أيّا كانت النقطة الجغرافية التي نتطلع منها إلى السنة التي نودع آخر ساعاتها اليوم فإننا سنجدها سنة عصيبة.
وإذا كنت عربيّا فإن هذا الوصف قد يعتبر طفيفا فماذا يقول الفلسطينيون الذين نكبتهم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وافتتاح سفارة بلاده فيها ضمن خطة (تحمل العبارة التجارية «صفقة العصر») لإنهاء مشروع الاستقلال الفلسطيني ومعه دفن حقوق اللاجئين وتصفية سبل دعمهم وتصعيد التطبيع العربي مع إسرائيل للضغط عليهم؟
ما كان يمكن لما يدبّر للفلسطينيين أن يصل إلى هذه الحالة لولا المآل الكارثي للجغرافيا العربية التي حاولت بعض شعوبها، منذ عام 2011، أن تكسر قيود الاستبداد والطغيان التي كبلتها لعقود طويلة، فتكالبت عليها تحالفات دولية وإقليمية وعربية متعددة، وكان استخدام السلاح الكيميائي والمجازر والتهجير في سوريا، وإسقاط الحكومة المنتخبة بانقلاب عسكريّ ومجزرة كبرى لمعتصمين سلميين في مصر، ودعم مشروع الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، واشتراك الحوثيين وقوات علي صالح والتحالف العربي في تدمير أي أمل لليمنيين، إشارات إلى استعادة الثورة المضادة لزمام الأمور في المنظومة العربية، وانضافت مؤامرات الإمارات والسعودية في تونس لتشكيك العرب بالثورة الوحيدة التي استطاعت، حتى الآن، الصمود.
وإذا كان حال العرب على هذا السوء فلا بد أن ذلك يرتبط أيضاً، أو يساهم، في حال السوء التي تعاني منها شعوب إسلامية كثيرة، فتراجع الثورات أمام وحشية الثورات المضادة أدى، من ضمن ما أدى إليه، إلى اشتداد التطرف السلفي وابتلاع الحركات الجهادية العنيفة كـ»القاعدة» وتنظيم «الدولة» للقوى المدنية والديمقراطية، وكان ذلك أحد أهداف قوى الاستبداد التي سعت إليها بقوة لربط الثورات (أو حتى مقاومة الاحتلال والاستبداد) بالإرهاب والتطرف الجهادي، وقد استغلت دول في كافة أنحاء الأرض وحركات سياسية كثيرة هذه الظاهرة للتحريض والتشدد ضد المسلمين عموما ومعاملة الإسلام الشعبي أو المقاومة أو معاداة إسرائيل كمعادل للإرهاب.
كان منع إدارة ترامب دخول مواطني دول مسلمة أحد اشكال «العنصرية الناعمة» والمقننة التي لقيت كفاحا من قبل المؤسسة القضائية، ولجأت الحركات السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا إلى أشكال أخرى من التضييق القانوني، فيما قامت دول أخرى كالصين بتحويل الإسلام إلى «مرض نفسي جماعي» يمكن علاجه باعتقال أكثر من مليون شخص من أقلية «الأويغور»، أما ميانمار فلجأت إلى البطش الممنهج والاغتصاب والقتل والحرق لتهجير المسلمين فيها إلى بنغلاديش ودول أخرى.
وإذا كانت دول الاستبداد والطغيان والاحتلال قد سجّلت «انتصارات» على مواطنيها أو من تحتل أراضيهم وتستبد بشؤونهم، لكنّ هذا النهج المدمّر الذي يفصل العالم إلى «فسطاطي» الأقوياء والضعفاء انعكس بدوره على أولئك «الأقوياء»، فالأوضاع في أمريكا نفسها لم تستقر على حال، سواء بسبب التقلبات والكوارث الطبيعية أو بردود الفعل على سياسات ترامب المشتبك على كافة الجبهات، من قضية التدخل الروسي والفضائح التي تلاحقه، ومجازر العنف الداخلي، إلى الخلافات مع أوروبا وروسيا والصين، وليس انتهاء بإقفال الحكومة وحصار المهاجرين على حدود المكسيك.
أما أوروبا فقد عانت بدورها من تقلبات سياسية كبرى، فقوى اليمين المتطرف حصلت على مكاسب وشكلت حكومات في إيطاليا والنمسا وهنغاريا وبولونيا، وتراجعت شعبية أنغيلا ميركل لصالح القوى العنصرية والمعادية للأجانب، وشهدت فرنسا تظاهرات كبرى أجبرت حكومة إيمانويل ماكرون على التراجع، واستمرت الأزمة السياسية في بريطانيا على خلفية مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تشير هذه الأزمات المتعددة في كل أنحاء العالم إلى أن الإنسانية موجودة في مركب واحد وأن الأيديولوجيات المتطرفة تغذي بعضها بعضا، وأن منطق الاحتلال والاستبداد ولوم الآخرين هو منطق معاد للسياسة والطبيعة وهو آليّة لاستمرار النزاعات لا حلّها.
أملنا بسنة أفضل إذن يتعلق بحصول اتفاق عالميّ على حلول حقيقية للنزاعات بدل إعادة إنتاج أسبابها.
القدس العربي