في سياق الشعور بفشل حلّ الدولتين، أو للتهيئة لحل بديل، كان حل الدولة الواحدة يتكرر منذ مدة. حيث كان يبدو أن هناك من يريد استغلال “الفشل” من أجل طرح حل الدولة الواحدة، لكنها “دولة إسرائيل” ذاتها. بمعنى أن يجري قبول الأمر الواقع، لكن مع الانتقال لخطاب ينطلق من التأكيد على “ديمقراطية الدولة”، بحيث تصبح “إسرائيل” دولة ديمقراطية لكل مواطنيها. والأسس التي يجري التبشير بها لتمرير هذه الصيغة تقوم على التركيز على “الوضع الديموغرافي”، حيث يمكن عبر نشوء أغلبية فلسطينية أن يجري تحويل الدولة، وبالتالي فإن التركيز على الطابع الديمقراطي للدولة الصهيونية التي أصبحت تشمل كل فلسطين وفق هذا المنطق، يهدف إلى تغيير طابع الدولة عبر الانتخابات في ظل وجود “أغلبية” عربية.
هذا تبرير لتمرير فكرة خطرة، كما جرى تبرير حل الدولتين بفكرة وهمية. وهي تعني “تبليع” بقاء السيطرة الصهيونية على أرض فلسطين. فتحت حجة الديمقراطية يجري الإقرار بحدود الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، على أمل أن تجري انتخابات تفضي إلى “هيمنة فلسطينية” عليها. وهو منطق يفرض “تبليع” (أو تمرير) تكريس السيطرة الصهيونية لأن الدولة الصهيونية تعي الخطر الديموغرافي، ولهذا كانت تعمل منذ زمن طويل على صيغة تُخرج سكان الضفة الغربية من بنية “الدولة الواحدة” من خلال فرض حكم ذاتي موسّع للسكان، وهو ما كان مسار “السلام” واتفاقات أوسلو الطريق إليه. وهي كذلك تُخرج قطاع غزة من المعادلة السكانية، لهذا انسحبت منه لتتركه لمصير مجهول. ومن ثم فهي ليست معنية بعودة اللاجئين أصلاً. وبهذا، ومع افتراض نشوء ديمقراطية “حقيقية”، فإن الخيار الديموغرافي لن يوصل إلى ما تطرحه الفكرة الساذجة حول دولة واحدة ديمقراطية هي: إسرائيل.
ومن ثم فإن ما يمكن أن يقود إليه هذا الطرح هو تمرير قبول السيطرة الصهيونية الكاملة على فلسطين. بالتالي فإن الوهم الحالي ليس أفضل من وهم حلّ الدولتين، وربما يكون أكثر خطراً، حيث يسلّم فلسطين كلها للدولة الصهيونية، بعد أن سمح مسار “السلام” بتدمير المقاومة، وإعطاء الزمن الضروري للدولة الصهيونية لكي تقضم الأرض وتوسّع الاستيطان، وترسّخ القناعة بأنه لا حلّ إلا في ظل هذه الدولة.
الأمر لا يتعلق بأوهام، أو باحتمالات ليست مبنية على أسس صحيحة، بل يتعلق بصراع بين أطراف، الدولة الصهيونية فيه تعرف ما تريد، ولقد عملت بهدوء طيلة خمسين سنة لفرض الأمر الواقع. ولا شك في أنها تعرف معنى “الخطر الديموغرافي”، وكيف تؤسس ديمقراطية تحافظ على وجودها. ومن ثم فإن كل ميل لتبرير قبول إسرائيل كدولة واحدة ليس سوى الطريق التي تكرّس الوجود الصهيوني، حتى وإنْ تم ذلك تحت عنوان الديمقراطية والوضع الديموغرافي. بالتالي فإن هذا الخيار هو خيار إكمال المهزلة التي بدأت بحلّ الدولتين عبر مسار “السلام”، الذي يقود الآن إلى دولة واحدة صهيونية، يحاول قادتها تكريس طابعها اليهودي، وبالتالي إبقاء الفلسطينيين هوامش فيها، بحيث يشكلون “أقلية قومية” منبوذة.
هنا يكون الحل هو: إسرائيل، مع أوهام حول التغيير الديمقراطي، لكن في وضع يكون فيه سكان الضفة الغربية ذوي حكم ذاتي خاص، أي خارج الدولة بالمعنى السياسي للدولة. ليكونوا “أجانب” على أرضهم.
مقابل الخيار الديموغرافي يُطرح خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية، أي الدولة القائمة على وجود “قوميتين” فلسطينية (أو عربية) ويهودية. وربما هنا يشار إلى أن هذه الدولة ليست إسرائيل، لكنها ستكون منحكمة للأقوى، أي للنخب الصهيونية، النخب الاقتصادية والسياسية. لكن هل هناك قوميتان أصلاً؟
فالفلسطينيون هم جزء من أمة، أي العرب، رغم التقسيم السياسي الذي فُرض من قبل الدول الاستعمارية، وكان وجود الدولة الصهيونية مرتبط أصلاً بتكريس هذا التقسيم. واليهود ليسوا قومية، حيث أن اليهودية دين وصل إلى مجموعات بشرية من أمم مختلفة، منهم العرب (اليهود الشرقيون)، ومنهم الأوروبيون (الأشكناز). وحين التأصيل القومي لن نجد قوميتين لكي يتحدا ليشكلا دولة واحدة. ولا شك في أن هذا الطرح يأتي في سياق الحل ضمن الدولة الصهيونية وليس كبديل لها، حيث يُطرح كإرضاء للفلسطينيين لكي يقبلوا أن يكونوا ضمن الدولة، وبالتالي يجري التخلي عن المطالبة بدولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي فهو الشكل الآخر للحل القائم على “الوضع الديموغرافي”. أي الحل الذي يكرّس وجود الدولة الصهيونية.
لقد جرى الاعتراف بـ “الوجود النهائي” للدولة الصهيونية من قبل النخب التي اشتغلت على حل الدولتين طويلاً، ولهذا يبدو أن كل حل بديل تطرحه يقوم على أساس هذا الوجود. بمعنى أن الحل يجب أن يبدأ من حقيقة وجود الدولة الصهيونية، لكي تُطرح صيغة ما لوضع الفلسطينيين فيها، طبعاً تحت “عناوين برّاقة”، وشعارات كبيرة.
لا شك في أنْ ليس هناك إلا دولة واحدة على أرض فلسطين، فقد انكشفت كل الأوهام التي اشتغلت على حل الدولتين، لكن ما هي طبيعة هذه الدولة؟ بمعنى هل هي فلسطين أم إسرائيل؟ هذا هو السؤال الجوهري، فالأمر يتعلق ليس بتقاسم فلسطين، وهو الأمر الذي يبدو مستحيلاً، وكان الأمر واضحاً منذ البدء، بل يتعلق في طبيعة الدولة التي ستقام على أرضها. ما هو مطروح تحت عنوان الدولة الواحدة، وفق ما أوضحت للتو، ينطلق من أنها “دولة إسرائيل”، وإنْ أرفق ذلك بأوهام مستقبلية. لكن هل يفضي ذلك إلى حلّ حقيقي لمأساة الشعب الفلسطيني؟
هذا ليس هو الحل لهذه المأساة، لأنه يسلب السيادة ويلغي وجود جزء مهم من الشعب الفلسطيني. لهذا فإن الدولة الواحدة هي فلسطين، ومن ثم يمكن البحث في كل المشكلات التي نتجت عن الاحتلال والاستيطان. ويمكن إيجاد حلول لها.
سلامة كيلة
صحيفة العربي الجديد