بعد اقتراحه الأخير لتشكيل مجلس قيادة مؤلف من عدة فقهاء وسياسيين لإدارة البلاد بدلا من قيادة الفرد الواحد (ولي الفقيه)، تعرض الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس مصلحة تشخيص النظام إلى انتقادات لاذعة واتهامات خطيرة وصفته بأنه يخطط للانقلاب على المرشد خامنئي! صدرت عن زعيم المتشددين في مدينة قم الشيخ مصباح يزدي، وهو يعد من أبرز المدافعين عن نظام ولاية الفقيه والذي أدان اقتراح رفسنجاني وهاجمه قائلا “خامنئي هو نائب الإمام المهدي، وهو من اختاره ولا يحق للشعب ولا أي جهة التدخل في هذا الأمر، لأنه محسوم من قبل الله وممثله في الأرض، أي الإمام المهدي”. ووصف يزدي اقتراح رفسنجاني بشأن مجلس القيادة بالاقتراح الشيطاني.
هذا الجدل القائم في إيران ومن داخل بنية النظام، يلقي الضوء على إشكالية محورية تواجه إيران، وامتدادات منظومة ولاية الفقيه خارجها وتحديدا المكون الشيعي في العالم العربي اليوم. فألهنة المفهوم السياسي، وفق مبدأ ولاية الفقيه، يعني أن الدولة لا تملك مشروعيتها الذاتية، بل تُمنحُ منحا من قبل مرجعية فوقها هي مرجعية الولي الفقيه، الذي يستمد سلطته لا من الناس بل من الله. وهو أمر تسبب بثنائية ولاء متصارعة لدى الجماعات الشيعية خارج إيران أيضا، بين ولاء للكيان السياسي المحلي، وولاء لمرجعية دينية من خارج الدولة.
ولا بد من الإشارة في مثال الدولة اللبنانية، أن هاجس الشيعة في فترة ما قبل الحرب الأهلية بحكم التهميش الذي عانوا منه في المناطق وإقصاؤهم عن المشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي، هو الاعتراف بهم مكونّا أساسيا، ممّا غلب على خطاب الفاعليات الشيعية لغة الاحتجاج على غياب العدالة في توزيع موارد الدولة، وعدم التوازن أو التناسب في تمثل السلطة وممارستها. كل ذلك، إضافة إلى تقصير الدولة في القيام بمهامها إزاء الانتهاكات الإسرائيلية، تسبب بوجود حالة تجاف بين الدولة وبين الواقع الشيعي المهمل، وولد مناطق فراغ بين الفرد الشيعي والدولة، عمدت جهات خارجية إلى ملئه أخيرا كانت منظومة ولاية الفقيه الإيرانية.
وما ساهم في سياق الحديث عن دور الشيعة المستقبلي في بناء الدولة اللبنانية، بروز اتهام متداول بأن نشوء ما يسمّى شيعية سياسية متمثلة بولاية الفقيه في لبنان (حزب الله)، باتت المعوق الأبرز لبناء الدولة والمانع الأول في ممارسة مهامها.
ورغم كل ذلك، فقد كان هاجس القيادة الدينية قبل الحرب الأهلية وخلالها، الممثلة بالسيد موسى الصدر، الذي أصبح أيضا قيادة سياسية رمزية، هو انخراط الشيعة في الدولة واعتبارها خيارا إستراتيجيا لهم ومرجعية حصرية لمصالحهم وأمنهم وهويتهم. وهو أفق استكمله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وأصّل له تأصيلا دينيا يقوم على أن السياسة شأن مدني، وأن السياسة صناعة مجتمع متعدد الثقافات والمذاهب. فما يصدر عن المجتمع مراعيا لمصالحه وميوله يكون شرعيا، وهو ما عبّر عنه بولاية الأمة على نفسها، والتي تعني عمليا خروج المؤسسة الدينية عن صلاحيتها في منح أو عدم منح السلطة شرعيتها بعدما باتت الشرعية أمرا مجتمعيا مدنيا لا أمرا قدسيا.
لا بد من القول هنا إن الموقف الديني من السياسة، في المجال الإسلامي الشيعي وغيره، لا يؤسس للسياسة، وليس لديه منظومة جاهزة، بل غايته تحديد الموقف من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة، أي أن الموقف الديني لاحق على المتغير السياسي وليس منشئا أو مكونا له.
هذا الأمر لمسناه في طروء مفهوم الخلافة بعد النبي للتعامل مع الواقع الجديد، وفي نشوء مفهوم سلطة المتغلب بعدما أصبحت قوة السيف وسيلة لتداول السلطة وممارستها. ولمسناه في موقف التقية الذي اعتمده أئمة أهل البيت لدى الشيعة كوسيلة تجمع بين رفض السلطة المستبدة الحاكمة وعدم الاعتراف بمشروعيتها من جهة، وعدم التعرض لأذاها وملاحقتها من جهة أخرى.
مهما يكن من أمر، فإن غيبة إمام الشيعة وعدم إمكان وصوله إلى السلطة، فرض على الشيعة بلورة تصورات لسد هذه الثغرة في حياتهم، ودفعهم باتجاه اعتبار السلطة من الضرورات التي لا يستقيم من دونها أمر أي مجتمع من المجتمعات، وفق قول الإمام علي “لا بد للناس من أمير بر أو فاجر”. ما يجعل أساس المشروعية السياسية في غيبة الإمام “المعصوم”، هو تواضع الناس وتوافقهم، أي مشروعية مجتمعية تقررها إرادة أفراد المجتمع، بصفتهم أفرادا أحرارا وعقلاء.
ولكن السؤال الذي يطرح إزاء الواقع الشيعي الراهن، وإزاء غياب معوقات بنيوية لدى الشيعة للانخراط في بناء الدولة، هل توجد معوقات موضوعية راهنة؟
في قراءة للمعوقات التي يمكن تلمّسها في المشهد اللبناني وفي المشهد العراقي نلاحظ بروز معوقين:
أولهما: تضخم الخصوصية الشيعية بمضمونها الديني الخالص، أي اختزال الجماعات الشيعية بمتخيلها الديني التاريخي وتحجيم أبعاد هويتها الأخرى، من لبنانية وعربية وجغرافية واجتماعية واقتصادية وغيرها. وهو تضخم مقصود ومبرمج، ليخدم وظيفة أيديولوجية معيّنة، ومهمة سياسية خاصة.
انعكس هذا التضخم في سلوكيات غلو ديني غير مسبوق، وفي عدوانية مباشرة وغير مباشرة تجاه المكونات المذهبية والثقافية الأخرى، وبات المكون الديني بمثابة المرجع الحصري والمحدد الوحيد للهوية الشيعية المعاصرة، وهي هوية تخدم وظيفة عزل الشيعي عن محيطه، وفصله عن فضائه الموضوعي، والتعامل معه بريبة وشك، إضافة إلى إنشاء مشروعية ذاتية خاصة به، تأبى الاندماج داخل مشروعية أوسع، وهي مشروعية المجتمع متعدد الثقافات، ومشروعية الدولة الجامعة لهذه المكونات.
هذا التضخيم ليس عفويا، بل تقف وراءه أجهزة إعلام وآلة تعبئة وترويج تحرص على حصر المشروعية داخل دائرة المذهب، ولا تكون نابعة من المحيط الموضوعي الذي يعيش الشيعة في داخله. وهو أمر يفقد الدولة مرجعيتها بل صلاحيتها في ممارسة مهامها أو سلطتها على هذا المكون، باعتبار أن مصدر الأمر الملزم والمشروع في مكان آخر داخل المجال الشيعي، وليس الدولة.
ثانيهما: ربط الموقف السياسي بالمضمون العقائدي. ما يجعل السياسة من متفرعات الإيمان ولوازمه، ومن ضرورات الهوية الشيعية الثابتة، وليس خيارا فرديا أو تفضيلا اجتماعيا. هذا الأمر حصل في مبدأ ولاية الفقيه الذي تأسس عليه نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. وهو مبدأ يرد السياسة من جديد إلى الإمامة، ويعتبر أن مشروعية أي عمل سياسي لا تكون إلا بتكليف من الإمام “المعصوم”. ومشروعية السلطة، أي سلطة، حتى لو كانت في زمن الغيبة، تمنح من الإمام المعصوم فقط وليس غيره.
هذا المبدأ أعاد مسألة السلطة من جديد إلى أصلها الإلهي، بعدما باتت وفق منطق الدولة الحديثة، فعلا مجتمعيا وتجسيدا لإرادة أفراد المجتمع بصفتهم أفرادا عقلاء وأحرارا يملكون صنع مصيرهم، وليس بصفتهم مؤمنين أو متدينين. فالدولة الحديثة أخرجت صلاحية الوحي في تقرير حقيقة السلطة ومشروعيتها إلى الأبد، ولم يعد للمؤسسة الدينية أي مؤسسة دينية بأن تمنح مشروعية أو تلغيها، بل يمكنها المشاركة في النقاش العام لا بصفتها سلطة عليا، بل بصفتها مؤسسة من مؤسسات المجتمع.
علي الأمين
صحيفة العرب اللندنية