شهدت العلاقات المصرية الروسية، في السنوات الأخيرة، إيقاع تعاون واتفاق متسارعا، فرضته المتغيرات التي طرأت على العلاقة بين واشنطن والقاهرة منذ 2011. ولا يعني التوافق المصري الروسي محاولة القاهرة استبدال واشنطن بموسكو، لكن، وبالعودة إلى تاريخ السياسة الخارجية المصرية والتي صاغها جمال عبدالناصر، يتبيّن أن مصر تحاول العودة إلى اللعب وفق سياسة التحالفات الاستراتيجية المتعددة، أي ترغب في كسب الدعم الروسي وإضافته إلى ما تحصل عليه من دعم أميركي، مع فتح الباب أمام الاستثمارات الصينية الاستراتيجية.
القاهرة – عادت مصر مرة أخرى إلى ممارسة سياسية قديمة شكلت جوهر “معادلة القوة” في سياستها الخارجية منذ عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذي وضع أسس استراتيجية تحولت إلى عقيدة أساسية قائمة على السير على حبل رفيع بين القوى الكبرى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المصرية.
تقوم هذه العقيدة على افتراض تحقيق أكبر قدر من المكاسب في عالم “ثنائي القطبية”. ويعني ذلك أن النفوذ والمصالح المصرية تتراجع كلما أصبح النظام العالمي أقرب إلى الأحادية القطبية.
ووصلت الدبلوماسية المصرية إلى قمتها خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ثمّ تراجعت كثيرا منذ أن تمكنت واشنطن من فرض هيمنة أحادية على الشرق الأوسط. لكن منذ صعود الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى الحكم، بدأت مصر في إعادة انتهاج سياسات تحاول من خلالها خلق معادلة جديدة للقوة في المنطقة، في ظل صعود الصين وروسيا كمنافستين للنفوذ الأميركي في المنطقة.
في عام 1955، فاجأ عبدالناصر، الذي كان حتى ذلك الوقت حليفا للولايات المتحدة، العالم بتوقيع صفقة الأسلحة التشيكية الضخمة، التي أطلقت رسميا سباق التسلح في الشرق الأوسط، وأعلنت عن انضمام مصر رسميا إلى المعسكر السوفييتي.
وبعد مرور ستة عقود، تنظر القاهرة في خيارات استراتيجية متعددة، إذ تتبنى مقاربة دبلوماسية ناعمة تجاه روسيا والصين، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة.
وعاد السيسي للتوّ من زيارة إلى الصين التقى خلالها نظيره الصيني شي جينبينغ ووقع اتفاقيات لتعزيز اتفاق “الشراكة الاستراتيجية” التي وقعها الجانبان عام 2014.
تبدو هذه السياسة أشبه بلعب بالنار في أكثر المناطق تقلبا في العالم، لكنها لم تتسبب في نتائج عكسية على مصر إلى الآن، بل ساهمت في تعزيز سياسة “الانكفاء على الداخل” التي يتبناها السيسي، وأدت إلى انتعاش اقتصادي سريع، دون التوسع في لعب أدوار كبرى على المستوى الإقليمي.
الاحتماء بموسكو
تحرك النخب الحاكمة في مصر عقيدة تقوم على الشكوك في أدوار الولايات المتحدة بشكل تلقائي. وتحولت هذه العقيدة إلى اتجاه تاريخي تحكّم في العلاقات المصرية الأميركية حتى في ذروتها.
وبعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، طوّرت مصر سلوكا في علاقتها بالمؤسسات الأميركية يعتمد على أن المساعدات التي تتلقاها، والتي تبلغ 1.3 مليار دولار سنويا وفقا للمعاهدة، هي حق طبيعي غير قابل للمساومة عليه، كما كانت واشنطن ترى أيضا أن المساعدات تضفي التزاما طبيعيا على مصر بالبقاء في دائرة النفوذ الأميركي.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، باتت خيارات القاهرة محدودة. ظهر ذلك بوضوح في المساهمة المصرية الكبيرة في حرب الخليج لإنهاء احتلال الجيش العراقي للكويت في مطلع تسعينات القرن الماضي. لكن مع صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكم تغيّرت معادلة السياسة الخارجية في القاهرة. ويقول محللون إن المصريين وجدوا في عودة الروس إلى المنطقة فرصة استراتيجية لتعزيز مواقفهم في علاقة “صعبة” مع الولايات المتحدة.
ظهرت صعوبة العلاقات بين البلدين بعد الإطاحة بالرئيس المنتمي إلى الإخوان المسلمين محمد مرسي في يوليو 2013، حين رفض الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما استقبال السيسي في البيت الأبيض، كما أعلن تعليق المساعدات العسكرية الموجهة للجيش المصري. ولم يكن قرار أوباما نابعا فقط من “استعادة الديمقراطية في مصر”، لكنه اتسق أيضا مع رؤية صاعدة في الكونغرس ترى “عدم جدوى” للمساعدات التي تتلقاها مصر طوال عقود، وعدم حصول الولايات المتحدة على “عائد” يذكر في المقابل.
ورغم زيارة السيسي للولايات المتحدة، بعد أشهر من تولي الرئيس دونالد ترامب الحكم في يناير 2017، وعودة المساعدات مرة أخرى، أعلنت واشنطن في أغسطس من نفس العام وقف تسليم 100 مليون دولار من المساعدات العسكرية اعتراضا على قانون الجمعيات الأهلية الذي أقرّه البرلمان المصري آنذاك، وأثار جدلا كبيرا. فتح هذا التوتر بابا واسعا أمام روسيا والصين في القاهرة. وسارعت موسكو إلى عرض مستوى غير مسبوق من التعاون العسكري على المسؤولين المصريين، أدى إلى توقيع صفقات أسلحة كبيرة بين الجانبين.
ونظمت مصر وروسيا تدريبات بحرية واسعة النطاق في يونيو 2015. وتقول تقارير إنه في نهاية عام 2017، ناقش الجانبان بنود اتفاق يقضي بالاستغلال المتبادل للقواعد الجوية للبلدين. وإذا تم توقيع هذا الاتفاق فسيعني أن روسيا تحولت إلى شريك رئيسي للولايات المتحدة في سماء أكبر بلد عربي.
وتقول مصادر دبلوماسية لـ”العرب” إن مصر لعبت دورا محوريا في حشد دعم عربي لسياسة بوتين الخارجية في المنطقة، كما منحت غطاء دبلوماسيا للجهود الروسية الداعمة لنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا. وقالت تقارير غير مؤكدة لاحقا إن روسيا بدأت مفاوضات مع المسؤولين المصريين حول استغلال قاعدة سيدي براني الجوية القريبة من الحدود الليبية، كي تكون منطلقا لدعم قوات المشير خليفة حفتر في ليبيا.
وفي بعض الأحيان تجاهلت مصر حلفاءها التقليديين من أجل تعزيز علاقاتها مع الطبقة العسكرية في روسيا. وفي أكتوبر 2016 صوتت مصر في مجلس الأمن لصالح قرار روسي يدعم الأسد، وهو ما أثار غضب السعودية، أكبر حليف لمصر في المنطقة.
وفي مايو الماضي أشاد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بموقف مصر الرافض لإرسال قوات عربية إلى سوريا، ضمن خطة أميركية أوسع لتشكيل “تحالف سني” لملء الفراغ في مواجهة النفوذ الإيراني بالبلاد.
وحصلت مصر بالمقابل على صفقات أسلحة كبرى. ويقول مردخاي كازيزا، المحلل في كلية أشكيلون للعلاقات الدولية، إن “صفقات التسليح تحولت إلى المحور الرئيسي الذي يقود العلاقات بين القاهرة وموسكو”.
وتستغل روسيا التردد المتزايد في واشنطن للإبقاء على تدفق المساعدات السنوية لمصر، في محاولة لملء أي فراغ أميركي محتمل. ففي 2014، وقعت روسيا اتفاقا لبيع أسلحة لمصر بقيمة 3.5 مليار دولار، كما باعت للقاهرة كمية جديدة من الأسلحة تقدر بمليار دولار العام الماضي فقط.
وعززت مصر علاقاتها الاقتصادية أيضا مع روسيا، وأعلن الطرفان تدشين منطقة صناعية روسية في محور قناة السويس، التي من المفترض أن تضم استثمارات روسية بتسهيلات مميزة. وخلال زيارته الثانية للقاهرة العام الماضي، وقّع بوتين اتفاقية تمويل محطة الطاقة النووية المصرية في منطقة الضبعة المطلة على البحر المتوسط بقيمة 21 مليار دولار.
ورغم حجم الاتفاقيات بين الجانبين، مازالت مساعدات روسيا الاقتصادية غير كافية لوضع توقعات كبيرة للناتج النهائي لاتفاقات الاستثمار والتمويل بين الجانبين. ويقول تيموثي كالداس، الباحث في معهد “التحرير” المتخصص في سياسات الشرق الأوسط، إن “كل محاولات مصر للضغط على الولايات المتحدة عبر المزيد من التقارب مع بوتين فشلت”. وأضاف “المصريون بالغوا في حساب التأثير السلبي لهذه التحركات في واشنطن. والأميركيون يعلمون أن روسيا لا تستطيع أن تحل محل واشنطن أو الدول الخليجية في مصر، لأن روسيا عمليا قريبة من الإفلاس”. لكن هناك دولة أخرى تظل بعيدا جدا عن الإفلاس، هي الصين.
غزو صيني للمنطقة
عند إجراء مقارنة سريعة يظهر عدم التكافؤ في الأهمية الاقتصادية بين روسيا والصين بالنسبة إلى المسؤولين المصريين. ويقول محللون في واشنطن إن مسؤولين في البيت الأبيض يشعرون بقلق بالغ جراء التدفق الكبير للأموال الصينية إلى مصر.
وظلت الصين أكبر شريك تجاري لمصر منذ عام 2012، إذ تغطي السلع الصينية أكثر من 13 بالمئة من إجمالي الواردات المصرية مجتمعة. وإن كان المصريون ناجحين في شيء، فهو قدرتهم على تسويق موقع مصر الجغرافي الذي يظل ورقة ضغط استراتيجية على القوى الكبرى لا يمكن تجاهلها. في الصين يبدو موقع مصر من بين الأصول الكبيرة التي تسعى بكين لاستغلالها.
ويعرف السيسي ذلك جيدا. ويقول جون تشين، المتخصص في العلاقات الصينية في الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، إن “قناة السويس هي التي تجعل مصر استثنائية بالنسبة إلى الصين”.
وتقع قناة السويس في قلب طريق الحرير البحري، وهو جزء من مبادرة الرئيس شي جينغبينغ التي بنى عليها مشروعه في الحكم والتي تسمى “مبادرة الحزام والطريق”. وتمثل هذه المبادرة جوهرا افتراضيا يضم كل أبعاد السياسة الخارجية الصينية.
والعام الماضي، قال مسؤول مصري لوكالة الأنباء الرسمية الصينية شنخوا إن الصين أصبحت “أكبر مستثمر في قناة السويس”، بينما تقوم الشركة الصينية العملاقة “تي.أي.دي.إي” ببناء منطقة اقتصادية خاصة في محور القناة.
ويقول تشين إن مصر تسعى لإثبات قيمتها السياسية بالنسبة إلى الصين بطرق متعددة. وفي مايو 2017، طلبت الحكومة المصرية ترحيل بعض المطلوبين من أقلية الإيغور الذين يدرسون في الأزهر، وعلى الفور قامت السلطات المصرية بترحيلهم.
وفي عام 2016، صنّفت الحكومة المصرية الصين باعتبارها المصدر رقم 23 للعملة الأجنبية في مصر منذ عام 1970. لكن منذ ذلك الحين تغير هذا الوضع بشكل جذري، إذ تساهم الصين في مشروعات عملاقة تشكل أحد أسس شرعية حكومة السيسي.
وينظر إلى الصين على نطاق واسع في مصر باعتبارها “المنقذ الحقيقي” لمشروع العاصمة الإدارية الجديدة، الذي تم الإعلان عنه عام 2015، وتعوّل عليها الحكومة المصرية في نقل المؤسسات الحكومة والسفارات الأجنبية إلى طريق السويس شرق القاهرة.
ووافقت بنوك صينية على تقديم قرابة 3 مليارات دولار المطلوبة لبناء الحي المالي في المدينة، كما أعلنت شركة “تشينا فورتشن لاند ديفيلوبمينت” أنها ستستثمر 20 مليار دولار إضافية في المدينة الجديدة. ووعدت الصين أيضا بالاستثمار بقيمة مليارات الدولارات في قطاعات صناعية وشركات حكومية، كتحديث صناعة الغزل والنسيج وبناء خط مترو جديد في القاهرة. ورغم ذلك، يقول ديفيد وود، الباحث في الشؤون الاقتصادية المصرية، إن “نفوذ الصين، رغم تدفق الأموال الكبير اليوم، لن يمكنها من أن تصبح قوة مهيمنة في مصر. مازالت الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ واسع النطاق على عملية صناعة القرار في القاهرة”.
وأضاف “مصر أيضا مازالت تحافظ على روابط وثيقة مع حلفائها الخليجيين، خصوصا السعودية والإمارات، إذ تقول بعض التقارير إن السعودية وحدها أنفقت 25 مليار دولار في مصر في صورة منح ومساعدات واستثمارات مباشرة بين عامي 2014 و2017، كما ساعدت السعودية والإمارات في تمويل صفقات سلاح مصرية من روسيا”.
لكن التوغل الصيني المتزايد في مصر يشكل عنصر قلق في واشنطن، التي تعتمد على مصر كثيرا خصوصا في التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب. وفي يوليو الماضي أعلنت واشنطن الإفراج عن 195 مليون دولار من المساعدات التي كانت قد جمدتها في ما يتعلق “بشكوك حول الديمقراطية”.
ويقول محللون إن القرار الأميركي أثبت للمسؤولين المصريين أن سياستهم القائمة على المناورة بين القوى العظمى من أجل تحقيق أكبر قدر من المصالح، أثبتت فاعليتها. ولطالما بقي التعاون المصري الصيني في الحدود الاقتصادية، فلن يخلق الكثير من المحاذير في واشنطن. ويخشى مسؤولون أميركيون من تفكير يتبناه بعض المسؤولين المصريين بضرورة توسيع التعاون مع الصين ليشمل الجانبين السياسي والعسكري أيضا.
ويقول كالداس “إذا أصبحت الصين أكثر عدائية في شرق آسيا، وإذا ما تعاظمت طموحاتها في مصر، فمن المرجح أن يثير ذلك قوى أخرى أيضا، على رأسها اليابان التي لن تتردد في السعي لتعزيز نفوذها في مصر”. واليابان أحد أكبر المستثمرين الأجانب في مصر حاليا.
وعلى ما يبدو فإن المسؤولين المصريين يطورون مع الوقت قدرات كبيرة لبناء سياسة خارجية مرنة، ولاستغلال القوى الكبرى للضغط على بعضها البعض. ومصر من بين الدول القليلة في المنطقة التي تمارس هذه الاستراتيجية. وقد لخص السيسي سياسته الخارجية في السابق بالقول إنها تقوم على “تعزيز الروابط بين مصر والقوى الكبرى، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على استقلالية قرارها السياسي”.
ومن المرجح أن يستمر المسؤولون المصريون في دفع القوى ذات الوزن الثقيل على الساحة الدولية في الاتجاه الذي يرغبون فيه، في تكرار لاستراتيجية عبدالناصر، الذي وضع أسس هذه السياسة، واليوم يسير السيسي على نفس النهج تقريبا.
العرب