في 23 أيلول/سبتمبر، أصدرت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بياناً مشتركاً بشأن الهجوم على منشـأتي النفط السعوديتين في بقيق وخريص، أشارت فيه إلى أنه “من الواضح لنا أن إيران تتحمل مسؤولية هذا الهجوم. ولا يوجد أي تفسير منطقي آخر [لما حدث]”. ومع ذلك، تواصل طهران إنكار ضلوعها في الحادثة، لذلك سيحتاج المجتمع الدولي إلى رؤية أدلة مقنعة قبل اتخاذ تدابير دبلوماسية مشتركة. ويبدو أن تحقيقاً جنائياً متعدد الأطراف يأخذ مجراه، ويُحتمل أن يشمل الأمم المتحدة ومجموعة من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. ولتحقيق توافق واسع النطاق، يجب النظر إلى هذا التحقيق على أنه احترافي ونزيه، ويوازن بين الحاجة إلى التوصل إلى نتائج سريعة مقابل بيان شامل وواضح عن الوقائع صادر عن أطراف محايدة.
التحدي في إثبات التورط الإيراني
إن التقييم غير الصحيح الذي أجرته واشنطن لأسلحة الدمار الشامل العراقية عام 2002 ألقى بظلال كثيفة على الجهود الأمريكية اللاحقة لتقديم الأدلة إلى المجتمع الدولي المتشكك، بما في ذلك الوضع الراهن. ويشعر الكثير من المسؤولين أيضاً بالقلق إزاء منح إدارة ترامب الضوء الأخضر فعلياً لاتخاذ إجراءات عقابية قد تؤدي إلى صراع إقليمي أو تُعمّق المشكلة النووية الإيرانية.
وفي ظل مساعي المسؤولين الأمريكيين وحلفائهم لتذليل هذه العقبات، سيتعيّن عليهم النظر في 3 نظريات رئيسية حول مصدر هجمات 14 أيلول/سبتمبر:
اليمن. في اليوم الذي شُنّ فيه الهجوم المشترك باستخدام طائرات بدون طيار وصواريخ موجهة، تبنّى المتمردون الحوثيون المرتبطون بإيران في اليمن مسؤوليتهم عنه. ومع ذلك، فقد فعلوا الأمر نفسه بعد أن تعرّضت السعودية لضربات بطائرات بدون طيار في 14 أيار/مايو – وهو الهجوم الذي تبيّن لاحقاً أنه انطلق من العراق. والأمر الأكثر أهمية، أن الولايات المتحدة سرعان ما استبعدت أن يكون اليمن مصدراً محتملاً للهجوم الأخير، في وقت أشار فيه العديد من المراقبين إلى أنه لم يكن بإمكان الطائرات بدون طيار التي نفّذت الهجوم – وبلغ عددها 18 طائرة – عبور مسافة بعيدة بهذا القدر.
العراق. تساءل البعض عما إذا كانت الجماعات الإيرانية بالوكالة في العراق قد شنّت الهجوم. وفي 15 أيلول/سبتمبر، نفى رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي هذا الادعاء، وكررت الحكومة الأمريكية تقييمه هذا في اليوم التالي.
إيران. بعد استبعاد اليمن والعراق، خلصت واشنطن إلى أن الضربة شملت أسلحة إيرانية أُطلقت من الأراضي الإيرانية. غير أنه لم يتم بعد نشر الأدلة الداعمة لهذا الاستنتاج، ولكن أشرطة الفيديو المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى أنه تمّ رصد وسماع صوت الطائرات بدون طيار والصواريخ المتوجهة نحو السعودية بالقرب من حدودها مع إيران والكويت، مما يشير إلى أنها ربما أُطلقت من جنوب إيران وعبرت جنوب العراق.
ومن أجل إثبات النظرية الثالثة، يتطلب أن تفي السعودية بالقاعدة الذهبية الدلالية، وهي: الإظهار بأن الأسلحة لم تكن إيرانية الصنع فحسب، بل أُطلقت من إيران أيضاً. ومع ذلك، ستظل طهران تتحمل مسؤولية كبيرة إذا كانت الأسلحة إيرانية المصدر ولكن تمّ إطلاقها من بلد آخر.
تحديد مصدر الأسلحة
يمكن أن تكون الجهود السابقة لتحديد الأسلحة الإيرانية مفيدة للمحققين أثناء محاولتهم معرفة مصدر الطائرات بدون طيار والصواريخ المستخدمة في 14 أيلول/سبتمبر. ففي عام 2016، كانت الاستعانة بأخصائيين مستقلين في مجال المعلومات الفنية للأسلحة وبفريق “خبراء متخصص تابع للأمم المتحدة” (“فريق الخبراء”) ضرورية في الكشف عن المصدر الإيراني لأنظمة الأسلحة المتعددة التي تستخدمها قوات الحوثي – وهي مهمة كان التحالف بقيادة السعودية قد أساء إدارتها حتى تلك المرحلة. ومن بين النتائج الأخرى هو إثبات المحققين أن إيران وفّرت أسلحة صغيرة وخفيفة وعبوات ناسفة وطائرات بدون طيار وصواريخ والتكنولوجيا الضرورية لتحويل مركب من نوع “شارك-33” إلى مركب مائي متفجر موجه.
يمكن التوصل إلى مثل هذه الاستنتاجات من خلال الفحص الدقيق للمكونات الداخلية للأسلحة، لأن المواد التي تستخدمها إيران أو توفرها للآخرين غالباً ما تضمّ أجزاء تجارية متشابهة ومصممة حسب الطلب. على سبيل المثال، كانت الأسلحة المستخدمة في الهجمات السابقة في اليمن وإسرائيل والبحرين تحتوي على أجهزة تحكم دقيقة جداً وغطاء من الأسلاك يتقلص بالحرارة ذو العلامة التجارية نفسها، مما مكّن السلطات من نسبها بشكل حتمي إلى إيران. وفي حالة أخرى، كانت صواريخ “قيام-1” التي تم تسليمها إلى اليمن لا تزال تحمل خواتم وملصقات ضمان الجودة من الشركات المُصنِّعة الإيرانية.
ومنذ عام 2018، عزّز السعوديون تعاونهم مع “فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة” المعني باليمن، ويجب الإشادة بهم لدعوتهم على الفور إلى محققي الأمم المتحدة للمساعدة في التحقيق في الهجوم الأخير. ومع ذلك، تحتاج المملكة إلى المزيد من المساعدة في كيفية التعامل مع الأدلة. فالعرض الذي قدمته في 18 أيلول/سبتمبر لأجزاء الطائرات بدون طيار والصواريخ لم “يحمل الكثير من الأدلة” التي قد يراها معظم المراقبين منطقية أو مقنعة. وتحتاج الرياض أيضاً إلى المساعدة في تسجيل وتوثيق جمع المواد ونقلها وعرضها لضمان تسلسل العهدة، وفي الحفاظ على المواد من هجمات مختلفة من التعرض للاختلاط أو “التلوّث” بسبب تخزينها في مستودع واحد.
ورغم أن الانخراط بشكل استباقي ومستدام مع “فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة” المعني باليمن قد يساعد على حلّ هذه المشاكل، إلا أن الأمم المتحدة ليست معصومة عن الخطأ في المسائل المتعلقة بجمع الأدلة. وقد ثبت ذلك في تقرير “فريق الخبراء” لعام 2018 الذي زعم أن محرّك التحكم في طائرة حوثية بدون طيار مصدره موزع إيراني – وهو استنتاج مستحيل لأنه لا يمكن التوصل إلى ذلك بالاستناد فقط إلى نوع النموذج. ولا يمكن أن تكون الأمم المتحدة قد خلُصت إلى هذا الاستنتاج فقط من خلال ربط أرقام تسلسلية منفردة على محرّك التحكم ببائع محدد من دون تحديد الأرقام التسلسلية. وناهيك عن التشكيك بنزاهة تقارير الأمم المتحدة، فإن مثل هذه الأخطاء تسلّط الضوء على طبيعة نظام “فريق الخبراء” الذي لا يملك موارد كافية، حيث يُتوقّع من “خبير أسلحة” واحد أن يكون ملماً بكافة المجالات، من المسدسات إلى الصواريخ الباليستية وجميع أنواع الأسلحة الأخرى.
كما أن “فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة” المعني باليمن مقيّد بجدوله الزمني الخاص يإعداد التقارير – فهو يُصْدر عادةً تقارير سرية نصف سنوية وتقريراً علنياً سنوياً حوالي شهر كانون الثاني/يناير، وقد لا تتلاءم هذه الوتيرة مع الحاجة الراهنة إلى إعداد تقارير سريعة ومحايدة. ومن أجل تسهيل إجراء المزيد من التحليل وإصدار المعلومات بشكل سريع، على الأمم المتحدة التعاقد مع منظمات تجارية متمرسة وذات سمعة طيبة في مجال المعلومات الفنية للأسلحة.
تحديد نقاط الإطلاق
من المحتمل أن يتمتع المسؤولون الأمريكيون بنفاذ إلى صور الأقمار الصناعية/الطائرات بدون طيار، والاستخبارات الإلكترونية و/أو اعتراض الاتصالات التي تثبت أن الهجوم أُطلق من داخل إيران. وفي الحالات الطبيعية، يترددون في الكشف عن مثل هذه الأدلة خشية تعريض المصادر والأساليب المستخدمة للخطر، ولكن يجب أن تكون هذه الحالة استثناءً. ففي لحظة مهمة بالنسبة لمصداقية الولايات المتحدة أمام الأمم المتحدة، وفي أعقاب إحدى أخطر الانتهاكات التي ترتكبها إيران للأمن العالمي، قد يستحق الأمر الإقدام على هذه الخطوة الإضافية لإقناع المجتمع الدولي. وهناك سابقة لانتهاك هذا الحظر على الاستخبارات – ففي عام 1983، نشرت الولايات المتحدة اتصالات عبر الراديو تمّ اعتراضها لإثبات أن السوفييت أسقطوا عمداً “الرحلة 007” التابعة للخطوط الجوية الكورية.
أما في الحالة الراهنة، فقد تتمكن السلطات من معرفة نقاط مسار “نظام التموضع العالمي” وبيانات الرحلة من وحدات التوجيه في الأسلحة التي نفذت الهجوم. وإذا فعلت ذلك، عليها إرسال هذه البيانات إلى محققي الأمم المتحدة ومنحهم النفاذ إلى الأقراص الصلبة الأصلية، إلى جانب أي تسجيلات لتسلسل العهدة. ولن يتيح ذلك للأمم المتحدة التحقق من مسار هذه الأسلحة فقط، بل ما إذا كان قد تمّ جمعها من موقع الهجوم الذي وقع في 14 أيلول/سبتمبر بالفعل أيضاً.
وقد انعكست ضرورة هذه الخطوة في مركب “شارك-33” المائي المتفجر الموجه الذي استولى عليه التحالف بقيادة السعودية في اليمن في أوائل عام 2017. لكن الرياض لم تسمح قط للأمم المتحدة بالاطلاع على البيانات المجمّعة من نظام حاسوب المركب، الذي تضمّن صوراً من داخل منشأة «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني حيث تمّ تطوير الحاسوب وإحداثيات دقيقة لـ “نظام التموضع العالمي” من المصنع الإيراني. كما تم رفض تزويد الأمم المتحدة بالمعلومات عن مكان الاستحواذ على المركب. ونتيجةً لذلك، لم تتمكن من الاستنتاج بأن إيران قد ساعدت على تحويل المركب إلى زورق مائي متفجر موجه. وعندما تمّ الكشف عن جزء كبير من هذه المعلومات للجمهور في وقت لاحق، أظهرت أن السعوديين قد أهدروا ما كان يمكن أن يشكّل ضربة قاضية من الناحية الاستخباراتية.
التداعيات على السياسة الأمريكية
بما أن الحكومتين الأمريكية والسعودية تعانيان عجزاً في الثقة في أمور مثل الهجمات الإيرانية، فيجب عليهما اعتماد شفافية أكبر في هذا الموضوع وترك الأدلة تتحدث عن نفسها. وهذا يعني السماح للأمم المتحدة أو الجهات الفاعلة المحايدة الأخرى بعرض القضية على الملأ. وكما أقرّت بريطانيا وفرنسا وألمانيا سابقاً، فإن الأدلة القائمة ملزمة، لذلك لن تصبح أقل إقناعاً إلا بسبب التعامل معها بطريقة غير ملائمة أو فرض قيود على مشاركتها أو عرضها بشكل سيئ. وعلى واشنطن أيضاً حثّ الرياض على الاستعانة بأخصائيين مستقلين في المعلومات الفنية للأسلحة لتحسين تعاملها مع الأدلة. وعلى المدى الطويل، عليها أن تدعم زيادة تمويل نظام “فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة” لكي يتمكن من اكتساب الخبرة الضرورية لتحقيق نتائج موثوقة والاحتفاظ بها.
معهد واشنطن