أكثر من 200 قتيل و450 جريحاً هي الحصيلة الدامية، لسلسلة التفجيرات والعمليات الانتحارية التي ضربت عدداً من الكنائس والفنادق الفخمة في أربع مدن سريلانكية بينها العاصمة كولومبو يوم أمس، في ذروة الاحتفالات المسيحية بعيد الفصح. ولم تعلن أية جهة مسؤوليتها عن هذه التفجيرات، لكن استهداف الكنائس تحديداً يشير إلى دوافع دينية وطائفية من جهة أولى، كما أن هذا الطراز من أعمال العنف والإرهاب غير منفصل عن وقائع سابقة تعود بجذورها إلى عقود طويلة وسبق أن تكررت مراراً، وإن كانت أعداد الضحايا في هذه الجولة غير مسبوقة.
كذلك تندرج أعمال العنف في إطار الاحتقانات الإثنية بين الأغلبية السنهالية التي تشكل 70% من السكان، والأقليات الأخرى من الهندوس والمسلمين والكاثوليك والبروتستانت، وعلى خلفية الحرب الأهلية التي استمرت 26 عاما بين متمردي نمور التاميل والحكومة المركزية. صحيح أن تلك الحرب قد بلغت نهايتها بانتصار الجيش السريلانكي واستسلام النمور في سنة 2009، إلا أن أسباب النزاع ما تزال مستعرة تحت الرماد، ولا يمر عام من دون أن تقع صدامات مسلحة في مختلف المناطق التي يعتبر التاميل أنها بمثابة إدارة ذاتية لهم بحكم الأمر الواقع وعامل الأغلبية السكانية.
يتداخل في هذا المشهد اختلاط الولاءات الدينية بالانتماءات الإثنية، فالمسلمون الذين يشكلون نسبة 10% من السكان قاتلوا إلى جانب البوذيين السنهاليين في مواجهة التاميل، لكن انتهاء الحرب الأهلية وضعهم مجدداً في صفوف الأقلية التي تعاني من التهميش والتمييز، ثم باتت ضحية التنميط الإجمالي في خانة «الإرهاب الإسلامي». وفي العام الماضي لجأت السلطات إلى فرض حظر التجول وإغلاق الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بعد قيام مجموعات بوذية بأعمال شغب وعنف ضدّ بعض المساجد والمناطق ذات الأغلبية المسلمة.
وليس خافياً أن الخشية تتركز الآن على عودة عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى سريلانكا، واحتمال أن يبدأ التنظيم في عمليات مماثلة لما تعرضت له الكنائس والفنادق يوم أمس، سواء بهدف رص الصفوف ورفع معنويات الأفراد، أو إطلاق حملات تبشير تسعى إلى تجنيد المتطوعين. ومن المؤسف أن الأوضاع الداخلية في سريلانكا يمكن أن تشجع التنظيم على تحقيق بعض أغراضه، فالقوانين الجنائية لا تزال متراخية ومطاطة بالنظر إلى أنها وُضعت على نحو يسمح للمسؤولين عن مجازر الحرب الأهلية بالإفلات من العقاب. كذلك فإن الأجنحة المتشددة في القيادات الدينية البوذية تواصل شيطنة الفئات الأخرى وخاصة المسلمين، بحيث بات من السهل على دعاة تنظيم «الدولة» أن يستحثوا عقدة الضحية لدى المسلمين، وخاصة الفئات الشابة.
وإذا شاءت سلطات سريلانكا أن تتفادى عمليات مثل هذه في المستقبل، فإن الواجب يقتضي أخذ جميع هذه العناصر بعين الاعتبار، في بلد يحمل 23 مليوناً من سكانه أوزار تاريخ طويل عاصف وتعقيدات دينية وإثنية وسياسية واجتماعية كثيرة. والأبرياء من مواطني سريلانكا دفعوا بالأمس ضريبة دامية جديدة لقاء تغاضي السلطات عن ضرورة علاج ظواهر الإرهاب من جذورها الاجتماعية والسياسية، والاكتفاء بالحلول الأمنية التي قد تفلح في إيقاف عملية واحدة ولكن هيهات أن تحقن فيض الدماء.
القدس العربي