تقول دار “فيرسو” العالمية للنشر عن كتاب إيلان بابي الجديد “عشر خرافات عن إسرائيل” Ten Myths About Israel الذي صدر عنها مؤخراً في نيسان (أبريل) 2017:
“في هذا الكتاب الرائد، الذي نشر في الذكرى السنوية الخمسين للاحتلال، يدرس المؤرخ الإسرائيلي الصريح إيلان بابي الأفكار الأكثر جدلية فيما يتعلق بأصول وهوية دولة إسرائيل المعاصرة”.
“تعمل ‘الخرافات العشر’ التي يستكشفها بابي -التي تتكرر بلا نهاية في وسائل الإعلام، والتي فرضها الجيش، وتقبلها حكومات العالم بلا مساءلة ولا استنطاق- على تعزيز الوضع الراهن الإقليمي. وفي سياق رحلته، يستكشف بابي الادعاء بأن فلسطين كانت أرضاً فارغة في وقت إعلان بلفور، بالإضافة إلى مسألة تشكيل الصهيونية ودورها في العقود الأولى لبناء الدولة. ويطرح بابي السؤال عما إذا كان الفلسطينيون قد تركوا وطنهم طوعاً في العام 1948، وما إذا كانت حرب حزيران (يونيو) 1967 حرب “عدم اختيار” حقاً. وبالتحول إلى عرض الخرافات المحيطة بفشل اتفاقات كامب ديفيد، والأسباب الرسمية للهجمات التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، يشرح بابي كيف أن حل الدولتين لم يعد قابلا للتطبيق الآن”.
فيما يلي، تنشر “الغد” في جزأين ترجمة أحد فصول الكتاب، والذي يفكك فيه الكاتب خرافة وصف إسرائيل بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
في نظر العديد من الإسرائيليين وأنصارهم في جميع أنحاء العالم -وحتى في نظر أولئك الذين ربما ينتقدون بعضاً من سياساتها- تشكل إسرائيل في نهاية اليوم دولة ديمقراطية حميدة، تسعى إلى تحقيق السلام مع جيرانها، وتضمن المساواة لكل مواطنيها.
أما أولئك الذين ينتقدون إسرائيل، فيفترضون أنه إذا ما حدث شيء خطأً في هذه الديمقراطية، فإنه يعزى إلى حرب العام 1967. وحسب منطلقات هذا الرأي، فإن تلك الحرب أفسدت المجتمع الإسرائيلي النزيه المُجدّ في العمل قبلها، لأنها وفرت المال السهل من المناطق المحتلة، وهو ما سمح للجماعات المشيخانية بدخول معترك السياسة الإسرائيلية، وحول إسرائيل، فوق كل شيء آخر، إلى كيان احتلالي وقمعي في الأراضي الجديدة.
هذه الخرافة التي تتحدث عن إسرائيل ديمقراطية وقعت في المشاكل في العام 1967، لكنها ظلت مع ذلك ديمقراطية، ما يزال يروجها حتى بعض المفكرين الفلسطينيين وأنصار الفلسطينيين -لكنها لا تقوم في الحقيقة على أي أساس تاريخي.
إسرائيل قبل العام 1967
لم تكن ديمقراطية
قبل العام 1967، لم يكن من الممكن قطعاً تصوير إسرائيل كديمقراطية. فكما رأينا في الفصل السابق، أخضعت الدولة خُمس مواطنيها للحكم العسكري القائم على أنظمة الطوارئ الصارمة التي فرضها الانتداب البريطاني السابق، والتي حرمت الفلسطينيين من أي حقوق إنسانية أو مدنية أساسية.
كان الحكام العسكريون المحليون حُكاماً مطلقين على حياة هؤلاء المواطنين: كانوا يستطيعون سن القوانين الخاصة لهم، وتدمير بيوتهم وسبل عيشهم، وإرسالهم إلى السجن متى أرادوا. ولم يكن حتى أواخر الخمسينيات فقط حين ظهرت معارضة يهودية لتلك الانتهاكات، والتي تمكنت في نهاية المطاف من تخفيف بعض الضغط عن المواطنين الفلسطينيين.
بالنسبة للفلسطينيين الذين عاشوا في إسرائيل في فترة ما قبل الحرب وأولئك الذين عاشوا فيها في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بعد العام 1967، سمح هذا النظام حتى لأدنى الجنود رتبة في جيش الدفاع الإسرائيلي بأن يحكم ويدمر حياتهم. وكانوا يقفون عاجزين إذا ما قرر هذا الجندي، أو آمر وحدته، أن يهدم بيوتهم، أو يوقفهم ساعات عند نقطة تفتيش، أو يسجنهم من دون محاكمة. ولم يكن هناك أي شيء يستطيعون فعله.
في كل دقيقة منذ العام 1948 وحتى الآن، كانت مجموعة ما من الفلسطينيين تخضع لمثل هذه الخبرة.
كان المجموعة الأولى التي عانت مثل هذا النير، هي الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل. وبدأ ذلك في السنتين الأوليين من قيام الدولة، عندما تم دفعهم إلى الإقامة في غيتوهات، مثل إسكان المجتمع الفلسطيني الحيفاوي على جبل الكرمل، أو طردهم من البلدات التي كانوا يقطنونها على مدى عقود، مثل صفد. وفي حالة أسدود، تم طرد جميع السكان إلى قطاع غزة.
في الريف، كان الوضع أسوأ. فقد طمعت حركات الكيبوتس المختلفة بالقرى الفلسطينية من أجل الاستيلاء على الأرض الخصبة. وشمل ذلك الكيبوتس الاشتراكي، هشومير هاتزير، الذي يُزعم أنه كان ملتزماً بفكرة التضامن ثنائي القومية.
بعد وقت طويل من انتهاء قتال العام 1948، تم خداع القرويين في كل من قرى الغابسية، إقرت، بيريم، قديتا، والزيتون وغيرها الكثير، وإقناعهم بمغادرة ديارهم لفترة أسبوعين فقط؛ حيث زعم الجيش أنه يحتاج الأراضي للتدريب، فقط ليكتشفوا لدى عودتهم أن قراهم مُسحت عن وجه الأرض أو سُلمت لأناس آخرين.
تجسد هذا الوضع الموسوم بالإرهاب العسكري بوضوح كامل في مذبحة كفر قاسم التي ارتُكبت في تشرين الثاني (أكتوبر) من العام 1956، عندما قام الجيش الإسرائيلي عشية عملية سيناء بقتل 49 فلسطينياً من سكان القرية. وزعمت السلطات أنهم كانوا متأخرين في العودة إلى بيوتهم من العمل في الحقول، أثناء حظر للتجول كان مفروضاً على القرية. لكن ذلك لم يكن السبب الحقيقي.
تُظهر الأدلة اللاحقة أن إسرائيل فكرت جدياً في طرد الفلسطينيين من كل المنطقة التي تسمى وادي عارة والمثلث، التي كانت القرية تقع فيها. وتم ضم هاتين المنطقتين -الأولى وادٍ يصل العفولة في الشرق بالخضيرة على ساحل البحر المتوسط؛ والثانية تمتد إلى التخوم الشرقية النائية من القدس- إلى إسرائيل بموجب شروط اتفاق الهدنة مع الأردن في العام 1949.
كما رأينا، كانت الأراضي الإضافية موضع ترحيب دائم لدى إسرائيل، لكن الزيادة في السكان الفلسطينيين لم تكن كذلك. ولذلك، عند كل منعطف توسعت فيه دولة إسرائيل، فإنها كانت تبحث عن سبل للحد من وجود السكان الفلسطينيين في المناطق التي قامت بضمها حديثاً.
كانت عملية “هارافيرت” (الخُلد) هي الاسم الرمزي الذي أُطلِق على مجموعة من الاقتراحات لطرد الفلسطينيين عندما تندلع حرب جديدة مع العالم العربي. ويعتقد الكثيرون من المفكرين اليوم بأن مذبحة العام 1956 كانت تمريناً أجري لرؤية ما إذا كان بالوسع تخويف الناس في المنطقة لدفعهم إلى الرحيل.
فيما بعد، تم جلب مرتكبي المجزرة إلى المحكمة بفضل اجتهاد ومثابرة عضوين في الكنيست: توفيق طوبي من الحزب الشيوعي، ولطيف دوري من الحزب الصهيوني اليساري، مابام. ومع ذلك، فإن القادة المسؤولين عن المنطقة، والوحدة نفسها التي ارتكبت الجريمة، تُركوا مطلقي السراح بهدوء، وتلقوا مجرد غرامات صغيرة فقط. وقد شكل ذلك دليلاً إضافياً على أنه كان مسموحاً للجيش بالإفلات بلا عقاب بجرائم القتل التي يرتكبها في الأراضي المحتلة.
في حقيقة الأمر، لا تعرض القسوة المنهجية التي انتهجتها إسرائيل وجهها فقط في حدث رئيسي مثل ارتكاب مذبحة؛ وإنما يمكن العثور على أسوأ الفظاعات أيضاً في الحضور اليومي الدنيوي للنظام.
ما يزال الفلسطينيون في إسرائيل لا يتحدثون كثيراً عن فترة ما قبل العام 1967، ولا تكشف الوثائق المتبقية من ذلك الوقت عن الصورة الكاملة. ولعل من المدهش أن يكون الشعر هو المكان الذي يمكن أن نعثر فيه على ذكر لما كانت عليه الحياة في ظل الحكم العسكري.
كان ناتان ألترمان من أكثر شعراء جيله أهمية وشهرة. وكان يكتب عموداً أسبوعياً، يدعى “العمود السابع”، يعلق فيه على الأحداث التي يقرأ أو يسمع عنها. وفي بعض الأحيان كان يحذف التفاصيل المتعلقة بتاريخ الحدث أو موقعه، لكنه كان يعطي القارئ ما يكفي من المعلومات ليفهم ما يشير إليه. وقد عبر في كثير من الأحيان عن هجماته على النظام في شكل شعري:
“ظهرت الأخبار فترة وجيزة ليومين، واختفت. لا يبدو أن أحداً يهتم، ولا يبدو أن أحداً يعرف. في قرية أم الفحم البعيدة،
كان أطفال -هل يجب أن أقول مواطني الدولة؟- يلعبون في الوحل وبدا أحدهم مشتبهاً به لواحد من جنودنا الشجعان، الذي صرخ فيه: قف!
الأمر أمر
الأمر أمر، لكن الولد الغبي لم يقف. هرب مبتعداً
وأطلق جنودنا الشجعان النار -ولا عجب- وقتلوا الصبي.
ولم يتحدث أحد عن ذلك”.
وفي إحدى المناسبات، كتب ألترمان قصيدة عن اثنين من المواطنين الفلسطينيين أطلقت عليهما النار في وادي عارة. وفي مناسبة أخرى، روى قصة امرأة فلسطينية مريضة جداً، طردتها السلطات مع ولديها بعمر ثلاث وست سنوات، من دون تفسير، وقامت بإرسالهم عبر نهر الأردن. وعندما حاولت العودة، تم اعتقالها هي وطفليها ووضعوا في سجن الناصرة.
كان ألترمان يأمل في أن تحرك قصيدته عن الأم القلوب والعقول، أو أن تستدرج على الأقل بعض ردود الفعل الرسمية. ومع ذلك، كتب بعد أسبوع لاحقاً:
“والكاتب افترض، خطأ
أن القصة إما ستُنفى أو تفسَّر. وإنما لا شيء، لا كلمة”.
وهناك أدلة أخرى على أن إسرائيل لم تكن ديمقراطية قبل 1967. فقط انتهج البلد سياسة “أطلق النار بقصد القتل” تجاه اللاجئين الذين يحاولون استرداد أراضيهم ومحاصيلهم ومواشيهم، وشنت إسرائيل حرباً استعمارية لإسقاط نظام عبد الناصر في مصر. كما كانت قواتها الأمنية أيضاً سعيدة بضغط الزناد، فقتلت أكثر من 50 مواطناً فلسطينياً خلال الفترة ما بين العامين 1948 و1967.
إخضاع الأقليات في إسرائيل
ليس ديمقراطياً
إن اختبار أي ديمقراطية هو مستوى التسامح الذي ترغب في التعامل به تجاه الأقليات التي تعيش فيها. وفي هذا الصدد، تفشل إسرائيل في أن تكون ديمقراطية حقيقية.
على سبيل المثال، بعد المكاسب الجديدة في الأراضي، تم إقرار العديد من القوانين التي تكفل موقفاً متفوقاً للأغلبية اليهودية: القوانين التي تحكم المواطنين؛ والقوانين المتعلقة بملكية الأرض؛ والأهم من كل شيء، قوانين العودة.
يمنح قانون العودة الإسرائيلي حق المواطنة التلقائية لكل يهودي في العالم، بغض النظر عن المكان الذي يولد/تولد فيه. وهذا القانون على وجه الخصوص غير ديمقراطي بشكل صارخ، لأنه جاء مصحوباً برفض كامل لحق الفلسطينيين في العودة -المعترف به دولياً بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 للعام 1948. ويرفض هذا القانون السماح للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل بلم الشمل مع أفراد عائلاتهم المباشرين أو مع أولئك الذين طُردوا من البلاد في العام 1948.
ويشكل حرمان الناس من حق العودة إلى وطنهم، وفي الوقت نفسه منح هذا الحق لآخرين ممن ليست لهم أي صلة بالأرض، نموذجاً مثالياً للممارسة غير الديمقراطية.
يضاف إلى ذلك طبقات أخرى من حرمان الشعب الفلسطيني من الحقوق. ويجري تبرير كل تمييز يُمارس ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل تقريباً بذريعة أنهم لا يخدمون في الجيش. ويمكن فهم الربط بين الحقوق الديمقراطية والواجبات العسكرية بشكل أفضل إذا ما عدنا فنظرنا إلى السنوات التكوينية التي كان صناع السياسة الإسرائيليون يحاولون خلالها التوصل إلى قرار حول الكيفيات التي يجب أن يُعامل بها السكان الأصليون.
كان افتراضهم يقوم على أن المواطنين الفلسطينيين لا يريدون الانضمام إلى الجيش على أي حال، وأن هذا الرفض بدوره يبرر انتهاج السياسات التمييزية ضدهم. وقد وُضعت هذه الفرضية قيد الاختبار في العام 1954 عندما قررت وزارة الدفاع الإسرائيلية أن تستدعي أولئك المواطنين الفلسطينيين المؤهلين للتجنيد ليخدموا في الجيش. وأكدت الأجهزة السرية للحكومة أنه سيكون هناك رفض واسع النطاق لذلك الاستدعاء.
ولكن، ولمفاجأتهم الكبيرة، ذهب كل الذين تم استدعاؤهم إلى مكاتب التجنيد، بمباركة من الحزب الشيوعي، أكبر وأهم قوة سياسية في المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت. وفسرت الأجهزة السرية فيما بعد أن السبب الرئيسي وراء الاستجابة كان ملل المراهقين من حياتهم في الريف، ورغبتهم في ممارسة بعض الإثارة والمغامرة.
على الرغم من هذه الحادثة، واصلت وزارة الدفاع ترويج سرد يصور المجتمع الفلسطيني على أنه غير راغب بالخدمة في الجيش.
ولكن، بشكل حتمي، انقلب الفلسطينيون مع الوقت في الحقيقة ضد الجيش الإسرائيلي، الذي أصبح مضطهدهم الدائم، لكن استغلال الحكومة ذلك كذريعة لممارسة التمييز يلقي بظلال كبيرة من الشك على ادعاءات الدولة بأنها ديمقراطية.
إنك إذا كنتَ مواطناً فلسطينياً ولم تخدم في الجيش، فإن حقوقك في مساعدات الحكومة، كعامل، طالب، أحد الوالدين، أو كواحد من زوجين، تكون مقيدة بشدة. ويؤثر ذلك على مسألة الإسكان بشكل خاص، وكذلك على التوظيف –حيث تعتبر 70 في المائة من كامل الصناعة الإسرائيلية قطاعات حساسة أمنياً، وتكون بذلك مغلقة أمام هؤلاء المواطنين كمكان يمكن العثور فيه على عمل.
لم يكن الافتراض الأساسي لوزارة الدفاع هو أن الفلسطينيين لا يرغبون في الخدمة في الجيش فحسب، وإنما افترضت أنهم ربما يكونون عدواً من الداخل ولا تمكن الثقة بهم. والمشكلة في هذه الأطروحة الآن هي أن الأقلية العربية لم تتصرف في كل الحروب الرئيسية التي نشبت بين إسرائيل والعالم العربي كما كان متوقعاً. إنهم لم يشكلوا طابوراً خامساً ولم ينتفضوا ضد النظام.
لكن هذا لم يساعدهم مع ذلك: فحتى هذا اليوم، يُنظر إلى المواطنين الفلسطينيين على أنهم مشكلة “ديمغرافية” ينبغي التعامل معها. ولعل العزاء الوحيد هو أن معظم الساسة الإسرائيليين اليوم لا يعتقدون أن الطريقة لحل “المشكلة” هي ترحيل الفلسطينيين أو طردهم (على الأقل ليس في زمن السلم).
سياسة الأراضي الإسرائيلية
ليست ديمقراطية
سوف يكون ادعاء إسرائيل أنها ديمقراطية موضع شك أيضاً عندما ينظر المرء في سياسة الميزانية المتعلقة بمسألة الأراضي. فمنذ العام 1948، تلقت المجالس المحلية والبلديات الفلسطينية تمويلاً أقل بكثير من نظيراتها اليهودية. ويؤدي نقص الأراضي، إلى جانب ندرة فرص العمل، إلى خلق واقع اجتماعي واقتصادي غير طبيعي للسكان الفلسطينيين.
على سبيل المثال، ما يزال حال واحد من أكثر المجتمعات الفلسطينية ثراءً، قرية معليّا في الجليل الأعلى، أسوأ بما لا يقاس من أفقر قرية يهودية نامية في صحراء النقب. وفي العام 2011، ذكرت صحيفة “جيروسالم بوست” في تقرير لها أن “متوسط دخل اليهود كان أعلى بنسبة 40 إلى 60 في المائة من معدل دخل العرب في السنوات ما بين 1997 و2009″.
اليوم، يملك الصندوق الوطني اليهودي أكثر من 90 في المائة من الأراضي. ولا يُسمح لمالكي الأراضي الآخرين بالدخول في أي معاملات مع المواطنين من غير اليهود، وتعطى الأولوية في استخدام الأراضي العامة للمشاريع الوطنية، وهو ما يعني أن المستوطنات اليهودية الجديدة تُبنى بينما هناك بالكاد أي مستوطنات فلسطينية جديدة. وبذلك، لم تتوسع أكبر مدينة فلسطينية، الناصرة، كيلومتراً مربعاً واحداً على الرغم من تضاعف عدد سكانها ثلاث مرات منذ العام 1948، في حين تطورت البلدة التي بنيت أعلاها، الناصرة العليا، وتضاعفت ثلاث مرات في الحجم، على أراض صودرت من أصحابها الفلسطينيين.
يمكن العثور على مزيد من الأمثلة على آثار هذه السياسة في كل القرى الفلسطينية في جميع أنحاء الجليل، والتي تحكي الحكاية نفسها: كيف تم تقليص حجمها بنسبة 40، وحتى 60 في المائة في بعض الأحيان منذ العام 1948، وكيف بُنيت المستوطنات اليهودية الجديدة على الأراضي الفلسطينية المصادرة.
في أماكن أخرى، شكل ذلك الأساس لمحاولات كاملة للـ”التهويد”. فبعد العام 1967، أصبحت الحكومة الإسرائيلية قلِقةً إزاء نقص عدد اليهود الذي يسكنون في جنوب وشمال الدولة، ولذلك خططت لزيادة أعداد السكان في هذه المناطق. وقد تطلب هذا التغيير الديموغرافي مصادرة الأراضي الفلسطينية من أجل بناء المستوطنات اليهودية.
لكن الأسوأ من ذلك كان استبعاد المواطنين الفلسطينيين من تلك المستوطنات. وما يزال هذا الانتهاك الصارخ لحق المواطن في العيش حيث يريد متواصلاً حتى اليوم، وقد انتهى المطاف بالجهود كافة التي تبذلها المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان للطعن في هذا الفصل العنصري حتى الآن إلى الفشل المطلق.
من جهتها، لم تتمكن المحكمة العليا في إسرائيل من التشكيك في شرعية هذه السياسة سوى في عدد قليل من الحالات الفردية، وإنما ليس في المبدأ. ولك أن تتخيل لو أن المواطنين اليهود في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، أو الكاثوليك إذا كان ذلك يهم، مُنعوا بموجب القانون من العيش في قرى أو أحياء معينة، أو ربما مدنٍ بكاملها؟ كيف يمكن التوفيق بين مثل هذا الوضع وبين فكرة الديمقراطية؟ (يُتبَع)
ايلان بابي
صحيفة الغد