عند الحديث عن مستقبل دول الخليج، يذكر البعض المثال النرويجي: دولة نفطية متقدمة لديها صندوق سيادي تضع فيه عائدات النفط التي يجري استثمارها عالمياً، والتي تدر عائداً جيداً على الحكومة النرويجية، كما يستدل البعض، بشكل خاطئ، بالمثال النرويجي، وكيف تلافت “لعنة النفط” أو “لعنة المصدر” كما يسميها البعض، إذ يؤدي الاعتماد على مصدر واحد للدخل إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية متعددة.
المشكلة أنه عند ذكر الاختلافات بين النرويج ودول الخليج، وكيف أن للنرويج وضعها الخاص، يدعي البعض بأنه كان يمكن بسهولة أن تتبع دول الخليج المثال النرويجي، وتتلافى المشاكل الناتجة من “لعنة النفط” التي من نتائجها الثنائية في الاقتصاد، ومعاناة القطاعات التقليدية، فإذا ما ذكر أمامهم أن أسعار البنزين في النرويج من الأعلى في العالم وأضعاف أسعار البنزين في السعودية، ينزعجون قائلين: كيف تقارن بلادنا بالنرويج؟ النرويج تختلف عنا تماماً!
لا يمكن للنرويج أن تكون مثالاً لأي دولة خليجية، لأن النفط اكتشف فيها بعد أن تطورت وأصبحت من الدول المتقدمة، بالتالي فإن مشاريعها الاقتصادية تركز على الرفاه، وليس على التنمية الاقتصادية، ولا يمكن أن تكون مثالاً.
عندما اكتشف النفط في النرويج، كانت نسبة الأمية أقل من 1 في المئة. الأمر معكوس تماماً في دول الخليج وإيران والعراق عندما اكتشف النفط فيها، وعلى الرغم من التحسن الهائل في دول الخليج، إلا أنها حتى الآن لم تخفض نسبة الأمية إلى المستوى الذي كان سائداً في النرويج عندما اكتشف فيها النفط.
وكنت كتبت في مقال سابق أن (محاكاة التجربة النرويجية تتطلب منظومة من الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يصعب تحقيقها خلال فترة وجيزة من الزمن. فما حصل في النرويج هو نتاج ثقافي لتطورات بدأت في الثورة الصناعية منذ أكثر من ثلاثة قرون، واستمرت حتى الآن، تخللتها حروب طاحنة وتغيرات جذرية في مجالات الحياة كافة. هذه المتطلبات تؤكد أمرين، الأول هو ضرورة التعامل مع الواقع كما هو بكل معطياته السلبية بعيداً من أحلام القفزات غير المنطقية، والثاني هو أن تجربة الدول النفطية، خصوصاً دول الخليج، هي تجربة فريدة ومستقلة، ويجب أن ينظر لها كذلك، حتى من قبل صندوق النقد الدولي).
وذكرت أن (نجاح التجربة النرويجية في الصندوق السيادي كان وراءه خبير عراقي تبنته النرويج. النجاح كان سببه ثقافياً: وجود ثقافة التبني، وثقافة “التبني” تختلف عن ثقافة “التوظيف”، ثقافة “التبني” تعني أن الجميع يتحدث بضمير “نحن”، بينما ثقافة “التوظيف” تعني الحديث بضمير “نحن” مقابل “هم”).
خلاصة القول، لا بد من الاستفادة من تجارب الدول المختلفة والتطلع الدائم إلى ما هو أفضل، إلا أن التركيز على المثال النرويجي وتجاهل الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت على مدى ثلاثة قرون في جعل النرويج بالشكل الذي نراه الآن هو مضيعة للوقت والمال، إن القفزة التي حققتها دول الخليج خلال فترة قصيرة نسبياً هائلة بكل المقاييس، إلا أنها كانت قفزة فريدة من نوعها أيضاً، لم تحققها النرويج ولا غيرها من الدول، بالتالي فإن لدول الخليج خاصيتها، ويجب دراسة وضعها وتقييمها بناء على ذلك.
النرويج والسيارات الكهربائية
محاولات تقليد النرويج لا تقتصر على الدول المنتجة للنفط، بل يمتد إلى الدول المستهلكة للنفط أيضاً، فالجميع يطمح إلى أن يكون مثل النرويج في تركيزها الشديد على السيارات الكهربائية، كما يقوم حماة البيئة ومؤيدو السيارات الكهربائية بالافتخار بتجربة النرويج في السيارات الكهربائية والترويج لها، على أنه الحل لكل الدول المستهلكة.
المشكلة أنه لا يمكن على الإطلاق استخدام النرويج كمثال، ولا يمكن تكرار التجربة في أماكن أخرى لأن وضع النرويج، السياسي والاقتصادي والطبيعي يختلف تماماً عن كل دول العالم.
فالانتشار الكبير للسيارات الكهربائية في النرويج يعود معظمه إلى أسباب اقتصادية بحتة تتضمن إعانات حكومية ضخمة جعلت السيارات الكهربائية أرخص من مثيلاتها بشكل كبير، وجعلت تكاليف ملكيتها أقل بكثير أيضاً، إلا أن محدودية الحركة في السيارات الكهربائية جعلتها “السيارة الثانية” التي تستخدم للمسافات القصيرة، بينما استمر النرويجيون باستخدام سيارات البنزين والديزل للمسافات الطويلة، الأمر الذي يفسر عدم انخفاض استهلاك البنزين بشكل مضطرد مع زيادة عدد السيارات الكهربائية.
ونظرة سريعة للدعم الذي تقدمه الحكومة النرويجية للسيارات الكهربائية يتبين أنه لا يمكن أي دول أخرى أن تكرر التجربة النرويجية، خصوصاً أن الحكومة النرويجية غنية جداً، ليس بسبب الصندوق السيادي فقط، ولكن بسبب الضرائب التي تفرضها والتي تعد من الأعلى في العالم، وفي ما يلي أهم وسائل الدعم للسيارات الكهربائية:
1- أسعار البنزين في النرويج من الأعلى في العالم.
2- السيارات الكهربائية معفاة من ضرائب القيمة المضافة ومعفاة من الضرائب الإضافية على السيارات المستوردة، هذه الضرائب قد تصل إلى عشرات الألوف من الدولارات إذا كانت السيارة نفسها تسير بالبنزين أو الديزل.
3- معظم الكهرباء في النرويج تأتي من أرخص موارد الطاقة: الكهرومائية، والتي يعتبرها البعض طاقة متجددة.
4- تاريخياً، لم يكن هناك أي رسوم على استخدام السيارات الكهربائية للطرق السريعة، بينما تدفعها السيارات الأخرى. إلا أنه حتى عندما قامت بعض المحافظات بفرض رسوم عليها، كانت هذه الرسوم ربع رسوم السيارات العادية.
5- إمكانية وقوف وشحن السيارات الكهربائية مجاناً في المواقف العامة.
6- استخدام السيارات الكهربائية للمسارات الخاصة بالحافلات أو بالطرق التي تتطلب وجود أكثر من شخصين بالسيارة، والذي يمكّن صاحب السيارة من تفادي الزحام.
إلا أن نظرة بعض صناع القرار في النرويج لما يحصل بدأت تتغير، وقد يجري إلغاء العديد من الميزات المذكورة أعلاه، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ماذا سيحصل بعد 10 سنوات من الآن عندما تصبح هذه السيارات الكهربائية قديمة، في وقت لا توجد فيه غالبية الحوافز المذكورة أعلاه؟
خلاصة القول إن النرويج حالة خاصة لا يمكن لمنتجي النفط أو مستهلكيه استخدامها كمثال وتقليدها.
اندبندت العربي