أسفرت الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا عن نتائج ذات مغزى كبير تشمل الحزبين الرئيسيين، «العدالة والتنمية» و«الشعب الجمهوري»، وكذلك تسري مفاعيلها على الأحزاب الأصغر سواء في مواقع الحكم أو المعارضة. فمن جانب أول حصل الحزب الحاكم وحليفه حزب «الحركة القومية» على أغلبية التصويت الشعبي بنسبة 52٪، ولكنه خسر اثنين من حصونه الكبرى في اسطنبول وأنقرة بعد أن هيمن عليها طوال ربع قرن. ومن جانب آخر، فاز حزب المعارضة في هاتين المدينتين وأنجز اختراقاً رمزياً وتاريخياً، ولكنه لم يحصل في مستوى الاقتراع الشعبي العام إلا على نسبة 30٪.
ولعل من المهم الإشارة إلى أن الانتخابات البلدية في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة لا تتمتع عادة بالزخم ذاته الذي تتصف به الانتخابات التشريعية، بالنظر إلى طابعها المحلي الصرف واقتصارها على شؤون الخدمات العامة وليس برامج الدولة العليا في الاقتصاد والأمن والسياسات الداخلية والخارجية وسواها. لكنها في المقابل تعتبر مؤشراً شديد الدلالة على توازنات القوة بين الأطراف الحاكمة والمعارضة، ومن هنا يُفهم انخراط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بصفة شخصية في حملة الانتخابات البلدية، ويصح بالتالي إدراك الخلاصة التي توصل إليها في أول تعليق له على نتائج الانتخابات، حيث أشار إلى ضرورة تركيز الحزب على الاقتصاد في المرحلة المقبلة.
المغزى الثاني المهمّ هو المشكلات البنيوية الذي يعاني منها الحزب الحاكم، وكانت السبب الجوهري وراء تقهقره في اسطنبول وأنقرة وعلى امتداد هذه الانتخابات البلدية إجمالاً، رغم أنه حافظ على الصدارة في نسبة الاقتراع العام. المشكلة الأولى هي أن سنوات السيطرة الطويلة على بلديات كبرى كانت تلقائياً تراكم ما يسمى «عبء الإدارة» الذي يتجسد في تراجع شعبية هذا العمدة أو ذاك، وتحميله المسؤولية عن مختلف مظاهر الخطأ والقصور، خاصة في ظلّ أزمات الليرة التركية خلال الفترة الماضية. وقد تتجلى المشكلة الثانية في الهوّة الجيلية التي لاح أنها تفصل بين مرشحي الحكم المخضرمين والكهول، ومرشحي المعارضة الشباب، كما في مثال مدينة اسطنبول بين مرشح «العدالة» بن علي يلدريم ومرشح «الشعب» الشاب أكرم إمام أوغلو.
المغزى الثالث هو تراجع الاستقطابات القومية والإيديولوجية الضيقة لصالح أجندات أوسع نطاقاً، كما في مثال «حزب الشعوب الديمقراطي» الممثل الأول للمكوّن الكردي في تركيا والذي مُني بخسارة مفاجئة لصالح «العدالة والتنمية» في مناطق من الجنوب الشرقي ذات أغلبية كردية ساحقة، كما فقد في الاقتراع الشعبي العام أكثر من ثلاثة ملايين صوت بالمقارنة مع آخر اختبار انتخابي للحزب السنة الماضية. الأمر ذاته ينطبق أيضاً على التيار القومي التركي متمثلاً في حزب «الحركة القومية» الذي انحدرت نسبته من 11٪ السنة الماضية إلى 7٪ في الانتخابات الأخيرة، كما خسر مدينتي أضنة ومرسين.
ويبقى المغزى الرابع والأهم وهو أن الديمقراطية التركية كانت الفائز الأكبر في هذه الانتخابات، مثل الغالبية الساحقة من انتخابات سابقة تشريعية أو بلدية أو رئاسية. فالتنافس كان محتدماً بالفعل ولكنه ظل سلمياً وحيوياً رغم حوادث طفيفة طبيعية، ورغم مناخات الاحتقان التي أخذت تسود مشهد الحريات العامة في تركيا بعد انقلاب 2016 العسكري. وفي هذا درس بليغ لعشرات أنظمة الحكم، في العالم المسلم على وجه التحديد.
القدس العربي