منذ ان أطلق الرئيس دونالد ترامب حملته الشعواء على إيران التي ابتدأها بإعلان انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الذي تم إبرامه بين إيران ودول (5+1) وهو يسعى بشكل جاد لتضييق الخناق على إيران يوما بعد آخر. وكان موقف الأوروبيين محرجا جدا، فهم يحاولون تجنب الاصطدام بادارة ترامب المتشددة من ناحية، لكنهم من ناحية أخرى يبعثون بالتطمينات للإيرانيين ويحثونهم على التمسك بالاتفاق النووي بالرغم من ضغوطات إدارة ترامب.
الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية المنفردة بحق إيران دخلت حيز التنفيذ في الثاني من أيار/مايو الجاري، والإعلان الأمريكي عن حزمة العقوبات الجديدة اتسم بالتشدد المفرط والتهديدات التي أطلقتها إدارة ترامب بحق كل من سيتعاون مع إيران ويستمر بشراء البترول الإيراني. وكانت الخطة الأمريكية هي الوصول إلى تصفير صادرات النفط الإيرانية، وبالتالي حرمان إيران من حوالي 40 في المئة من دخلها القومي، بدعوى العمل على الحد من تدخلاتها في منطقة الشرق الأوسط، وحماية حلفاء الولايات المتحدة كإسرائيل والسعودية والإمارات من خطر التغول الإيراني في البؤر الساخنة في منطقة الشرق الأوسط.
القراءات المالية العالمية الأولية لتأثير العقوبات على إيران أشارت إلى التأثر الواضح للاقتصاد الإيراني بالعقوبات، فقد ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” في تقرير صدر على صفحتها الأولى لمجموعة من مراسليها في السعودية والإمارات وإيران بعنوان “الاقتصاد الإيراني ينهار تحت وطأة عقوبات البيت الأبيض” ذكرت فيه: “إن العقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سببت انهيارا في الاقتصاد الإيراني، حيث توضح إحصاءات صندوق النقد الدولي أن معدل النمو الاقتصادي تراجع بشدة بينما زاد معدل التضخم إلى نحو 40 في المئة”.
حزمة العقوبات الجديدة جاءت تصعيدا للمرحلة الأولى التي أدت إلى تراجع واضح في الاقتصاد الإيراني، إلا أن الحزمة الأولى من العقوبات لم تتسبب في الانهيارات التي كانت تتمناها الولايات المتحدة وحلفائها في مواقف إيران الإقليمية. فقد منحت إدارة ترامب استثناءات لثمان دول من العقوبات، وهي الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان وتركيا واليونان وإيطاليا وتايوان، مدة أشهر للبحث عن بدائل للتمويلات النفطية التي تحتاجها لتحل محل النفط الإيراني. وقد خضع بعضها فعلا للتهديد الأمريكي إذ لم ترغب دول كاليونان وإيطاليا وتايوان الاستفادة من الإعفاءات وقررت قطع الشراء فورا، بينما رفض البعض ذلك وأعلن عن استمراره في التزود بالبترول الإيراني وعدم تخليه عن التبادلات التجارية العملاقة مع إيران مثل تركيا والصين اللتان اعتبرتا العقوبات الأمريكية المنفردة بحق إيران تدخلا في الشؤون الداخلية، بينما ما يزال موقف الهند بهذا الخصوص غير واضح حتى الآن.
لقد أطلقت إدارة ترامب التحذيرات المشددة هذه المرة وتوعدت بفرض عقوبات حتى على الدول الحليفة لها في حال واصلت شراء النفط الإيراني. وأشار وزير الخارجية مايك بومبيو في هذا السياق وبلهجة تحذيرية: “في حال لم تتقيدوا فستكون هناك عقوبات” مضيفا “نحن عازمون على تطبيق هذه العقوبات”. وجاء في بيان للبيت الأبيض أن الرئيس ترامب ينوي التأكد من أن “صادرات النفط الإيراني ستصبح صفرا” وبالتالي “حرمان النظام من مصدر دخله الأساسي”.
الأوروبيون ونظام “إنستكس”
نتيجة لطلبات إيرانية وسعيا من الأطراف الأوروبية للتقليل من آثار الضغوط الأمريكية على إيران، تم التوصل إلى نظام مالي بديل يعرف باسم “إنستكس” وهي قناة أوروبية جديدة، والاسم هو اختصار لما يعرف بـ “أداة دعم المبادلات التجارية مع طهران”. وتستهدف الآلية الجديدة تفادي العقوبات الأمريكية عبر الاستغناء عن استخدام الدولار في تسوية الصفقات، أو المرور عبر شبكة التحويلات المالية “سويفت”.
وقد أنشأت كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا هذه الآلية المالية نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، وفي نهاية شباط/ فبراير الماضي، أعلن البنك المركزي الإيراني، أنه سيعمل على تأسيس كيان للتعاون مع الآلية المالية الأوروبية، مؤكدا في الوقت ذاته، أن هذه الآلية هي: “أقل بكثير من الالتزامات الأوروبية لمنع انهيار الاتفاق النووي” حسب ما أوردته وكالة “تسنيم” الإيرانية. ويرى خبراء الاقتصاد ان “إنستكس” يمثل آلية للالتفاف على العقوبات الأمريكية، ويهدف إلى تسهيل التجارة مع إيران.
وبالرغم من أن هذه الآلية ما تزال محدودة التأثير لأنها لا تغطي سوى الاحتياجات الأساسية من الغذاء والدواء والسلع الأساسية، إلا انها تمثل خطوة أولى تسعى إيران إلى تطويرها لتشمل قطاعات أخرى في الاقتصاد الإيراني تسعى لحمايتها من تأثيرات عقوبات ترامب. فقد نقل تقرير لصحيفة “غارديان” عن وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، أن نظام “إنستكس” سيركز في البداية على محاولة زيادة الإمدادات الإنسانية إلى إيران. إذ ان هذه الإمدادات، بما في ذلك الأدوية والمواد الغذائية، ليس من المفترض أن تخضع للعقوبات الأمريكية، بحسب ماس.
كما تهدف الخطة إلى توسيع الآلية للسماح للشركات الأوروبية بالتداول بحرية أكبر مع إيران في مجموعة من السلع، بما في ذلك تلك التي تخضع للعقوبات، حسبما قالت فيديريكا موغيريني، مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي. وإذا نجحت الخطة، فمن المحتمل أن تكون أكثر فائدة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي ليست لها روابط وامتدادات في الولايات المتحدة بهذا الخصوص.
وقد انعكس التخوف الأمريكي من الإجراءات الأوروبية في عدد من التصريحات الرسمية وغير الرسمية، إذ ذكر مستشار غير رسمي لإدارة ترامب لوكالة “أسوشيتد برس” إن لدى البيت الأبيض عدة نقاط مقلقة بخصوص الآلية المالية الجديدة، وهي تتعلق بإمكان أن تكون قادرة على التنافس بشكل فعال مع الآلية المصرفية الدولية الحالية “سويفت” كما يقلقها كذلك أن تستخدم دول أخرى خارج أوروبا الآلية الجديدة للحفاظ على تعاونها مع طهران. أما النقطة الثالثة فتعود إلى احتمال استغلال الآلية لتنفيذ عمليات خارج المجال الإنساني، رغم الوعود الأوروبية.
وما ان دخلت عقوبات ترامب على إيران حيز التنفيذ حتى قفزت أسعار البترول العالمية نتيجة للتوقعات بالعجز الذي سيسببه انسحاب البترول الإيراني أو تناقصه في السوق العالمي، إذ ارتفع سعر النفط إلى أعلى مستوى له منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وكسر حاجز 74 دولارا. وأشار أويغن فاينبيرغ المحلل الاقتصادي لدى بنك كومرتسبانك إلى أنه: “لا يمكن استبعاد زيادة أخرى للأسعار” وأضاف “في حال طُبقت القواعد بصرامة، فإننا نخاطر بزيادة سعر النفط بما يزيد عن ثمانين دولاراً في وقت قصير للغاية”.
وفي محاولة أمريكية لطمأنة المستهلك العالمي، أعلن البيت الأبيض في بيان رسمي أن الولايات المتحدة والسعودية ودولة الإمارات: “ستلتزم العمل بما يتيح بقاء الأسواق النفطية العالمية مزودة بما يكفي من كميات النفط المطلوبة”. وأعقب ترامب هذا البيان بتغريدة وعد فيها بأن تعمل الرياض مع دول أخرى من منظمة أوبك “على القيام بما هو أكثر من تعويض” النفط الإيراني. كما أعلنت السعودية استعدادها للعمل على بقاء السوق النفطية مستقرة.
وردت إيران على هذه التصريحات، إذ أبلغت منظمة أوبك أنه ينبغي عدم السماح لأي عضو في المنظمة الاستحواذ على حصة عضو آخر من صادرات النفط، معبرة عن قلقها من عرض السعودية ضخ مزيد من الخام في ظل العقوبات الأمريكية على مبيعات النفط الإيراني. وقال وزير النفط الإيراني، بيجن زنكنة، متحديا: “إن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على تقليص صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر مهما فعلت”.
ويرى عدد من خبراء الاقتصاد العالميين إن بإمكان إيران إيجاد حلول مبتكرة للوصول لبيع مليون أو مليون ونصف برميل يومياً، وهو ما تحتاجه من أجل تغطية نفقاتها الاقتصادية. وجاء هذا الاعتقاد بناء على تجربة التعامل الإيراني – الهندي في قطاع الطاقة القائم على نظام المقايضات، إضافة لتأثيرات ما يريد الاتحاد الأوروبي فعله مع الآلية المالية الجديدة في قطاعي الموارد البشرية والزراعة، والتي يمكن أن تمتد لتشمل قطاع النفط أيضاً.
ومن جانب آخر يتوقع بعض المراقبين، بناء على تجارب سابقة، أن تهديدات ترامب قد تكون غوغائية وغير جادة. وأشاروا إلى ما حدث في العام الماضي، إذ هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات صارمة على إيران، وقبل وقت قصير من دخولها حيز التنفيذ، كانت هناك استثناءات سخية، ويرون أن ذلك قد يتكرر هذه المرة وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.