في استطلاعات رأي متتالية، جاء التقييم الإيجابي للولايات المتحدة لدى الأوساط السنية اللبنانية مرتفعاً، وذلك على خلاف الأرقام المتدنية لدى أوساط سنية عربية أخرى. ولا شك أن قدر من هذا التباين يعود إلى التجاذبات السياسية الداخلية في لبنان، حيث أن العديد من اللبنانيين السنة يعتبرون أن واشنطن، بالإضافة إلى الرياض وپاريس، تقدّم الدعم لرئيس الوزراء سعد الحريري في مواجهته المستمرة مع الفريق السياسي المدعوم من إيران والذي يقوده حزب الله. على أنه من الخطأ اعتبار هذا التماهي مع الولايات المتحدة مقتصراً على الأوجه العرضية.
ثمة قسم هام من اللبنانيين السنة، كما غيرهم من المواطنين اللبنانيين، يجد في الولايات المتحدة نموذجاً إيجابياً من حيث القيم ونمط الحياة. ويستمر هذا التقييم لديهم رغم أن الرأي الغالب في رئاسة دونالد ترامپ هو أنها متذبذبة ومعادية للغرباء، ورغم الامتعاض المستمر لانعدام التقدم بشأن القضية الفلسطينية.
غير أن هذا الموقف غير المعتاد من الولايات المتحدة يشكل إزعاجاً للجهد الإعلامي والثقافي السياسي المصطف مع «محور المقاومة» والذي تقوده إيران، والناشط في لبنان والمنطقة. فهو يأتي مناقضاً للمقولة التي تفترض بأن ما يحرّك القاعدة السنية هو الاندفاع المعادي للولايات المتحدة وإسرائيل، حتى إذا كانت مواقف قيادات هذه القاعدة، بحكم ارتباطاتها على مستوى المنطقة، لا تعكس هذا المزاج. بل إن إعلام المقاومة غالباً ما حاول توظيف هذا التباعد المفترض بين مواقف القيادات وموقف القاعدة الشعبية للضغط على الوجوه السياسية السنية بالمزايدة في خطابيات المقاومة، وذلك بناءاً على افتراض تجاوب الجمهور السني مع الطرح المقاوم المواجه للإمپريالية، بقديمها وجديدها. أما في حال غاب هذا التجاوب، وخفّت حدّة خشية هذا الجمهور لخطر العدائية والتوسعية الصهيونية، فإن قدرة محور المقاومة على التأثير والتوظيف والاستقطاب ضمن الطائفة السنية سوف تتراجع.
والأكثر تأزيماً، من وجهة نظر محور المقاومة، هو أن انتقال المزاج السني من موقعه المرتقب إلى آخر مغاير يضرّ بصيغة الرسائل الإعلامية المتوازية والتي يعتمدها هذا المحور. فهذه الصيغة قائمة على توجيه المضمون الإعلامي المحقق للاستقطاب إلى كل شريحة من الجمهور وفق ما يناسبها، مع الإيماء في كل حالة أن ما يوجّه إلى الشرائح الأخرى هو وحسب لأغراض الكسب العملي وأنه بالتالي لا يعتمد عليه، فيما هو في الحالة المعنية صادق وطويل الأمد، ويعوّل عليه وإن جاوره التشويش الناتج عن الحاجة في الحالات الأخرى.
فالرسالة العامة الموجهة إلى الجمهور السني هي أن إيران ومعها حلفاءها ثابتة ومبدئية في مواقفها المعادية لإسرائيل، وتخصَّص هذه الرسالة وفق الهوى المفترض للشريحة السنية المستقطبة لتركّز على أن جهد إنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين يأتي انتصاراً للفلسطينيين (كمجتمع سني شقيق)، أو دعماً للعروبة في استمكالها لتحرير الوطن العربي الكبير، أو تحقيقاً لكرامة الأمة الإسلامية. وعند حصول التجاوب من أي جانب سني، فإنه يوظّف تلقائياً في الرسالة الإعلامية الموجهة إلى الجمهور المسيحي من خلال إبراز التوجهات السنية القصوى، من الانشغال بالهويات العابرة للوطن، إلى ضعف الانتماء للبنان، مروراً بالميل الكامن للتشدد. وبالتالي في حال لم يستحصل إعلام المقاومة على التجاوب السني المطلوب فإن خسارته تكون مزدوجة.
وعليه فقد جاء تعامل وجوه إعلام المقاومة وسياسييه مع الحالة الفريدة التي يشكلها التقييم الإيجابي للولايات المتحدة في الوسط اللبناني السني، من خلال الإنكار أو اعتباره زعماً قائماً على التلاعب بالبيانات الاستطلاعية، أو إدراجه في إطار نتيجة جهد ترويجي يسعى إلى تحقيق الزعم. وقد نشط محور المقاومة كذلك بالتعويض من خلال إبراز الأصوات ضمن الوسط السني والخارجة عن هذا الرأي الغالب، بما في ذلك استدعاء أصداء المجموعات المسلحة التي كانت قد أنشأتها وموّلتها منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحروب اللبنانية الداخلية بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠. ولكن محور المقاومة لم يتمكن، باتجاه اعتماد سرديته، من استقطاب أي من الشخصيات السياسية البارزة والحاضرة لتحدي زعامة الحريري في الأوساط السنية.
وبالتوازي مع أسلوب متابعة الحالة السنية هذه، فقد اجتهد إعلام المقاومة بإشهار مقولة الازدواجية في الموقف السني بين السر والعلن، والتي أنتجت هجمات إعلامية على الشخصيات السياسية السنية على أنها «داعش بربطة عنق». والواقع أن هذه الهجمات مبنية في عدد من الحالات على ما هو بالفعل صفقات وعلاقات مشبوهة أقدم عليها سياسيون لبنانيون سنة مع مجموعات متطرفة، وإن كان الغرض منها معالجة مسائل آنية وموضعية. ومن هذه الحالات توفير الأرصدة المالية للجماعات المتشددة والمتطرفة مقابل إخلائها مواقع وبلدات للزعيم المعني مصالح فيها. بل يمكن ويجب مساءلة عدد من الزعماء السنة المتنافسين على دورهم في تأجيج الصراع الدامي المتكرر بين باب التبانة وجبل محسن في جوار طرابلس.
على أن هذه المناورات والخطوات من جانب الزعماء السنة، رغم ما تنضوي عليه من الأثمان وقصر النظر والازدواجية ليست جديدة على السلوك السياسي اللبناني عامة، ولا توازي بتاتاً جسامة ما أقدمت عليه قيادات محور المقاومة نفسها، في الكثير من الأحيان مع المجموعات المتطرفة نفسها. ولكن في الرسالة الإعلامية الضمنية لمحور المقاومة وسيلة للتملص، إذ تصوّر أي تواصل بين جانب المقاومة وهذه المجموعات على أنه مرحلي آني لخدمة غاية نبيلة، فيما أية علاقة بينها وبين الزعماء السنة هي دليل كاشف على انغماس الطائفة السنية بالتطرف والتشدد.
والقدرة على تسويق هذا الطرح الأخير في أوساط عدة داخل لبنان وخارجه يتطلب الوضوح في تبيان موطئ القدم المتحقق للتشدد في الوسط السني اللبناني، وذلك على حد سواء لتفنيد مزاعم إعلام محور المقاومة وللكشف عن الشروخ الحاصلة ضمن الطائفة السنية وإمكانيات توظيفها.
التدين والالتزام بالشعائر والتوجه الاجتماعي المحافظ هي من السمات البارزة للحياة الدينية والاجتماعية على مدى الأوساط المختلفة طبقياً ومناطقياً والتي بمجموعها تشكّل الطائفة السنية في لبنان. تختلف التقاليد وأنماط الحياة داخلياً في بيروت وطرابلس وصيدا، وهي المدن الرئيسية التي تحتضن حجماً سكانياً سنياً كبيراً، وذلك وفق التوزيع الاقتصادي الاجتماعي، كما تختلف إزاء الأرياف والأقضية التي تحوي بدورها حضوراً للبنانيين السنة. ولكن، في جميع الحالات، يبقى الدين وأثره الاجتماعي حاضراً، وإن اختلف بين بيئة وأخرى. ومع هذا، فإن الصورة الذاتية في معظم أوساط الطائفة السنية مبنية على الانفتاح والاعتدال والوسطية، باعتبارها القيم التي تعبّر بصدق عن جوهر الدين.
تاريخياً، شهدت الأوساط السنية في المشرق دعوات متكررة إلى التدين، وذلك لموازنة الاستقطاب المتواصل باتجاه المحيط الثقافي التعددي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. ولا تختلف بهذا الصدد البيئة السنية عن مثيلاتها المتعددة، إسلامية ومسيحية ويهودية. فالدعوة إلى التدين والالتزام بالتقاليد، والصادرة من شخصيات دينية علمائية وروحية كانت تهدف لمواجهة السيل الوافد من نماذج السلوك والاستهلاك الجديدة. وكان في طليعة هذه الدعوة رجال المؤسسة الدينية الرسمية، من مفتين وقضاة وشرعيين، بالإضافة إلى الزعماء الروحيين غير الرسميين، من أئمة المساجد وشيوخ الطرق. وهؤلاء وأولئك شكلوا معاً ما يشبه الطبقة الدينية التي تؤطر حياة المؤمنين وتوفّر لهم التوجيه والخدمات. على أن دعوات التدين هذه شهدت ضبطاً لجماحها ولا سيما من جانب الطبقة التجارية في المدن، بما هي عليه من تواصل ومصالح مع المحيط الثقافي التعددي. وكان على الزعامات في هذه المدن، وهي بدورها متعددة، أن تحكم وتوازن بين التوجهين المتعارضين.
وقد شهد القرن العشرين تبدلاً جوهرياً في طبيعة الحضور السني في لبنان. فردة الفعل التلقائية للزعماء والأعيان السنة يوم إعلان دولة لبنان الكبير كادت أن تكون الإجماع على الرفض. على أنه سرعان ما تبين لكل من الطبقتين السياسية والدينية فوائد الانضمام إلى هذا الوطن الصغير. فبعد أن كان دورها يقتصر على الهامش في السياق العثماني الزائل، أصبحت هاتان الطبقتان شريحة النخبة في الإطار الوطني الجديد، وشرعت كل منهما باستنساخ الأشكال المؤسساتية المعتمدة لدى الطائفة المارونية. وكانت هذه الطائفة، كما الطائفة الدرزية، قد طورت هذه الأشكال على مدى القرون االسابقة.
على أنه بقي للطائفة السنية في لبنان خصوصية على أكثر من مستوى. فخلافاً للطوائف المارونية والدرزية والشيعية، ليس للسنة في لبنان عمق ريفي خاص بهم، في حين أن أكبر تجمعاتهم هي في المدن. وهذا التوزيع المناطقي أسّس بدوره للتشظي السياسي، إذ قبل رفيق الحريري في تسعينات القرن الماضي، لم يكن بوسع أي زعيم سني أن يطمح للوصول إلى مقام زعيم كافة السنة في لبنان، وإن نال البعض منهم التقدير خارج منطقته. رفيق الحريري هو أول من تمكّن من جمع الطائفة سياسياً، وذلك من خلال التفوق على خصومه، كل في منطقته، بالخدمات والتعويضات. وما جرى بعد اغتياله وتغييبه المفاجئ عام ٢٠٠٥، من سعي وسط الفوضى إلى تنصيب ابنه سعد الحريري كزعيم هو شاهد على نجاحه في التغلب على منافسيه أو دمجهم بتياره.
السياسة في لبنان هي فعل موازنة بين الإقطاع الجديد في الداخل والولاء الجزئي في الخارج. فزعماء الطوائف ينشطون لتحقيق التحالفات (غير المتوازنة) مع القوى الخارجية النافذة، وذلك للحصول على المنافع التي يُمكنهم من خلالها كسب جمهورهم الداخلي، فيما يعملون على التخفيف من وطأة النفوذ الخارجي لكل من القوى التي يقيمون لها الولاء من خلال تنويع مجموعها. وحيث أن الطائفة السنية حديثة العهد نسبياً، ولكثرة الجهات السنية النافذة في الجوار والمتنافسة على التأثير والنفوذ في لبنان، فإن هامش المناورة لزعامات السنة في لبنان كان ضيقاً في العديد من الأحيان، دون أن يكون معدوماً. وعلى وجه الخصوص، فقد كان لمنظمة التحرير الفلسطينية حضوراً هاماً لدى الشرائح الاجتماعية والاقتصادية الدنيا، ولكنها لم تتمكن من استقطاب أي من كبار زعماء السنة، بل كان تعويلها على زعامات درزية وشيعية. أما الزعماء السنة، فتنقلوا في سعيهم لمعادلات الدعم والولاء بين مصر وسوريا والسعودية، إلى أن حسم رفيق الحريري هذا الترحال لصالح السعودية في التسعينات.
وقد كانت العلاقة بين الحريري والسعودية تحالفاً، وإن لم يصل إلى الندّية، بين طرفين كل منهما صاحب قرار. أما مع مقتل رفيق الحريري، فقد تحولت العلاقة إلى حالة وصاية توجّه الرياض من خلالها أبوياً سياسات الحريري الابن.
على أن التأثير السعودي على لبنان لم يتضمن جهداً متعمداً لنشر السلفية. بل بالرغم من أفول التأثير السياسي لمصر منذ السبعينات، فإن الطبقة الدينية السنية اللبنانية قد حافظت على علاقات مميزة مع الأزهر وكامل المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، واستمرت في اعتماد الوسطية الأزهرية في منهجها الديني. غير أن السلفية، والتي تركن إليها وتروّجها المؤسسة الدينية في السعودية، قد وجدت كذلك السبيل إلى لبنان من خلال الجمعيات الخيرية الأهلية، والتي ملأت فراغاً في المناطق المهمّشة، ولا سيما في الشمال اللبناني، وخاصة بعد خروج منظمة التحرير.
ومع ذلك، فالظاهر أن غالب اللبنانيين السنة يبتعدون عن التوجهات المتزمتة والمتشددة للسلوك الديني والتي تدعو إليها السلفية، رغم تماهيهم المرتفع مع السعودية. ويفيد المقربون من المؤسسة الدينية الرسمية في لبنان أن الحضور السلفي في الطائفة لا يتجاوز الخمسة بالمئة. وقد يكون هذا الرقم صحيحاً بالنسبة للمساجد التي يحضر فيها السلفيون أو يمسكون بها علناً. ألا أن السلفية، والجهادية المشتقة منها، قد ازدادت حضوراً ونفوذاً مع ارتفاع الامتعاض في أوساط سنية واسعة إزاء الهمينة والغطرسة من جانب حزب الله، بتبعيته الصريحة لإيران. بل أن هذه التوجهات تزداد حدة مع انتشار أخبار مظلومية السنة خارج لبنان، في كل من سوريا والعراق.
وقد تمكنت الحركات الإسلامية القطعية المتشددة من كسب عدد من اللبنانيين السنة، من الشرائح الوسطى والميسورة، بما في ذلك أحد الطيارين الذين نفّذوا اعتداءات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١. أما تأثير هذه الحركات على الشرائح الدنيا فهو أقرب إلى الصفقات والتعاقد، حيث يحصل المعوزين والمهمشين على المعنى والهدف، وتنال الجماعات الجهادية، من دولة إسلامية وقاعدة ونصرة وغيرها، على سيل متواصل من المقاتلين. ولكن العقيدة السياسية الإسلامية، بأشكالها القطعية والتوفيقية، لم تحقق الإنجاز الجدي في الوسط السني اللبناني. والصيغة اللبنانية من حركة الإخوان المسلمين، والتي تلتزم موقفاً سياسياً ولائياً محافظاً، هي طرف سياسي صغير مندرج بالكامل في الإطار السياسي اللبناني ومشارك بالأسواق الانتخابية.
غير أن القطعية قد وجدت لنفسها حليفاً غير متوقع، وذلك ضمن المؤسسة الدينية الرسمية، إذ تبالغ بالدعوة إلى التدين في سياق اعتراضها على ازدياد القبول في الوسط السني بالتوجهات المؤسساتية العلمانية. والمثال على ذلك هو في مسألة الزواج المدني الاختياري. فالزواج في لبنان، كما سائر الأحوال الشخصية، هو من اختصاص المحاكم الشرعية للطوائف. على أن الدعوة لتشريع الزواج المدني الاختياري تنال موافقة ما يقارب من خُمس الجمهور السني، وفق تقديرات الجهات المطلعة. ومن شأن تشريع الزواج المدني أن يطال عائدات المؤسسات الدينية لدى كل الطوائف اللبنانية. وقد أخذ مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان، وهو رأس هرمية المؤسسة الدينية السنية، على عاتقه مهمة الاعتراض على مناقشة موضوع الزواج المدني، بعبارات تخرج عن معايير الوسطية والاعتدال والتي تفاخر بها مؤسسته.
دريان شدّد على الرفض المطلق لفكرة الزواج المدني، وإن الاختياري، على أنها انتهاك للشريعة الإلهية وهدّد من يؤيدها أو من يتزوج مدنياً بأنه خارج عن الملة ولا يدفن بمقابر المسلمين. ودريان في هذه اللهجة المرتفعة يجاري ما أقدم عليه المفتي السابق للاعتراض على الزواج المدني، ما يؤصّل هذا التوجّه وينفي عنه صفة الكلام العرضي العابر. كما أن المفتي دريان قد تولّى أخيراً، نيابة عن العديد من المرجعيات الدينية، الاعتراض الصارم على إبطال العمل بتجريم المثلية ودعا إلى إجراءات أمنية متشددة لمنع المثليين من الحضور العلني في الوسط العام.
والواقع أن الطائفة السنية اللبنانية، والتي تشهر صفات الانفتاح والعصرية، قد تمكنت بالفعل من مقاومة الضغوط المتعددة باتجاه التطرف والتشدد، وذلك نتيجة بناها الذاتية الداخلية وتواصلاتها الاجتماعية الاقتصادية مع الطوائف الأخرى. أما الزعامات السنية، والتي تعرضّت لقدر جديد من التشظي بعد اغتيال رفيق الحريري، فهي لم تواكب الجهد الأهلي في مقاومة هذه الضغوط.
لا شك أن السبب هو أن هؤلاء الزعماء يواجهون صعوبات مشهودة وتحديات متواصلة لمواقعهم، ولكن التعويل على الدفاعات الداخلية للطائفة السنية لن يكون كافياً لمواجهة السعي القائم من جانب محور المقاومة لوسم الطائفة بالتطرف ولدفعها إليه. الزعم الحالي بأن الطائفة السنية اللبنانية هي بيئة حاضنة للتشدد والقطعية هو زعم كاذب، غير أن انسياب التطرف إليها، سواءاً من خلال مبالغات خطابية صادرة من المؤسسة الدينية أو عبر إقدام جهات متشددة، سلفية وجهادية، بتوفير الخدمات للأوساط المهمشة، من شأنه أن يجعل هذا الزعم صادقاً بعد حين.
العديد من زعماء السنة في لبنان لا يقدّمون أنفسهم على أنهم قادة لطائفتهم، بل يسعون جهاراً إلى موقع الزعامة الوطنية. فهم يجمعون في طواقمهم الكفاءات على أساس الخبرة، لا الانتماء الطائفي، ويمتنعون نهائياً عن الخطاب الفئوي. فللبناء على ذلك، ما قد يكون واجباً ومفيداً هو ترجمة المواقف المبدئية إلى خطوات عملية. ليس المطلوب من هؤلاء الزعماء تقديم خطاب عقائدي بديل عمّا يطرحه محور المقاومة، غير أنهم بوسعهم، والعديد منهم من رجال الأعمال الناجحين، أن يقدموا البدائل بما تراه العين، لا بما تسمعه الأذن، من خلال إظهار أن السبيل للتقدم هو المبادرة الحرة والتواصل مع العالم، لا الكلام الثوري والممارسات الشمولية. فاستطلاعات الرأي تفيد للتوّ بأن هذا هو بالفعل رأي القاعدة الشعبية. ومن الضروري كذلك، مع كامل الاحترام لشخص المفتي، من التأكيد على دوره كموجّه روحي، لا كصانع قرار. من واجب المفتي أن يقدم الموقف الديني من المسائل المطروحه، وللمؤمنين فرادى أن يلتزموا بفتواه طوعياً، ولكن الفتوى ليست القانون. خلافاً للنظم الأبوية السائدة في المنطقة، يلحظ النظام الجمهوري في لبنان أن صياغة القانون وإقراره والعمل به جزء من دورة تبتدئ من المواطن بصفته صاحب السيادة. فالأجدى بالزعامات السنية في لبنان التأكيد على هذا المبدأ وحمايته.
معهد واشنطن