يعتبر كتاب “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة” لكاتبه الإيراني إحسان نراغي إحدى الوثائق المهمة والضرورية لفهم الساحة السياسية والدينية في إيران، بل وفهم علاقاتها الخارجية وعلاقات جيشها وجهاز مخابراتها “السافاك” بالقوى الأجنبية، ذلك لأنه يغطي المرحلة الأهم في تاريخ إيران من 1978 ـ 1983، وهي المرحلة التي شهدت انهيار الملكية والإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي وقيام الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني، وما عاشته إيران من أزمات داخلية جراء هذا الانتقال، يتحدث الكاتب أيضا عن ظروف سجنه وعن العوامل التي دفعت بقيادة الثورة إلى رميه في ذلك الظلام مدة ثلاث سنوات.
الكتاب يقع في 316 صفحة من الحجم العادي، وقد نقلته إلى العربية ماري طوق ونشرته دار الساقي بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس سنة 1999، وكتب مقدمه الأستاذ محمد أركون.
التحليل الذي يقدمه الكاتب للثورة وأحداثها يخرج الكتاب من رف المذكرات الشخصية إلى علم الاجتماع، فتصبح تلك الأسباب وتحليلها جزءا من حالة اجتماعية قابلة للتكرار منفصلة عن الزمان والمكان، ولعل بعضا من ملامح الربيع العربي يمكن أن تقرأ بين صفحات هذا الكتاب، هذا يعطيه أهمية أخرى.
دور المؤسسة الدينية
يطرح الكاتب لأول وهلة أهمية رجال الدين في المشهد الإيراني؛ تلك الأهمية التي كان تجاهل الشاه لها أحد أسباب سقوطه المريع على يد الثورة الدينية، أثناء حديثه الأول مع الشاه قدم عالم الاجتماع الإيراني تحليله للخلفيات الدينية للاحتجاج الذي بدأ يتصاعد حينها ضد نظام الشاه، لقد كانت كتابات علي شريعتي ـ في رأي نراغي ـ المنظر الأول للثورة، وذلك لسببين:
ـ تركيزه على الطابع النضالي الدائم للمذهب الشيعي
ـ استعماله لغة غنائية بالغة التأثير على الشباب
المُنظِّر الثاني للثورة كان الخميني الذي زرع بذورها في تلامذته أيام كان مدرسا للفقه في قم، أولئك التلاميذ الذين أصبحوا فيما بعد رجال دين، اعتمد عليهم في إلهاب وقيادة الجماهير المنتفضة ضد ملكية الشاه.
“إذا كنت تريد ممارسة الامتيازات الملكية يجب أن تحترم امتيازات رجال الدين”، بهذه الكلمة أكد نراغي على مركزية رجال الدين في المشهد السياسي الإيراني ووضع الشاه أمام معادلة كان يريد أن يتجاهل أحد أطرافها، يبرز الدور السياسي لرجال الدين الشيعي من خلال بعض تفصيلات الفقه الشيعي التي تفرض على كل شيعي متدين أن يهب خمس عائداته للجهة التي يوصيه بها مرجعه الديني، هذا يخول لرجال الدين إمكانية تمويل أي مشروع يقتنعون به من خلال الأتباع.
التحول الاجتماعي
يظهر من خلال الكتاب أن الشاه كان يريد تغيير البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لإيران، بما يضمن استمرار حكم عائلته من بعده، وذلك من خلال منحه امتيازات اقتصادية وصفقات كبير لبعض رجال الأعمال الذي لا ينتمون للنسب الشريف، وكذلك وحشية جهاز السافاك الذي كان لا يمنح أي فرصة للاحتجاج، هذا التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الأحياء الشمالية وبين الأحياء الجنوبية من طهران هو ما عبر عنه الكاتب مجيبا الصحفيين حينما سألوه عن ما يجري أيام بدايات الثورة، فقال:”إنها المرة الأولى التي يحتل فيها الجنوب الشمال”.
هذا التفاوت تعكسه بطاقة راتب سائق الكتاب التي عرضها على الشاه في أحد حواراته، والتي بدا الشاه ـ وهو يقلبها ـ مستغربا، لأنه لم ير بطاقة راتب في حياته، ولم يكن يعرف ما يعنيه المبلغ الزهيد المكتوب فيها 1500 تومان.
التغلغل الأمريكي
يعكس الكتاب التغلغل الأمريكي في مفاصل الدولة الإيرانية، حيث كان يوجد بإيران نهاية الثمانينات 45 ألف أمركي يعمل 80% منهم في الجيش، كانت الأسلحة المعقدة التي اشترتها إيران من الولايات المتحدة تتطلب مساعدة متخصصين لا وجود لهم ضمن الجيش ولا في الصناعة الإيرانية، لكن هذا العدد الكبير من الخبراء يدل على تلهف الشاه لجعل جيشه ثالث قوة في العالم.
إلا أن هذه التبعية للولايات المتحدة لم تكن منسجمة ـ حسب نراغي ـ، على الصعيد السياسي، مع صورة بلد يطمح لأن يصير قولة إقليمية متفوقة، ولم يكن الأمريكيون يشرفون فقط على الجيش الإيراني بل كانوا في أعلى إدارة شركات الاتصال الرسمية، مما يمكنهم من مراقبة ومتابعة كل ما يجري في البلد من أعلاه إلى أسفله.
الملك المغيَّب
لم يكن الشاه ـ فيما يبدو من خلال محاوراته مع نراغي ـ على اطلاع كامل بما يجري، ذلك أن حكومة التكنوقراط التي منحها الثقة كانت تقوم بغربلة التقارير التي تردها حتى لا يصله إلا ما يطمئنه على الوضع، لذلك بدا مستغربا لتسارع أحداث الثورة، قال في أحد حواراته بانفعال:”لكن كيف أن أحدا من المسؤولين لم يفطن إلى وجود هذا السيل؟ من البديهي أن هذه الأزمة ليست ابنة البارحة”، أجاب نراغي:”الحكم التكنوقراطي الذي أقمته لم تكن لديه الوسائل لسماع صرخة الحقيقة”. ويضيف الكاتب في إجابته:”بما أنك انفردت بتحديد الأهداف، فإن النخبة اعتبرت أن دورها ينحصر في تزويدك بالمعلومات التي تتفق مع خط السياسي، هذه النخبة استعملت ذكاءها وعلمها لتتبعك، أي بدافع من قوة الأشياء ذاتها، لتمنع عنك الرؤية، أردت أن تضع تكنوقراطيين في كل مكان، والتكنوقراط آلة لا تجيب إلا على الأسئلة التي تطرح عليها، وهي لا تطرح الأسئلة من جهتها”.
من زاوية أخرى يقدم الكتاب تحليلا عميقا لنفسية مناضلي حركة مجاهدي خلق الإيرانية ، تعرف الكاتب عن كثب على هؤلاء حين جمعه بهم القدر في سجون الثورة، وشهد حواراتهم وأحاديثهم في الزنازين فاستطاع أن يلخص رؤيتهم بقوله:”كان مجاهدو خلق يعتقدون أنهم بتخليهم عن الجانب الفلسفي في المادية الجدلية يستطيعون اتخاذ الماركسية أساسا للعمل الثوري”.
الكتاب مهم بالنسبة للباحثين والمهتمين بالشأن الإيراني، وكن مؤلفه عالم اجتماع منحه قوة تحليلية عميقة للمجتمع الغيراني ونخبه السياسية وحركاته ومؤسساته، فهو كتاب يزاوج بين سرد الأحداث وتحليلها وتعليلها، ومن هنا تأتي أهميته وقيمته.
إحسان نراغي
عرض:الشيخ أحبان البان
موقع إسلام أون لاين