قررت الإدارة الأميركية رفع القيود عن مساعدات عسكرية لمصر كانت حجبتها العام الماضي، متعللة بما قالت إنه تقاعس مصري عن إحراز تقدم في احترام حقوق الإنسان. ليس هناك ما يشير إلى أن تغييرا إيجابيا حصل في سجل مصر الحقوقي، ولم يتضمن الإعلان عن الإفراج عن المساعدات ما يشير إلى خطوات معينة اتخذتها مصر لتقليص المخاوف الأميركية، ما يعني أن هناك مستجدات إقليمية دفعت واشنطن إلى مراجعة علاقتها بالقاهرة وتقديم قضايا على أخرى.
أعلنت واشنطن الإفراج عن مساعدات عسكرية لمصر بقيمة 195 مليون دولار، تعود إلى العام المالي 2016، كانت حجبتها بسبب مخاوف تتعلق بسجلها في مجال حقوق الإنسان، ثم أفرجت عنها اعترافا بخطوات اتخذتها مصر العام الماضي، استجابة لمخاوف أميركية معينة، وفي ضوء الرغبة في تعزيز الشراكة معها، ومن المرجح أن تتطور العلاقة في هذا الاتجاه.
جاء الإعلان عن الإفراج الأربعاء، أي عقب يوم واحد من اتصال بين وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ووزير الخارجية المصري سامح شكري، أكدا فيه على أهمية العلاقات بين البلدين، ودعا فيه بومبيو نظيره المصري لزيارة واشنطن في الأسبوع الأول من أغسطس المقبل.
جرت الكثير من المياه السياسية العكرة بين مصر والولايات المتحدة خلال الفترة الماضية، لكن لم يتحدث أي من الطرفين رسميا عن أزمات عصية على الحل أو وصول العلاقة إلى نقطة سلبية يصعب الرجوع عنها. وحرص الجانبان على الابتعاد عن الصدام الباشر، كي لا يضطرا إلى الاستعانة بخيارات بديلة متوافرة.
استفادت القاهرة من خبرتها التاريخية ومدى الخطورة التي يتضمّنها الرهان على التحالف مع الولايات المتحدة، وذهبت إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية.
وأدركت واشنطن أن مصر اليوم غير مصر أمس من زاوية الدور والتأثير وتفهم المصالح المشتركة، وأيضا وجود قوى إقليمية تستطيع أن تناطح القاهرة وربما تتفوق عليها في مرونتها. راودت كل طرف أفكار من قبيل تخفيف الاعتماد السياسي واللجوء إلى بدائل يمكن توظيفها في الحد من ابتزاز الطرف الآخر ومحاولة تعظيم المكاسب عن طريق قوى أبدت استعدادا للتعاون والتنسيق بأقل شروط وقيود وحصيلة كبيرة من النتائج.
مصير الكيمياء السياسية
على هذه القاعدة من الممكن فهم الكثير من المناوشات الظاهرة التي حدثت خلال الفترة الماضية، وأدت إلى وصول العلاقة إلى درجة الفتور الظاهر بما لا يتناسب مع الطموحات التي جرى التعويل عليها، بسبب الكيمياء السياسية التي جمعت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي، منذ أول لقاء جمعهما في سبتمبر 2016، وقتها كان ترامب لا يزال مرشحا في الانتخابات الرئاسية. وأشّر اللقاء على بداية عصر جديد من العلاقة الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.
بعد مرور أقل من عام على دخول ترامب البيت الأبيض، بدأت تتكشف الكثير من الأمور السلبية التي أفضت إلى تراجع نسبة تفاعل الكيمياء بين الرئيسين، ومضى كل منهما في طريق يبدو مغايرا للآخر، بلا ضجيج من كليهما، لأن وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني تكفلت به، وهو ما جنب البلدين صداما دبلوماسيا علنيا.
كان التعامل مع التنظيمات المتطرفة وجماعة الإخوان المسلمين من الملفات الأولى التي كشفت استمرار التباين بين الطرفين، ولم تتغير كثيرا نظرة الإدارة الأميركية الجديدة عن سابقتها تحت قيادة باراك أوباما.
لم يظهر ترامب تعاطفا كبيرا مع التيار الإسلامي، لكنه لم يظهر الشكيمة التي كان ينتظرها السيسي مع تنظيماته المختلفة. ولا تزال عملية التلويح بإدراج الإخوان تنظيما إرهابيا تراوح مكانها، تطفو على السطح ثم تغطس وهكذا.
يتوقف قانون الطفو والغطس على طبيعة الأجواء السياسية، لكن في الحالتين لم يتم حسم الموقف النهائي حيال الجماعة بالسلب أو الإيجاب، وهو تطور مهم في حد ذاته لأن فرص ترجيح الخيار الأول ليست هينة، إذا عادت الأمور إلى مسارها الإيجابي بين واشنطن والقاهرة.
مساحة التفاهم بين القاهرة وواشنطن في ليبيا تزداد وتلتقي عند جملة من القواسم المشتركة، التي تفتح المجال لشراكة في ملفات أخرى أو على الأقل تعيد تصحيح المسارات
على هذه القاعدة تمت حوارات كثيرة بين الطرفين، في وقت بدا فيه الجفاء ظاهرا بشأن قضايا أخرى، ما يؤكد أن العلاقة لم تصل إلى مرحلة القطيعة، لأن كل جانب لا ينكر الأهمية التي يمثلها له الطرف الآخر. كما أن التقاطعات الكثيرة، في نواحٍ سياسية واقتصادية وأمنية، تعد من الكوابح الرئيسية لأي عوائق تقف أمام الحفاظ على درجة من المتانة.
وعلمت “العرب” من مصدر دبلوماسي مصري أن واشنطن الآن تتفهم أكثر من أي وقت مضى الدور الذي تلعبه القاهرة في مكافحة الإرهاب، ومنحتها معدات عسكرية تساعدها في هذه المعركة ووعدت بالمزيد. ولم تخف تفهمها للموقف المصري من جماعة الإخوان.
وباتت أقل تمسكا بضرورة انخراطها في العملية السياسية. ووجدت أن إصرارها على هذه المسألة أبعدها عن القاهرة وعواصم عربية أخرى، ترى أهمية في التعامل مع الجماعة مثل أي تنظيم إرهابي.
وتؤاخذ القاهرةُ واشنطن على عدم شمولية نظرتها للتنظيمات الإسلامية، ما أوصلها أحيانا إلى حد التناقض بين أقوالها وتصرفاتها، الأمر الذي أدى إلى الانزعاج من التبعات التي تخلفها هذه السياسة، وبدت كأنها طقس غربي، استفاقت منه نسبيا بعض الدول بعدما ضربت العمليات الإرهابية أماكن عدة في قلب أوروبا.
وأكد المصدر لـ”العرب” أن الفجوة مع واشنطن آخذة في الانحسار، واقتنعت الولايات المتحدة مؤخرا بجزء كبير من رؤية القاهرة في الأزمة الليبية، بعد حوارات ومناقشات جرت بين دبلوماسيين وأمنيين في البلدين، ساهمت حصيلتها في إدخال تعديلات على الموقف الأميركي، وانتقل من التردد إلى التقدم بخطوات حثيثة، تجلت في تعيين السفيرة الأميركية في طرابلس استيفاني وليامز نائبةً لغسان سلامة المبعوث الأممي في ليبيا.
وأوضح المصدر أن انخراط واشنطن في مناقشات جادة مع كل من فرنسا وإيطاليا وإنكلترا بشأن ليبيا، هدفه عدم استفادة الميليشيات من الخلاف بين باريس وروما، والتوصل إلى صيغة لا تمنح الإخوان ثقلا أكبر من حجمهم الحقيقي، وقصم ظهر الجماعات المسلحة التي يعتمد عليها الإخوان في تحقيق أغراضهم لإطالة عمر الأزمة والحصول على مكاسب كبيرة، وهو ما ظهر في حتمية نزع سلاح الميليشيات، وقطع التمويل عنها عبر قناة مصرف ليبيا المركزي وروافده الاقتصادية.
مصر بين خيارين
عكَس التقارب الحاصل في الملف الليبي جزءا من هواجس الولايات المتحدة إزاء تقدم روسيا تدريجيا نحو الساحة الليبية، مستفيدة من تناقضات وارتباكات الرؤية الغربية.
على عكْس الكثير من التصورات الرائجة، تبدي مصر قلقا من التقدم الروسي في ليبيا، وهذا لا يعني تعارضها مع ما تتبناه موسكو إجمالا، لكنها في الحالة الليبية تخشى أن يؤدي امتلاك روسيا لنفوذ عسكري كبير إلى تكالب بعض القوى الغربية، وإعادة إنتاج سيناريو سوريا في ليبيا، بكل ما ينطوي عليه من حروب بالوكالة وطموحات وأطماع في السيطرة على مفاصل الحل والعقد، وهو ما يقود إلى المزيد من التأثيرات السلبية على مصر.
وتخشى دوائر مصرية أن تتوطد العلاقات كثيرا بين موسكو والمشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، ما يفضي إلى تخفيف اعتماده على القاهرة، بشكل قد يفقدها ورقة مهمة للتأثير في مجريات الأزمة، ويمهد الطريق لتسويتها بعيدا عنها.
وقال المصدر الدبلوماسي المصري لـ”العرب” إن “مساحة التفاهم بين القاهرة وواشنطن في ليبيا تحديدا تزداد، وتلتقي عند جملة من القواسم المشتركة، التي تفسح المجال لشراكة في ملفات أخرى، أو على الأقل تعيد تصحيح المسارات في ملف مثل القضية الفلسطينية”.
لم تنقطع وسائل الحوار تماما بين البلدين في هذه القضية، عقب الجولة المخيبة للآمال التي قام بها جاريد كوشنير، المستشار السياسي للرئيس ترامب، وجيسون غرينبلات مبعوثه إلى الشرق الأوسط، في نهاية يونيو الماضي، وقادتهما إلى القاهرة، وسمعا من المسؤولين فيها رفضا دبلوماسيا لما تضمنته صفقة القرن من تسريبات.
أربكت الرسالة السياسية التي حملتها الرؤية المصرية خطط إدارة ترامب، لأنها تزامنت مع رفض أردني مماثل وممانعات عربية أخرى، وبدت العربة الجاهزة التي كانت تعول عليها واشنطن، وهي القاهرة، بعيدة عن القطار الذي كانت تريد الانطلاق به لإيصال صفقة القرن.
195 مليون دولار قيمة المساعدات لمصر التي رفعت عنها الإدارة الأميركية الحظر
مضت مصر في سد المنافذ التي يمكن أن تتسرب منها الصفقة، وسعت إلى تخفيف الأزمة الإنسانية والاقتصادية في قطاع غزة، واستأنفت جهودها لاستعادة زخم المصالحة الفلسطينية، وتوسطت بين إسرائيل وحماس للتهدئة العسكرية، بعد أن لاحت في الأفق نذر حرب بين الجانبين.
بدت واشنطن أكثر تريثا، وربما متفهمة لطبيعة التحفظات التي نقلتها القاهرة إلى كوشنير وغرينبلات، في ظل رفض فلسطيني حاد، وتجاوز الرئيس ترامب الموعد الذي ضربه للإعلان عن الصفقة، قبل نهاية يونيو الماضي، وفهمت مصر الرسالة في منحاها الإيجابي، وأن هناك رغبة في إدخال تعديلات على صفقة القرن، بما يجعل تمريرها بمساعدة مصرية ليس أمرا مستحيلا.
أرادت القاهرة ضرب مجموعة من العصافير السياسية بحجر واحد، خيبت التوقعات التي ذهبت إلى اعتمادها مبدأ “خذ وطالب”. وكذّبت عمليا المعلومات التي راجت حول اتهامها بالتواطؤ مع واشنطن والمشاركة السياسية في طبخة القرن. وقطعت الطريق على الأفكار التي انتشرت بشأن التنازل عن مساحة من شمال سيناء لتوطين الفلسطينيين، كجزء من الصفقة.
وقالت مصادر سياسية لـ”العرب” إن القاهرة قلّصت الاعتماد على الجانب الأميركي، ولم تسع إلى استرضائه بكل السبل، لأنها تملك فرصة للحركة باتجاه قوى كبيرة، ولم تعد مضطرة إلى الاستجابة لما يطلب منها للحفاظ على متانة العلاقة مع الولايات المتحدة، في وقت تبدو فيه الأخيرة على استعداد للتخلي عن حضورها القوي في المنطقة.
رغم أن واشنطن لا تزال لديها تحفظات على توجهات النظام المصري في ملف الحريات وحقوق الإنسان، فإنها لم تصل إلى الدرجة التي يمكنها التضحية به، وحتى وسائل الضغط التقليدية، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، غير ذات فعالية كبيرة، فقد استفادت القاهرة من تنويع علاقاتها الإقليمية والدولية، ما منحها قدرا أكبر للصمود في وجه التحديات الأميركية.
أسهمت اللقاءات التي عقدت مؤخرا، في كل من القاهرة وواشنطن، على مستويات مختلفة، في تقريب المسافات والتوصل إلى قناعة تشي بأهمية تصحيح المسارات الخاطئة، وعدم التمادي في توسيع الهوة.
وكشفت المصادر الدبلوماسية أن القاهرة لا تريد وضع رهاناتها كاملة في سلة روسيا أو الصين، لأن فكرة التحالفات الجامدة لم تعد واقعية، ولن تستطيع الصمود كثيرا أمام الضغوط الأميركية وروافدها المتشعبة، كما أن واشنطن لن تفرط في ورقة القاهرة، فلا تزال تمثل بالنسبة لها ركيزة في بعض القضايا.
تتعرض القاهرة لمأزق حاد الآن يتعلق بمدى قدرتها على الاحتفاظ بخيوط كثيرة ومتناقضة أحيانا، فهناك أطراف إقليمية ودولية لا تثق تماما في انحيازاتها المعلنة، وتعتقد أنها تملك تقديرات خفية، الأمر الذي جعل روسيا تتباطأ في خطوات التعاون معها، وجعل الولايات المتحدة تشكك في إمكانية توثيق عرى التحالف معها مرة أخرى. وما لم تتمكن القاهرة من حسم ما تراه بعض الدوائر “إزدواجية” لن تتمكن من تطوير علاقاتها، فمن يريد اللعب مع الجميع ربما يخسر الجميع.
العرب