بعد عام من الإعلان عن «الخلافة» على يد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف اختصارا باسم «داعش»، يبدو التنظيم غير قادر على التوسع ونشر أفكاره في العالمين العربي والإسلامي كما قد يظن البعض. الإشكالية كما يصورها الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، أحمد بان، تتلخص في أن مثل هذه الأفكار ليس لها مستقبل، لكن، في المقابل، يرى أن مسألة وجود «داعش» ومزاعمه عن تأسيس دولة الخلافة، ستستمر لسنوات في ظل وجود نظم حكم وطنية ضعيفة، مثل العراق وسوريا.
نعم تمكن «داعش» من خوض حروب شرسة في العراق وسوريا، ونفذ أعمال قتل وتخريب يشيب لها الولدان، لكن الفروع التي أعلنت الانضمام والمبايعة من درنة وسرت في ليبيا إلى سيناء في مصر ومناطق نفوذ بوكو حرام وشباب المجاهدين في أفريقيا وغيرها، تبدو بعد أشهر من تأسيسها، فروعا هشة ليست لديها القدرة على التواصل أو إيجاد صيغة يمكن من خلالها التفكير في شكل لدولة الخلافة التي عرفها المسلمون قديما.
ويلفت محمد صادق إسماعيل، مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، الانتباه، وهو يجيب عن الأسئلة من مكتبه في القاهرة، إلى ارتباط الخطاب الطائفي الإيراني بظهور «داعش» والخلافة المزعومة، قائلا إن هذا الخطاب الإيراني يساعد في التفاف البعض حول «داعش»، معربا عن اعتقاده في أن مصطلح الخلافة هذا جرى إطلاقه عشوائيا، لاستقطاب الشباب. ويضيف أن إيران حين قامت بتقوية الحوثيين في اليمن، بدأنا نسمع عن تنظيم داعش هناك أيضا، كما سبق وجرى في العراق وسوريا، على سبيل المثال.
ما زال التنظيم وخلافته المزعومة تنحصر على جانبي الحدود العراقية السورية، لكن تصرفاته تبدو مريبة. يتحرك بين الرقة والموصل.. أو بين الرقة والأنبار. وهو في الحقيقة يبدو، بحسب روايات من ضباط في الجيش السوري الحر، الذي يقاتل نظام بشار الأسد، تنظيما غريبا في نشأته وتوجهاته وغامضا في مستقبله.
أحد أعضاء القيادة العسكرية المشتركة في الجيش الحر، كان في زيارة لإحدى المدن الأوروبية، أخذ يروي لـ«الشرق الأوسط» عدة وقائع على الأرض، يتضح منها أن التنظيم يتدخل ضد معارضي النظام كلما اقتربوا من تحقيق انتصار ضد قوات بشار الأسد. لماذا؟ لا أحد يعرف. وفي العراق يشق التنظيم طريقه بفضل الدعايات الطائفية الإيرانية المبنية على تغذية الاقتتال بين الشيعة والسنة.
لكن كيف يفسر العميد مثقال النعيمي، من القيادة المشتركة للجيش الحر في سوريا، مسألة هجوم «داعش» بين حين وآخر على قوات المعارضة السورية كلما حققت تقدما ضد قوات الأسد. يجيب في مقابلة معه أثناء إقامته القصيرة في فندق كومبانيل، بباريس، أن تنظيم داعش مخترق.. «توجد لهذا التنظيم تجاوزات تدل على أنه مخترق. في الوقت الحالي توجد تصرفات في مناطق المعارك تخدم النظام. يوجد أناس مغرر بهم من داعش وغير داعش. لكن يوجد اختراق واضح».
كثير من الشخصيات العراقية والسورية التي تراقب تصرفات دولة الخلافة تربط الأمر بالنشاط الإيراني. يقول أحد هؤلاء: انظر للحشد الشعبي. ميليشيات شيعية تحاول التصدي لـ«داعش» بمباركة الحكومة العراقية. وفي هذه الأثناء تقوم هذه الميليشيات بارتكاب فظائع ضد القرى والبلدات السنية، بعد طرد «داعش» منها. هذا يعني أن السنة أصبحوا بين خيارين.. إما الانضمام لـ«داعش» وإعلان البيعة للخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي، وبالتالي صب مزيد من الزيت على نار الحرب الطائفية، أو هجرة بلداتهم إلى مدن عراقية أخرى أو الهروب من العراق وسوريا بالمرة.
لكن كيف ينظر المسؤولون العراقيون للأمر. تستطيع أن تستمع لعشرات الصريحات الدبلوماسية الحسنة. العراق يرفض الإرهاب والتطرف والطائفية. لكن الواقع على الأرض يتحدث بلغة مختلفة. مثلا: لماذا يتأخر تسليح السنة لمواجهة «داعش». كان الأمر صعبا للحصول على إجابات من هذا الرجل. إنه مسؤول في الحكومة العراقية يقوم بزيارة غير رسمية لفرنسا. قال بعد إلحاح: «داعش» والخلافة والبغدادي قضية مخابرات معقدة.
في فندق نوفوتيل القريب من مطار شارل ديغول في باريس، أشار أحد المرافقين لانتهاز الفرصة وفتح حوار معه. الأسئلة الأولى التي تتبادر إلى أذهان الصحافيين تتعلق بالحرب الدائرة بين الجيش العراقي وتنظيم داعش، وعلاقة إيران بالموضوع. في المساء كان الرجل يجلس وحده إلى منضدة أمام الفندق يدخن سيجارة. حين أدرك وجود فضوليين عرب، قال على الفور: لا أسئلة. لا إجابات. أنا لست هنا!
وبعد ساعات أخرى بدأ أكثر ميلا لإعطاء مؤشرات لـ«الشرق الأوسط» عما يجري. حين تنظر إلى «داعش» من فوق الجبل، سترى أنها تتكون من ثلاث مجموعات رئيسية. الأولى وهي النواة الأساسية والأكثر خطورة وجاهزية، تعمل داخل الأراضي العراقية، وتشن حربا شعواء في محاولة منها على ما يبدو للوصول إلى العاصمة بغداد. المجموعة الثانية ويتركز عملها داخل الأراضي السورية، ولها أهداف مختلفة مبنية على علاقات مشبوهة مع نظام الأسد. أما المجموعة الثالثة فهي تلك المكونات البعيدة التي تعلن من مدن أفريقية موالاتها للخلافة.
وتمكن التنظيم في العراق بتحالفه مع ضباط سابقين من حزب البعث، ممن يعملون في صفوف التنظيم، من تحقيق انتصارات على الجيش العراقي الذي تديره من بغداد حكومة متهمة بالطائفية والميل نحو دولة إيران بميليشياتها الشيعية.
الطائفية دافع أساسي مكن «داعش» من جمع أسلحة فتاكة وأموال ضخمة تجعل الحرب معه مرشحة للبقاء عدة سنوات. أما ملحقات التنظيم في سوريا فيمكن القضاء عليها في حال سقوط نظام الأسد، وتأسيس دولة موحدة. وبالنسبة لفروعه في أفريقيا، فهي هشة وعرضة للزوال بمجرد تقديم المساعدات اللازمة للحكومات الوطنية سواء في ليبيا أو غيرها من البلدان الأفريقية.
رأس الخلافة الداعشية موجود في العراق. وبمجرد الإعلان عنه في مثل هذا الوقت من العام الماضي، ظهرت قوة دافعة بين الشبان العرب والأجانب للالتفاف حول الخليفة الغامض. واجتاحت مجاميع من المقاتلين العراقيين والسوريين والليبيين والتونسيين ومن بلاد أجنبية، أراضي واسعة في شمال وشمال غربي العراق، وفي شمال وشمال شرقي سوريا.
وجرت محاولات من جانب عدد من فقهاء الخلافة لمد قنوات الاتصال مع درنة وسرت على البحر المتوسط، وهي النقاط الأقرب لأوروبا. كما جرى فتح طرق إلى شمال مالي وشمال نيجيريا. لكن هذه الانطلاقة التي أثارت القلق تعرضت لانتكاسات عسكرية وأخرى فقهية تتعلق بأهداف التنظيم وعدم ثباته على موقف محدد من الأصدقاء والخصوم.
عسكريا أدت ضربات التحالف الدولي إلى تراجع التنظيم من عدة مناطق في العراق مثل تكريت ومناطق في سوريا مثل عين العرب وتل أبيض. ومنذ ذلك الوقت تسببت الحرب التي يخوضها التحالف الدولي ضد «داعش»، في تغيير تركيبة السكان. ففي خضم عمليات الاقتتال والانتقام، جرى تهجير مئات الألوف من عرب وأكراد، بعيدا عن ديارهم. ويقول المسؤول العراقي، الذي طلب عدم نشر اسمه، وهو ينتظر إجراء مقابلات مع بعض سفراء الدول الغربية في باريس: لم يعد في قدرة أحد وقف التغيرات التي تجري بالفعل على الأرض.
وينظر تقرير أعده المركز المصري للبحوث والدراسات الأمنية، الذي يرأسه اللواء عبد الحميد خيرت، النائب السابق لرئيس جهاز الأمن الوطني بمصر، إلى وجود قوى في الإقليم تحت اسم محاربة «داعش» بعين الريبة. ويقول تحت عنوان «داعش ودول الخليج.. حسابات سياسية ومخاطر أمنية» إن وجود قوة كبرى داخل الإقليم لقيادة تحالف دولي إقليمي عسكري لمواجهة التنظيم المتطرف من شأنه إحداث خلل في الأمن الإقليمي، ومن المحتمل أن يستفز التواجد الكثيف للولايات المتحدة الأطراف الأخرى، وعلى رأسها إيران، ويدفعها إلى تسخير مواردها لموازنة هذا الدور. وهذا ما يبدو أنه يجري بالفعل بعد تزايد قوات الحشد الشعبي الموالية لطهران لمواجهة قوات الخلافة المزعومة.
تستطيع بكل سهولة أن تتحدث عن المؤامرات. لكن بالنسبة للقادة الذين يعملون على الجبهات يبدو الأمر مختلفا، كما يقول العقيد السوري في الجيش الحر الذي كان في طريقه من زيوريخ إلى مدينة إسطنبول التركية عائدا إلى مقاتليه. أنت حين تقول إن «داعش» له أهداف مشتركة مع النظام السوري، فهنا لا يمكنك تفسير السبب في سيطرة هذا التنظيم أخيرا على مدينة تدمر. فقد كان يأتي عبر هذه المدينة مدد كبير من المقاتلين الشيعة من العراق وإيران وأفغانستان لنصرة النظام السوري. هل ما زال هذا المعبر يستخدم في نقل مقاتلين للأسد تحت نظر «داعش». من الصعب قول ذلك بهذه البساطة.
أحيانا يقوم مقاتلو دولة «الخلافة» بشن حروب ضد الجيش الحر وجبهة النصرة التي تعمل هي الأخرى ضد النظام السوري. وأحيانا أخرى يبدأ في مهاجمة مواقع تابعة للحكومة السورية. حدث هذا منذ الصيف الماضي وما زالت الرؤية الغائبة مستمرة حتى الآن، وهذا أدى إلى خلافات بين فقهاء التنظيم، وتسبب في هروب المئات وعودتهم إلى بلادهم، خاصة من الليبيين والتونسيين والجزائريين.
ولهذا يعتقد أحمد بان أنه لا مستقبل لمثل هذه الأفكار، لكن المشكلة تكمن في أن مثل هذه التنظيمات تمكنت من الإعلان عن دولة «الخلافة» وتمكنت من السيطرة على نحو 60 في المائة من الأراضي في العراق وسوريا، مشيرا إلى أن التقديرات تتحدث عن وجود مؤثر في أكثر من مكان حول العالم سواء في ليبيا أو سيناء أو بعض مناطق شمال أفريقيا.
يقول الباحث بان لـ«الشرق الأوسط» أيضا أن الحقيقة هي أن كل إخفاق في الدولة الوطنية يصب في صالح هذه الخلافة المزعومة، ويعطيها فرص البقاء بما تمثله من إلهام للمجموعات «الجهادية» على امتداد دول العالم.. «أتصور أن كل إخفاق للدولة الوطنية وكل إخفاق لفكرة الدولة المدنية الحديثة، يصب مباشرة في صالح هذه المجموعات (المتطرفة)».
ويتابع قائلا إن موضوع دولة الخلافة للأسف سيستمر لأن التنظيم اختار لنفسه شعارا براقا ويبدو أن هذا الشعار يكتسب زخما مع مرور الوقت، خاصة مع إخفاق دول العالم، في الحقيقة، في مواجهة هذا الخطر. ويعتقد أن الدور الأميركي تحديدا يدعم الاتجاه الذي يؤدي لاستمرار «داعش».. «بهدف تقسيم وتفتيت دول المنطقة وإخضاعها لإسرائيل بالأساس، وجعل الدول كانتونات صغيرة في مواجهة إسرائيل بحيث ينتفي وينتهي الأمل لدى الشعوب العربية في تحرير فلسطين أو استعادة الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني».
ومن جانبه يضيف محمد صادق إسماعيل، قائلا إن دعوة «داعش» لتأسيس «دولة الخلافة»، تظل مجرد مصطلحات عشوائية جرى إطلاقها على مجموعة من الإرهابيين للإعلان عن أنفسهم بشكل أو بآخر. ويوضح أن مرور عام على هذه الخلافة المزعومة سببه في المقام الأول ضعف الأنظمة العربية، التي أدت لظهور «داعش» بالمنطقة.
ويقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «حين كانت هذه الأنظمة قوية لم تسمح بتمدد تنظيم القاعدة الذي كان يعمل على الساحة في السابق مثل داعش.. تتذكر تنظيم القاعدة حين كانت له أماكن محددة يتواجد فيها، حيث كانت الأنظمة العربية قوية، وهو لم يتمكن من نشر قواته بهذا الشكل كما يفعل داعش الآن».
ويعتقد مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن معظم الأسلحة التي يملكها «داعش» جرت سرقتها من الجيوش العربية، قائلا إن التنظيم هو مجموعة من المرتزقة كونوا جيشا. وهذا التنظيم أصبح، بعد عام من إعلان «الخلافة»، من أغنى التنظيمات الإرهابية في العالم، وهو يشير إلى النظرية التي يتحدث عنها المثير من العرب وهي أن «داعش» يصب في مصلحة أميركا.
ويقول إسماعيل: أرى أن أميركا مستفيدة من وجود «داعش»، ولا أنتظر منها أن تكون هي الدرع الواقي. أميركا هي التي تساعد مثل هذا النوع من الإرهابيين. لو عدنا للتاريخ لوجدنا أن تنظيم القاعدة نشأ، إذا جاز التعبير، بوساطة أميركية في أواخر تسعينات القرن الماضي، لتحقيق أهداف ضد الاتحاد السوفياتي حينذاك.
وبدلا من الاعتماد على أميركا، يضيف إسماعيل قائلا إنه ينبغي على الدول العربية أن تكون هي الدرع الواقي في مواجهة تنظيم داعش وليس دول الغرب الكبرى، و«لهذا فإن الموضوع الذي جرى طرحه في القمة العربية الأخيرة بشأن تأسيس قوة عربية مشتركة لمواجهة الإرهاب فكرة رائعة لا بد من تفعليها لمواجهة المخاطر التي تشهدها المنطقة».
ومثل كثير من المحللين يربط إسماعيل بين الخطاب الطائفي الإيراني وظهور «داعش» والخلافة المزعومة، قائلا إن لغة إيران الطائفية بشأن المذهب الشيعي، ساعدت في التفاف البعض حول تنظيم داعش.. «من أين يحصل الحوثيون في اليمن على الأسلحة المتقدمة، إن لم يكن من إيران التي تستفيد هي الأخرى، مثل إسرائيل، من زرع الفتن والقلاقل في المنطقة».
عبدالستار حتيته
صحيفة الشرق الأوسط