يلتقي الأكراد عموما والنظام على قتال تنظيم «الدولة» في المقام الأول، وهو لقاء مصالح مشتركة مرحليا. كما انها قد تكون مصالح متبادلة على المدى البعيد طالما ان الحكومة السورية لا تمانع في إقامة قطاعات إدارة ذاتية للمناطق السورية على أسس الجغرافيا لتخفيف الأعباء عن الدولة المركزية ومنظومة الحكم التي مقرها في العاصمة دمشق.
وسبق للحكومة السورية ان أقرت في آب/أغسطس2011 مرسوما تشريعيا حمل الرقم 107 من بين جملة قرارات وتعديلات على بعض القوانين ومواد الدستور في إطار حملة إصلاح سياسي تلبية لمطالب المحتجين في محاولة لتهدئة الشارع السوري.
ويركز المرسوم التشريعي 107 على اعتماد «الخطة الوطنية اللامركزية» والتي بموجبها يتم اتخاذ «التدابير اللازمة لممارسة اختصاصات الوزارة أو الإدارة أو المؤسسة المركزية التي تم نقل اختصاصاتها إلى الوحدة الإدارية» كالمحافظات وما دونها، وإدارتها من قبل مجلس محلي منتخب ليمارس «عمله وفق أحكام القانون وتطبيق لا مركزية السلطات والمسؤوليات وتركيزها في أيدي فئات الشعب»، وتتمتع الوحدات الإدارية «بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري» ولها «موازنة مستقلة لا تدخل في الموازنة العامة للدولة».
لذلك ليس ثمة بون شاسع بين رؤيتي الأكراد والنظام لمستقبل إدارة البلاد وشكل نظام الحكم ببقاء نظام بشار الأسد في المرحلة الانتقالية أو المرحلة التي تليها وفقا لأي تسوية أممية للحرب الأهلية السورية.
ويعد تطبيق مبدأ لا مركزية إدارة المناطق من الأسس المقبولة لدى الحكومة السورية والمعارضة السياسية، وقد أدرجته روسيا في مشروع الدستور المقترح الذي كتبته وعرضته على المعارضة في مفاوضات الاستانة لتثبيت وقف إطلاق النار. كما ان لا مركزية إدارة المناطق لا تخرج عن تطلعات القوى الكردية التي تطمح لإدارة مناطق الكثافة الكردية في الشمال السوري بأسلوب الإدارة الذاتية اللامركزية، وهو شكل من اشكال أنظمة الحكم يعتمده الأكراد مُنذ نحو أربع سنوات في إدارة مناطق سيطرتهم في الكانتونات (المقاطعات) الثلاث التي أعلنوا عنها في الحسكة (كانتون الجزيرة) وعين العرب (كانتون كوباني) وفي عفرين أقصى شمال غربي سوريا (كانتون عفرين).
حتى الآن لا تبدو القوى الكردية في سوريا عازمة على إقامة كيان سياسي كردي منفصل عن سوريا، وقد يكون هذا من بين عوامل عدة ساهمت في تجنب قوات النظام الاشتباك الواسع أو الدخول في صراع مسلح مع القوات الكردية، كما ان النظام السوري حاول مُنذ الأشهر الأولى للثورة السورية إعطاء الأكراد مساحة من السلطة في مناطق الشمال السوري كامتياز يدفعهم بعيدا عن التحالف مع المعارضة المسلحة التي لا ترضى بسلطة أو نفوذ للقوات الكردية على مناطق ذات كثافة عربية خضعت لسيطرة الأكراد بالتنسيق مع النظام في محاولة لتحقيق أهداف أخرى من بينها الضغط على تركيا وتهديد أمنها القومي على حدودها الجنوبية من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل القوات التركية مُنذ عام 1984.
مُنذ أواخر عام 2011 وشتاء عام 2012 انسحبت قوات النظام من مناطق شمال وشمال شرقي سوريا إلى المناطق الحيوية والمدن المحورية ذات الصلة ببقاء النظام ووجوده وضمان المصالح الروسية وتأمين مناطق النفوذ الإيراني وصولا إلى الحدود اللبنانية والساحل السوري؛ وظل النظام بعيدا عن الاعتراض على سيطرة القوات الكردية على مساحات أخرى خارج نطاق المناطق الحيوية له.
لم يعترض النظام السوري على سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة منبج في آب/أغسطس 2016، لكن قواته قامت بعمليات عسكرية شرقي مدينة الباب شمال حلب لقطع الطريق على قوات درع الفرات الحليفة لتركيا لمنعها من الوصول إلى منبج التي استقدم الأكراد قوات أمريكية خاصة سيرت دوريات مشتركة على طول الطريق المؤدي إلى مدينة الباب.
وأثار صول القوات الأمريكية إلى مناطق في جوار منبج حفيظة تركيا لكن هذه القوات لقيت ترحيبا ضمنيا من قوات النظام التي وصلت بالفعل بعض قطعاتها إلى المدينة ورفعت قوات سوريا الديمقراطية العلم السوري في المدينة مع تواجد لعدد من الاليات الروسية وافراد من القوات الخاصة الروسية.
ومنذ الإعلان عن المرحلة الخامسة والأخيرة من معركة استعادة الرقة، واصلت قوات النظام تقدمها في ريف حلب الشرقي وصولا إلى الحدود الإدارية لمحافظة الرقة بعد سيطرتها على المزيد من الأراضي والبلدات الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة».
ونقلت مواقع موالية لقوات النظام ان هذه القوات حققت تقدما ميدانيا في ريف الرقة الغربي على حساب مناطق سيطرة تنظيم «الدولة» جنوب بلدة مسكنة في الجغرافية المحصورة بين بلدة اثريا ومدينة الطبقة غرب الرقة بإسناد من حزب الله اللبناني لقطع طرق وصول التنظيم إلى خط الامداد الرئيسي لقوات النظام إلى مدينة حلب عبر طريق خناصر الاستراتيجي.
سيكون لتواجد قوات النظام في مناطق قريبة من مدينتي الطبقة والرقة فرصة لاستعادة السيطرة على المدينتين في مراحل لاحقة في حال اندلاع صراع عربي كردي في اعقاب انتهاء القتال مع تنظيم «الدولة» وخسارته المدينة التي لا يمكن ان يقبل العرب بإدارتها مستقبلا من قبل قوى لا تنتمي إلى سكانها الأصليين أو من قبل قوى عربية منضوية تحت قيادة القوات الكردية وموالية لها في استنساخ لتجربة المجلس العسكري لمدينة منبج الذي يتكون من قيادات عربية، لكنها لا تزال تفتقر إلى الاستقلالية في قرارها الخاضع تماما لقوات سوريا الديمقراطية.
وكثيرا ما أعلنت الحكومة السورية أن الرقة واستعادتها تعد أولوية قصوى من أولويات قوات النظام من منطلق استراتيجيتها في استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية وقد حققت نجاحات واضحة سواء عن طريق المعارك العسكرية الكبرى مثل معركة حلب نهاية عام 2016 أو سلسلة طويلة من الهدن والاتفاقات والمصالحات المناطقية في ريف دمشق ومحافظات أخرى؛ لكن قوات النظام لم تتخذ خطوات عملية جادة لاستعادة مدينة الرقة لتداخل ساحات صراعها مع أطراف أخرى بعضها اطراف كردية تميزت علاقاتهما طيلة سنوات بعدم التنسيق المباشر في العمليات القتالية وفي الوقت نفسه عدم الصدام المسلح إلا في حالات اشتباك قليلة ومحدودة يتم تطويقها بشكل عاجل باتفاقات ثنائية.
سيكون من مصلحة قوات النظام سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الرقة وتسليمها إلى مجلس عسكري محلي يتشكل من قيادات عربية في الظاهر حتى وان كان في حقيقته تابعا لقوات سوريا الديمقراطية التي لا توجد مؤشرات تؤكد على تمسكهم بالسيطرة على محافظة الرقة لأمد بعيد انما تندرج في إطار تحالف مرحلي مع الولايات المتحدة لاستدراج المساعدات العسكرية وضمان فرض السيطرة على المناطق الحيوية التي يمثل الأكراد غالبية سكانها في شمال وشمال شرقي سوريا، حيث تدرك القيادات الكردية ان تحالفها مع الولايات المتحدة تحالف ضمن مدى زمني محدد بالانتهاء من قتال تنظيم «الدولة» لتعود الولايات المتحدة إلى تحالفها العميق مع تركيا الشريك في حلف شمال الأطلسي والتي تستضيف قاعدة أنجرليك على أراضيها.
وتثير سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الرقة مخاوف كل من تركيا والفصائل الحليفة لها والمعارضة السورية وأطراف أخرى ليس من بينها النظام السوري الذي لا يجد ما يكفي من الأسباب على المدى البعيد تجعله يعارض أو يتصدى لسيطرة الأكراد على المدينة التي يشكل العرب معظم سكانها فيما يعيش قلة من الأكراد في الأحياء الشمالية من المدينة، وهي أحياء عشوائية خارج مركز المدينة.
القدس العربي