التعايش مع الأزمات: هل تتجه واشنطن إلى تغيير سياستها في الشرق الأوسط؟

التعايش مع الأزمات: هل تتجه واشنطن إلى تغيير سياستها في الشرق الأوسط؟

3330

يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى إجراء تغيير في سياستها الخارجية باتجاه التعايش مع أزمات الإقليم، لا سيما في ظل تشابك المشهد الإقليمي وتداخله وبروز تهديدات عابرة للحدود فضلا عن التغير في أنماط التنظيمات الإرهابية وارتفاع كلفة الأدوات التقليدية على غرار الخيار العسكري. وبدون شك، فإن هذا التوجه الجديد ربما يساهم في إنهاء إرث التدخلات العسكرية الأمريكية في المنطقة، والسماح بأدوار محددة لقوى إقليمية أو دولية أخرى، دون المساس بنفوذها في المنطقة.

مؤشرات متعددة:

ثمة مؤشرات عديدة تكشف عن اتجاه واشنطن نحو التعايش مع أزمات المنطقة. فمن ناحية، تتجه واشنطن نحو قبول التعايش مع إيران كقوة نووية، رغم المخاوف التي تنتاب حلفائها في المنطقة، على غرار إسرائيل، وهو ما يبدو جليًا في التفاهمات الأخيرة التي تم التوصل إليها بين إيران ومجموعة “5+1” في 2 أبريل 2015، والتي تشير إلى أن واشنطن باتت مدركة أنها لن تستطيع منع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، بعد أن حققت الأخيرة تقدمًا ملحوظًا في هذا السياق خلال الأعوام الأخيرة، وأن الخيار الوحيد المتاح أمامها هو تقييد قدرات إيران النووية ومحاولة منعها من الوصول لامتلاك القنبلة النووية.

وقد سعت إدارة أوباما إلى مواجهة الانتقادات التي وجهت إليها من جانب الكونجرس وإسرائيل، بالتأكيد على أن انخراطها مع إيران في مفاوضات شاقة منذ أكثر من عام ونصف بهدف تقييد قدراتها النووية هو أفضل خيار متاح، لا سيما أن الخيارات الأخرى تبدو تكلفتها عالية ولن تحقق النتائج نفسها، في إشارة إلى الخيار العسكري والعقوبات.

ومن ناحية ثانية، يبدو أن هناك قبولا أمريكيًا لبقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما يعكسه تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الذي أشار فيه إلى أن “واشنطن ربما تكون مضطرة للتفاوض مع الأسد”، وهو ما أثار جدلا واسعًا حيال الموقف الأمريكي من الأزمة السورية، دفع واشنطن، مرة أخرى، لتأكيد عدم شرعية بقاء الأسد في الحكم. وقد أشار الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى هذا التوجه حينما تساءل، خلال مقابلة مع الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في 6 أبريل 2015، عن “أسباب عدم تدخل الدول العربية بنفسها ضد ما يفعله نظام الأسد”.

وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن تغير الموقف الأمريكي، نسبيًا، تجاه الأسد، يعود إلى مجموعة من الأسباب، منها منح الأولوية للحرب ضد تنظيم “داعش”، واستمرار المفاوضات مع إيران حول الملف النووي، والتي أحرزت تقدمًا نسبيًا مع الوصول لتفاهمات أولية بين إيران ومجموعة “5+1” في 2 أبريل 2015، إلى جانب نجاح نظام الأسد، بمساعدة حلفائه الإقليميين والدوليين، في مواجهة الضغوط التي تعرض لها في الأعوام الأربعة الماضية.

ورغم إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن خطته لمواجهة تنظيم “داعش” منذ سبتمبر 2014، إلا أن الحرب التي شنها التحالف الدولي ضد التنظيم لم تنجح حتى الآن في تحقيق أهدافها الرئيسية وفي مقدمتها القضاء على التنظيم، لا سيما أنها ما زالت معتمدة على الضربات الجوية، بشكل أضعف التنظيم لكنه لم يؤد إلى إنهاء قدرته على تشكيل تهديد للولايات المتحدة الأمريكية ودول المنطقة، وهو ما يعني أن المواجهة مع التنظيم سوف تستغرق وقتًا ليس قصيرًا، خاصة في ظل اعتماد واشنطن على الوكلاء المحليين في تحرير الأراضي العراقية، على غرار قوات الحشد الشعبي وميلييشيا البيشمركة والقوات العراقية.

فضلا عن ذلك، يبدو أن ثمة اتجاهًا بدأ يظهر داخل واشنطن يدعو إلى التعايش مع “حزب الله” اللبناني، الذي تحول إلى رقم مهم في الصراع داخل سوريا، بسبب دعمه الواضح لقوات نظام الأسد، بالتنسيق مع إيران، وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسية التي مكنت الأسد من البقاء في السلطة رغم كل الضغوط التي واجهها في الفترة الماضية.

ثلاثة دلالات: 

يطرح اتجاه واشنطن للتعايش مع أزمات المنطقة دلالات عدة: أولها، أنه يشير إلى اختلاف واضح في رؤية واشنطن والعديد من القوى الرئيسية في المنطقة للأسباب الرئيسية التي أدت إلى تصاعد حدة عدم الاستقرار في المنطقة خلال الفترة الماضية. وثانيها، أنه يكشف عن الإنهاك الشديد الذي تعرضت له واشنطن بسبب حربي أفغانستان والعراق، بشكل جعلها تعزف عن التورط مجددًا في التدخل بريًا ضد تنظيم “داعش”، بسبب تكلفته الباهظة، بما يعني أنها سوف تظل منخرطة في تفاعلات المنطقة ولكن بأدوات جديدة أكثر دبلوماسية دون أن تضطر إلي اللجوء للتدخل البري على غرار الحروب السابقة التي خاضتها في المنطقة، إلا في حالة تعرض مصالحها لخطر داهم.

وثالثها، أنه يؤشر إلى دخول واشنطن عهدًا جديدًا من التسويات حتى مع دول خارج المنطقة مثل كوبا، وهو ما بدا جليًا في اللقاء الذي جمع الرئيسين الأمريكي باراك أوباما والكوبي راؤول كاسترو على هامش قمة الأمريكتين التي عقدت في بنما في 10 أبريل 2015.

ورغم أن ذلك يعكس إدراكًا من جانب واشنطن للتحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والعالم، والتي بدأت تنعكس في الأنماط غير التقليدية للتحالفات الإقليمية، إلا أن ذلك لا يعني أنها باتت خارج الاصطفافات الإقليمية في المنطقة، خاصة في ظل حرصها على الاحتفاظ بعلاقاتها الاستراتيجية القوية مع العديد من دول المنطقة.

ومع ذلك، فإن استمرار واشنطن في تبني سياسة التعايش مع الأزمات ما زال يتوقف على مدى نجاحها في التوصل إلى تفاهمات مع أصدقائها في المنطقة، بالقدر الذي يسمح لها بالحفاظ على انخراطها الدبلوماسي وفي الوقت نفسه الوفاء بالتزاماتها تجاه علاقاتها الاستراتيجية مع حلفائها.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية