميزان القوى بين الحكومات والمعارضة في أكثر المجتمعات انقساماً في المنطقة، تقودها العولمة والتغير التكنولوجي. وهنا، سوف تحتاج واشنطن إلى تكييف نفسها مع واقع جديد ودائم: إن الانقسام السياسي واللامركزية السائدين في المنطقة اليوم سيكونان “الوضع الطبيعي الجديد” لأجزاء كبيرة من الشرق الأوسط.

خامساً، تكتسي الأنشطة الاستخباراتية أهمية كبرى بالنسبة لتنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»، وإيران وهي تدخل ضمن كافة أنشطتها. وفي المقابل، تواصل الولايات المتحدة تقليص موارد أنشطتها في المجال المعلوماتي. فقد عجزت عموماً عن الاستفادة بشكل فعال من الآثار المميتة لعملياتها العسكرية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بغية استحداث تأثيرات حاسمة وغير فتاكة في المجالين النفسي والمعلوماتي. كما عجزت عن تحدي رواية طهران النووية بشكل فعال خلال المفاوضات التي أدت إلى إبرام اتفاق نووي مع إيران في عام 2015، ومنذ ذلك الحين أيضاً. يجب على الولايات المتحدة أن تخصص حتى قدراً أكبر من الموارد والجهود لرسم معالم الحديث عن الصراع مع الجماعات السلفية -الجهادية مثل تنظيميْ «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»، فضلاً عن منافستها الإستراتيجية مع إيران. وعليها أن تتذكر أن أن للأفعال صدىً أكبر من الأقوال. فالفجوة المتسعة بين الأقوال والأفعال في السياسة الأمريكية (التي تجسدت من خلال دعم واشنطن الضئيل للمتمردين السوريين في حين تدعو إلى رحيل الرئيس الأسد، وتعهدها “بتدمير” تنظيم «الدولة الإسلامية» من خلال حملة عسكرية تفتقر إلى الموارد الكافية، والتعهدات التي لم تتحقق بشأن التصدي لأنشطة إيران الإقليمية بعد إبرام الاتفاق النووي مع طهران) قد قوّضت موقعها بين الأصدقاء والخصوم على السواء. فالولايات المتحدة لا تعاني من مشكلة في الصورة فحسب – بل لديها مشكلة واقعية.

وأخيراً، في حين أن التجربة الأمريكية في العراق وأفغانستان قد تسبّبت باستياء الكثيرين حول فكرة جداول أعمال تهدف إلى تحقيق التحول، إلا أنه لا مفر منها إذا أرادت الولايات المتحدة تحقيق النجاح في الشرق الأوسط، على الرغم من أن هذه المرة من دون أي عمليات احتلال مكلفة وجهود لبناء الدولة. يجب على الولايات المتحدة ألا تغيّر فقط ثقافتها الإستراتيجية لكي تتمكن من التعامل بشكل أفضل مع التحديات العسكرية والحوكمة التي تواجهها في المنطقة، بل عليها العمل مع الشركاء الإقليميين الذين يواجهون مخاطر من أجل تغيير الثقافة السياسية القائمة على مبدأ “تعادل الأرباح والخسائر” و”الفائز يحصل على كل شيء” في الثقافة السياسية التي ولّدت الكثير من النزاعات في المنطقة. ويُعتبر القيام بذلك شرطاً أساسياً لتمكين ظهور سياسات قائمة على التسوية والشمولية والاعتدال (إن لم تكن على الديمقراطية). وفي الواقع قد يكون تحديد كيفية دعم مثل هذه العملية من التغييرات الداخلية – في وقت تتغير فيه الثقافة السياسية الأمريكية الخاصة بطرق محيرة أحياناً – أكثر التحديات صعوبة الذي تواجهه الولايات المتحدة على المدى الطويل في المنطقة.

مايكل آيزنشتات

معهد واشنطن