عادة ما تشهد السياسة الخارجية الأمريكية حالة ركود وانكفاء في العام الأخير للرئيس في البيت الأبيض، فهو العام الذي يُطلق فيه على كل رئيس أمريكي وصف “البطة العرجاء”، خصوصاً إذا كان قد أمضى فترتين رئاسيتين. لكن من غير المعتاد أن تتسم تحركات واشنطن الخارجية بالتردد، بل والارتباك، منذ بدء الولاية الثانية للرئيس، كما هو حادث حالياً مع إدارة أوباما.
صحيح أن السياسة الخارجية الأمريكية لا يرسمها الرئيس وحده، فهي محصلة تقاطع بين اتجاهات وأفكار التركيبة المهيمنة على الكونجرس، والفريق الرئاسي بالبيت الأبيض. لكن الرئيس يملك مساحة من الحركة المستقلة، خصوصاً في كيفية تطبيق السياسات والتوجهات العامة التي تحظى بتوافق مع الكونجرس. لذا، فإن العلاقة بين الرئيس والكونجرس تتأثر إلى حد بعيد بطبيعة شخصية الرئيس وأسلوبه في الحكم، أكثر من الطبيعة القانونية المنظمة لتلك العلاقة، والصلاحيات المخولة لكل منهما.
بوصلة الحركة الخارجية:
في مايو 2010، أعلن أوباما “استراتيجية الأمن القومي” التي كشفت عن اتجاه الولايات المتحدة إلى تركيز اهتمامها الخارجي (العسكري والاقتصادي خصوصاً) إلى الشرق الأقصى. ورغم أنها تضمنت اتجاهات أخرى للحركة الخارجية الأمريكية، فإن هذا كان الملمح الأبرز فيها. وبالفعل، شهدت السنوات الخمس الماضية تجليات هذا النزوع الأمريكي نحو الشرق، خاصة في شكل انحسار الاهتمام بقضايا وتطورات مناطق أخرى من العالم، بما فيها الشرق الأوسط.
هذا المحتوى لم يتغير كثيراً في الوثيقة التي حملت الاسم نفسه “استراتيجية الأمن القومي”، وأصدرها البيت الأبيض في فبراير 2015. غير أن دوائر وقضايا الاهتمام الأمريكي جاءت أكثر عمومية، بينما أصبحت التحركات الفعلية التي يفترض أن تباشرها واشنطن أقل وضوحاً وتحديداً. كما زاد في هذه الوثيقة الجديدة تعويل واشنطن على الحلفاء والشركاء في مختلف المناطق الإقليمية التي توجد مصالح أمريكية فيها، مع توضيح صريح بأن التدخل الأمريكي المباشر، العسكري خصوصاً، ليس مستبعداً، لكنه يبدأ، فقط، عندما تخفق الخيارات الأخرى، سواء السياسية التي قد تضطلع بها واشنطن بنفسها، أو غير السياسية (بما فيها العسكرية) التي ستقوم بها الأطراف الأخرى الحليفة لواشنطن.
تطبيق أوباما لتلك الخطوط العريضة، وتحويلها إلى تحركات فعلية، لا يعكس حتى الآن أجندة إجرائية واضحة، لا موضوعياً ولا زمنياً. فطوال السنوات الخمس الماضية، تعاملت واشنطن مع التطورات الإقليمية، بما فيها شديدة الخطورة والأهمية، مثل أزمة أوكرانيا، بمنطق رد الفعل، وحسابات الخطوة الثانية، وليس المبادأة الهجومية، كما كانت سياسة بوش الابن، أو الاستباق الوقائي كما في عهد كلينتون.
إشارات متناقضة:
استضافت الإدارة الأمريكية في واشنطن، لثلاثة أيام متواصلة (17 – 19 فبراير 2015)، قمة حاشدة تحت عنوان “قمة البيت الأبيض لمواجهة التطرف العنيف”، شاركت فيها 60 دولة ومنظمة دولية وإقليمية، ثم خرجت ببيان هزيل يدعو إلى تضافر المجتمع الدولي في مواجهة عنف المتطرفين. ورغم أن التحضير لتلك القمة بدأ قبل أسابيع، منذ حدوث واقعة “شارلي إبدو” في باريس، فإن القمة لم تضف جديداً على صعيد آليات ووسائل وأشكال تفعيل التعاون الدولي لمواجهة العنف والتطرف. فبدت تظاهرة دعائية يقودها أوباما.
في لقطة موازية، توصلت الإدارة الأمريكية- أخيراً- إلى اتفاق مع تركيا لتدريب عناصر من المعارضة السورية، بعد عامين من طرح أنقرة للفكرة، فيما تستمر عمليات القصف الجوي التي تقوم بها واشنطن ودول أخرى ضد مواقع تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق، انتظاراً لأن تنتهي تلك العناصر التي سيتم تدريبها من قتال قوات الأسد. وبمقتضى ذلك الاتفاق الأمريكي- التركي، سيتم تدريب نحو خمسة آلاف مقاتل على مدى ثلاث سنوات. وما من جديد بعد في مسألة تسليح تلك القوات، وحدود التطور في نوعية السلاح الذي ستتمكن من الحصول عليه واستخدامه. وفي لقطة ثالثة من المشهد الممتد ذاته عبر الأشهر الماضية، وتعليقاً على القصف المصري لمنطقة درنة في ليبيا (16 فبراير 2015)، قالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية في اليوم التالي مباشرة (17 فبراير 2015)، إن “أي تدخل ليس هو التوجه الصحيح”، غير أن ذلك “يختلف تماماً عن شعور أي دولة بتهديدات لأمنها القومي.. نحن نحترم حق الدول في الدفاع عن النفس”.
تلك الزوايا الثلاث للسلوك الأمريكي تجاه المشهد الراهن في المنطقة تجسد حالة “مراوحة المكان” التي تتبعها إدارة أوباما تجاه التطورات الإقليمية في المنطقة باطراد منذ بداية فترته الرئاسية الثانية قبل عامين، إذ لا يحتاج الأمر إلى خبير في الشئون العسكرية لمعرفة أن تدريب بل وتسليح 1500 مقاتل سنوياً لن يطيح بنظام بشار الأسد، بقدر ما سيحافظ لقواته المسلحة على لياقتها وجهوزيتها، بالضبط كما كان واضحا من اللحظة الأولى في حرب “داعش”، أن القصف الجوي وحده لا يكفي للقضاء على ميليشيا مسلحة تسيطر على مدن ومناطق سكنية، وأخرى صحراوية، وثالثة جبلية. هكذا، كانت كل مواقف واشنطن في مختلف قضايا المنطقة، فترددت في إبرام اتفاق نووي مع إيران، خشية رد فعل الكونجرس وإسرائيل. ورغم العلم المسبق بالتغيير المفصلي الذي شهدته مصر في 3 يوليو 2013، ترددت إدارة أوباما في إعلان موقفها منه بشكل رسمي، وأخذ سلوكها تجاه القاهرة يتأرجح بين معاقبتها على ما جرى، ومعاملتها كأن شيئاً لم يكن. ثم جاءت التطورات الميدانية في اليمن وليبيا لتؤكد أن أوباما يتعامل مع قضايا المنطقة بالقطعة، ويتحرك دائماً كرد فعل، بعد ضغوط وانتقادات داخلية أو خارجية، ثم يبرر قراراته بأنها تلبية لمطالب، أو استجابة لتحديات.
بين إسرائيل وإيران:
الثابت الوحيد الذي لم يتغير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، منذ إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، هو التزام واشنطن بحماية ذلك الكيان، وضمان ليس فقط بقاءه، وإنما تفوقه على كافة الدول المحيطة به في جميع الجوانب، خصوصاً العسكرية.
وبالطبع، ليست إدارة أوباما استثناء من هذا النمط. فرغم التباينات الواضحة بين أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فإن الالتزام الأمريكي تجاه تل أبيب لم يتأثر. ويمكن عدّ الخلاف بين الرجلين أقرب إلى اختلاف تكتيكي حول بعض جوانب ومداخل تطبيق ذلك الالتزام الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني.
وبطبيعة الحال، فإن التباين أو الاختلاف ليس حول مبدأ حماية إسرائيل من إيران، وإنما في المفاضلة بين الخيارات المتاحة لتحقيق تلك الحماية. فواشنطن وتل أبيب متفقتان على ضرورة منع طهران من امتلاك سلاح نووي. غير أن التقدم الفعلي الذي حققته طهران في هذا الاتجاه وصل إلى مرحلة يصعب معها تحقيق ذلك الهدف الأمريكي-الإسرائيلي المشترك باستخدام القوة المسلحة، بل هناك حد أدنى من الاقتناع المشترك بأن تداعيات العمل العسكري لن تقتصر على مجرد إبطاء معدل التقدم الإيراني دون وقفه، أو القضاء عليه. بل على الأرجح، ستتطور إلى الأسوأ بأن تدفع إيران إلى رفع وتيرة العمل فيه، وربما التصريح بإمكانية استخدامه، أو تطويره لأغراض عسكرية، على أساس أن العمل العسكري ضدها عدوان يستتبع بالضرورة حق الدفاع عن النفس، وامتلاك القدرات اللازمة لذلك.
من هنا، جاء تمسك واشنطن بضرورة حسم ذلك الملف مع طهران بالتفاوض، وليس بالقوة، مع فارق مهم يميز الموقف الأمريكي عن ذلك الإسرائيلي، وهو أن واشنطن تسعى إلى منع إيران من امتلاك، أو بالأحرى إنتاج السلاح النووي، بينما المطلب الإسرائيلي هو منع طهران من امتلاك “القدرة” على تحقيق ذلك الهدف، وليس فقط الوصول إليه فعلياً.
خارج نطاق هذا الملف، لم تشهد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من قبل تلك الحالة من التذبذب صعوداً وهبوطاً بين الفعالية والسلبية، والتردد بين التدخل والإحجام. وتدل على ذلك مستجدات معظم- إن لم يكن كل- الملفات الإقليمية والأزمات التي تشهدها المنطقة، بما فيها التعامل الأمريكي مع الأطراف الإقليمية الأخرى (تحديداً العربية) المعنية بمستجدات وتداعيات المفاوضات النووية مع طهران.
فقد أعلن أوباما أنه يرى إيران “قوة إقليمية ناجحة جداً”، وفي الوقت ذاته يحاول طمأنة الدول العربية تجاه الاتفاق النووي المتوقع قبل نهاية يونيو المقبل. لذلك، دعا أوباما لقمة أمريكية- خليجية في 14 مايو الجاري، رغم أن الدعوة تبدو غير مستساغة، وتثير التساؤل. فالموعد المفترض لهذه القمة يسبق توقيع الاتفاق “النهائي” بأيام، بينما واشنطن تباشر التفاوض مع طهران منذ أربع سنوات، على الأقل. وفي الكلمة التي ألقاها أوباما، وهو يزف إلى العالم خبر الاتفاق مع إيران، كرر غير مرة أن واشنطن ملتزمة بتعهداتها تجاه حلفائها الإقليميين، ثم استفاض في إرسال إشارات طمأنة لإسرائيل، وهو النهج نفسه الذي تبناه وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في مؤتمر صحفي أعقب مباشرة كلمة أوباما.
هذا التناقض بين السلوك والخطاب لدى إدارة أوباما صار فجاً بحيث يصعب تمريره، أو تكييفه كنوع من المواءمة والمرونة في المواقف والتحركات، خاصة أنه حتى أشهر قليلة مضت، لم تكن الفجوة بين القول والفعل الأمريكيين بهذا الاتساع الحاصل حالياً. معروف أن توجهات أوباما، وكذلك إدارته، تميل إلى الوسطية، والحوار، والحلول السياسية، لكن رغبته في الإمساك بكل الخيوط، والتظاهر بإرضاء كل الحلفاء، تعارضت أخيرا مع حرصه الشديد على إنهاء رئاسته الثانية بإنجاز تاريخي يحسب له، ويضمن للديمقراطيين البقاء في البيت الأبيض، بعد الانتخابات الرئاسية العام المقبل. لذلك، تخلت واشنطن، على نحو مفاجئ، عن سلوكها الانسحابي من القضايا الصعبة في الشرق الأوسط. فراحت تنشط ذاكرتها التدخلية بتحالف سريع ضد “داعش” تختبر به ولاء حلفائها التقليديين، وتطمئن به إيران إلى بقاء حليفها السوري – ولو إلى حين- وثبات معادلة العراق التي تمثل طهران الرقم الأساسى، والمتغير المستقل فيها.
ورغم أن مسئولية ما جرى في اليمن تقع بالدرجة الأولى على دول المنطقة، خصوصاً دول الخليج، التي انشغلت بالوضع في سوريا، وملاحقة الداخل المصري، ونفي شبهة التطرف بضرب داعش، فإن واشنطن ليست معفية بدورها من تلك المسئولية، إذ لم تكن بعيدة ولا غافلة عن تدهور الوضع في اليمن، وزحف الحوثيين نحو الاستيلاء على الدولة، أرضاً وسلطة. فبدا السكوت الأمريكي -أو بالأحرى الضوء الأخضر- استدراجاً لإيران، حتى تبدي مرونة أكبر في المفاوضات النووية، ويسهل التوصل الى اتفاق. غير أن الاندفاع الأمريكي وراء هذا المنطق، والمهارة الإيرانية في إدارة التفاوض، واستهلاك الوقت، أفسحا مجالاً رحباً أمام طهران وحلفائها للتحرك نحو فرض أمر واقع جديد في اليمن، وترسيخ دعائم الوضع القائم في العراق وسوريا.
دوافع داخلية بامتياز:
باستقراء خلفيات تلك المواقف الأمريكية، يمكن بسهولة العثور على عدد من العناصر التي تقف وراء تلك السلبية، وذلك التذبذب الذي يميز سلوك وخطاب إدارة أوباما. بالتأكيد، يأتي في المقدمة اقتراب خروج أوباما من البيت الأبيض، والاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، بما يعنيه ذلك من الحرص على تحقيق إنجاز يحسب له على الصعيد الشخصي، ويساعد الحزب الديمقراطي في الحملة الانتخابية.
ارتباطاً بذلك السياق، يمكن النظر إلى سيطرة الجمهوريين على الكونجرس الأمريكي، والتي أصبحت شبه كاملة بعد انتخابات التجديد النصفي التي جرت العام الماضي (2014). فبعد أن كان على البيت الأبيض التحسب لردود فعل الكونجرس بشكل نسبي، أصبح موقف الكونجرس محددا جوهريا مسبقا في قرارات وتوجهات الإدارة.
العنصر الثاني هو تراجع القدرات والموارد المتاحة أمريكياً للاستمرار في بسط النفوذ خارجياً على المستوى العالمي، لذا كان تعديل الأولويات، وإعادة توزيع نقاط التمركز، والتدخل العسكري لما يتطلبه ذلك من تكلفة اقتصادية عالية.
يأتي بعد ذلك عامل الزمن، فالوقت ليس في مصلحة واشنطن، خصوصاً بالنسبة للملف النووي الإيراني، ومجمل النفوذ الإيراني في المنطقة. لذا، فإن مثل هذا الملف، الذى يشبه صداعاً في رأس أوباما، لا مفر من التعامل معه، والتخلص منه في أسرع وقت. ثم تأتي عملية ترميم ما يترتب على ذلك من سلبيات في مرتبة تالية موضوعياً وزمنياً.
مردود غير متوقع:
يدرك أوباما جيداً أن التخلي الكامل عن المنطقة سيفضي إلى اختلال في التوازنات القائمة، وانفلات في سياسات القوى الإقليمية، وتحركاتها المتبادلة، بما يهدد استقرار المنطقة ككل، ومن ثم المصالح الأمريكية، ومن خلفها الإسرائيلية. وهكذا، كان ضرورياً أن تبارك واشنطن وتشارك في عملية “عاصفة الحزم” لدواع جيواستراتيجية تتعلق بأمن الملاحة في باب المندب، ودواع أخرى سياسية، أهمها حشر طهران في الزاوية بين مطرقة قصف حلفائها في اليمن، وسندان المهلة المحددة للتفاوض النووي، رغم أن الاستجابة لتلك المهلة كانت رغبة أمريكية محمومة تجلت في اتصالات واشنطن المكثفة بشركائها الأوروبيين في الأيام الأخيرة، لتقريب المواقف، وبلورة مرتكزات للاتفاق.
وفي تصريح أوباما قبل أيام، قال إن التهديد الحقيقي لدول الخليج ليس إيران، وإنما الأوضاع الداخلية، والمشكلات الذاتية التي تهدد استقرارها، ما لم يتم التعامل معها، والتصدي لها. أوباما يطلب من العرب والعالم الاطمئنان، والوثوق في واشنطن، بينما همه الأساسى إغلاق الملف النووي الإيراني بتسوية تحمل اسمه. وفي سعيه إلى ذلك المجد، أخذ يقدم لإيران ووكلائها “حوافز” إقليمية وتنازلات نووية، على حساب العرب، وربما إسٍرائيل أيضاً. وإذا كان لدى الأخيرة رادع نووي يضمن حمايتها، فليس لدى العرب مظلة نووية، أو قدرات ذاتية تكفل الحماية من تقلبات واشنطن، وتناقضات رؤسائها.
ما لا يدركه أوباما أن تلك السلبية ليست سوى دعوة صريحة لكل الفاعلين في المنطقة (دولاً كبيرة أو صغيرة، جماعات أو ميليشيات) لكي تتحرك كل منها من أجل مصالحها التي تراها بالطريقة والوسيلة التي تنظر إليها، مع قليل من التحسب لرد الفعل الأمريكي. وبمرور الوقت، سيزداد الفاعلون الإقليميون جرأة، وربما تجاهلاً لتلك “البطة العرجاء”، حسبما يوصف الرئيس الأمريكي في عامه الأخير. فقد دخل أوباما مرحلة العرج فعلياً بمواقفه الأقرب إلى “اللا موقف”، وسياسة ” اللا سياسة” التي بدأها مبكراً، ويؤكد يوماً بعد يوم أنه متمسك بها حتى نهاية أعوامه الأربعة الأخيرة.
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية