دفع القرار الذي اتّخذته تركيا مؤخراً بشأن شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي “أس-400” بالكثيرين إلى التساؤل عمّا إذا كانت أنقرة تنوي الابتعاد عن الغرب. ومن المنطقي طرح أسئلة مماثلة نظراً إلى الخطوات الكثيرة التي اتخذها الرئيس رجب طيب أردوغان لتمييز بلاده من الناحيتين السياسية والثقافية عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أنه يدرك أيضاً مدى حاجته إليهما لدفع عجلة اقتصاد بلاده قدماً، والفوز مجدداً في الانتخابات، والحرص على إبقاء المظلة الأمنية لحلف “الناتو” في وجه روسيا، التي تعتبر خصماً جيوسياسياً لا يمكن لأي اتفاق أسلحة فردي أن يمحو العداوة التاريخية العميقة التي تكنّها للأتراك.
النظر في دور “الاستراتيجية الغربية”
على الرغم من أن أردوغان وصف الدول الغربية على نحو متكرر بأنها “الطرف السياسي الآخر” لتركيا من خلال مجموعة من التحركات الشعبوية في السنوات الأخيرة، إلا أنه يدرك أن الجزء الأكبر من نجاحه في الانتخابات منذ عام 2002 يعود إلى الحجم القياسي من الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي جاءت في معظمها من أوروبا التي استقطبتها تركيا خلال تلك الفترة. فقد دفعت هذه الأموال النقدية نمو البلاد، وعززت بدورها قاعدة ناخبي أردوغان التي انجذب معظم أفرادها إليه لأنه انتشلهم من الفقر.
ووفقاً لذلك، لا يزال أردوغان يرغب في إبقاء تركيا جزءاً من “الغرب الاستراتيجي”، وهو نادٍ يضم دولاً أعضاء في حلف “الناتو” و”منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”. وفي أعقاب أزمة العملة عام 2018، يدرك أردوغان أن أوروبا والولايات المتحدة و”صندوق النقد الدولي” هم وحدهم المستعدون لإنقاذ بلاده في حالة حدوث انهيار مالي، والقادرون على القيام بذلك. وبالنظر إلى حجم اقتصادها، لا يمكن لشركاء مرحليين مثل روسيا وإيران توفير الأموال اللازمة للتخفيف من هذه الأزمة، ويبدو أن الصين غير راغبة في القيام بذلك في ضوء افتقارها للمساعدة حتى الآن – ناهيك عن خلافاتها مع أنقرة بشأن الأقلية الأويغورية التركية في شينجيانغ المضطربة.
الحفاظ على أنماط التجارة، وجذب الاستثمار
بينما تناهز فاتورة واردات تركيا السنوية من الطاقة 30 مليار دولار، إلّا أن البلاد تحتاج إلى استثمارات أجنبية أو تدفق للأموال المتنقلة بعشرات مليارات الدولارات كل عام للحفاظ على معدل نمو يتخطى نسبة 4 في المائة سنوياً. علاوةً على ذلك، إن طبيعة صفقات تركيا الاقتصادية وتجارتها مع الصين وروسيا وإيران والشرق الأوسط الأوسع نطاقاً غير متناسقة تماماً ولا تتطابق أبداً مع سلاسل إمداداتها من “الغرب الاستراتيجي”. وبالمقارنة مع العجز التجاري الكبير الذي تسجله أنقرة مع بكين وموسكو، فإن روابطها التجارية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أكثر توازناً.
على سبيل المثال، في عام 2018، بلغت قيمة الواردات التركية من الصين 20.7 مليار دولار، في حين بقيت صادراتها عند 2.9 مليار دولار. وبالمثل، وصلت قيمة وارداتها الإجمالية من روسيا إلى 22 مليار دولار، بينما لم تتجاوز صادراتها 3.4 مليار دولار. ويقيناً، نوّعت تركيا شركاءها التجاريين الأجانب في عهد أردوغان، حيث شكّلت الدول غير الغربية حوالي 44 في المائة من تجارتها العام الماضي. ومع ذلك، لا تزال دول الاتحاد الأوروبي تمثّل وحدها 42 في المائة، في حين يمثّل الغرب الاستراتيجي ككل 56 في المائة. في الموازاة، تشكّل روسيا والصين ودول «مجلس التعاون الخليجي» مجتمعةً 16 في المائة فقط. وبالتالي، من السابق لأوانه الحديث عن تحوّل اقتصادي كبير بعيداً عن الغرب، كما أن التنوّع الذي شوهد منذ عام 2002 لم يمنح أي مجموعة من الدول غير الغربية ميزة واضحة.
ولا تساهم الأرقام الأخرى سوى في تعميق هذه الفجوة. على سبيل المثال، كانت أبرز أربع وجهات تصدير لتركيا في عام 2018 هي ألمانيا (16.1 مليار دولار)، وبريطانيا (11.1 مليار دولار)، وإيطاليا (9.6 مليار دولار)، والولايات المتحدة (8.3 مليار دولار)، وكلها أعلى بكثير من روسيا والصين. فيما يتعلق بأوروبا ككل، كانت تركيا رابع أكبر سوق تصدير للاتحاد الأوروبي وخامس أكبر مزود للواردات في العام الماضي، مما جعل أوروبا الشريك التجاري الأكبر لأنقرة.
والأمر نفسه ينطبق على الاستثمارات. فعلى الرغم من تنوّع شركاء تركيا على هذا الصعيد، إلّا أن حصة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتلقاها من “الغرب الاستراتيجي” قد زادت كذلك، مما يشير إلى وجود روابط مالية أقوى حتى مما كانت عليه في الماضي. ففي عام 2005، جاءت نسبة 60 في المائة من صافي تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من دول “الناتو”/”منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (من بينها 58 ٪ من الاتحاد الأوروبي)، ولكن هذا الرقم قد ارتفع إلى 78 في المائة بحلول العام الماضي (61 ٪ من الاتحاد الأوروبي). بعبارة أخرى، ترافق النمو الاقتصادي غير المسبوق الذي شهدته تركيا في القسم الأكبر من ولاية أردوغان مع اعتماد مالي متزايد على الغرب، ولا سيما أوروبا.
وفي المقابل، تراجعت نسبة صافي تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من روسيا والصين ودول «مجلس التعاون الخليجي» وبقية دول الشرق الأوسط خلال الفترة المذكورة. لكن مع ذلك، تمكنت تركيا من تنويع مصادر استثماراتها، حيث ازدادت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من جميع البلدان الأخرى من أقل من 1 في المائة في عام 2005 إلى أكثر من 15.6 في المائة في عام 2018.
العلاقات ستبقى تعاملية
إلى المدى الذي تدرك فيه الدول الأوروبية هذه الاتجاهات المالية، سيكون لها ميزة كبيرة مع أنقرة في المستقبل المنظور. غير أن هذه الميزة لا تخلو من الانكشاف المالي الكبير؛ فحوالي 80 في المائة من ديون تركيا الخارجية مستحقة لمصارف في الاتحاد الأوروبي، حيث أن المؤسسات المالية الإسبانية والفرنسية وحدها كانت قد منحت تركيا أكثر من نصفها اعتباراً من العام الماضي. وبالتالي، من شأن أي أزمة مالية في تركيا أن تحدث صدمات مهمة في جميع أنحاء أوروبا. وبغض النظر عن مشاعر القادة الأوروبيين تجاه الميول الشعبوية لأردوغان، لا يمكنهم تحمّل رؤية انهيار الاقتصاد التركي.
وعلى الصعيد الأمني أيضاً، تحتاج تركيا إلى الغرب وخاصة إلى دول حلف “الناتو”. فعلى الرغم من أن أردوغان كان يبرم صفقات خاصة مع موسكو بشأن [منظومات] الدفاع الصاروخي وحول سوريا، إلّا أنه يدرك أن قطع العلاقات الكامل مع حلف “الناتو” سيجعل بلاده تحت رحمة عدوها التاريخي الروسي.
لذلك، يتعيّن على صناع السياسة في واشنطن وأوروبا أن يضعوا العداء المتنامي ضد الغرب في السياسة التركية في منظورها الصحيح – وعملياً يتمثّل السيناريو الأكثر ترجيحاً في مواصلة أنقرة التعامل مع دول الغرب وإبرام الصفقات معها. وفيما يتعلق باللاجئين السوريين على سبيل المثال، لطالما هددت تركيا بـ “السماح لهم بالذهاب” إلى أوروبا كوسيلة للضغط على حكوماتها من أجل اعتماد مواقف أكثر ودية تجاهها. وحتى في ظل انتقاد أردوغان القارة العجوز في خطاباته خلال الفترة التي سبقت الاستفتاء على الدستور في تركيا عام 2017، كانت حكومته تحاول في الوقت نفسه تعميق علاقاتها الجمركية مع الاتحاد الأوروبي من أجل السماح للمزيد من السلع الصناعية باجتياز الحدود بِحُرّيّة من دون دفع رسوم جمركية.
وأخيراً، يجب ألا ينسى القادة الغربيون أنهم غالباً ما يحتاجون إلى مساعدة أنقرة في مسائل السياسة الخارجية المهمة. على سبيل المثال، عوّل الاتحاد الأوروبي على تعاون تركيا في مجال الدفاع في البوسنة وأفريقيا، وكذلك في مسألة التعامل مع تدفق اللاجئين من سوريا وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط. ومن جهتها، تحتاج واشنطن إلى أن تكون تركيا إلى جانبها بالنظر إلى الوضع الجيوسياسي المهم للبلاد بالقرب من إيران وروسيا والأراضي الرئيسية لتنظيم «الدولة الإسلامية»، والعراق وسوريا. وعلى الرغم من أن قبضة أردوغان المحكمة تثير القلق، إلا أن تركيا لا تزال دولة مستقرة نسبياً – وهو واقع لا يجب التقليل من أهميته في وقت تُسبب فيه الاضطرابات السياسية والمعارك العسكرية في شل قسماً كبيراً من منطقة الشرق الأوسط.
معهد واشنطن