بعد مرور أقل من شهرين منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، أصبح دونالد ترامب أصلاً بصدد التسبب بكارثة لحقوق الإنسان. فمن حظره على الهجرة إلى دعمه التعذيب، ألغى ترامب ما شكل منذ وقت طويل التزاماً أميركياً من كلا الحزبين، على المستوى النظري إذا لم يكن العملي: ترويج القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيزهما في الخارج.
وربما يكون الأسوأ قادماً على الطريق. فقد أهال ترامب المديح بسخاء على الأوتوقراطيين، وأعرب عن ازدرائه للمؤسسات الدولية. ووصف رجل مصر القوي، عبد الفتاح السيسي، بأنه “رجل مدهش” ونحى جانباً التقارير عن القمع الذي يمارسه أمثال الرئيس السوري فلاديمير بوتين والرئيس السوري بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وكما قال في خطاب تنصيبه المر: “من حق كل الدول وضع مصالحها أولاً. ونحن لا نسعى إلى فرض نمط حياتنا على أحد”. وكان كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” قد كتب أن انتخاب ترامب جلب العالم إلى “شفير الظلام”، ويهدد “بنقض إنجازات حركة حقوق الإنسان الحديثة”.
لكن هذا التهديد ليس جديداً. وفي الحقيقة، وضع صعود ترامب الخطوط فقط تحت التحديات الوجودية التي تواجه مشروع الحقوق العالمية مُسبقاً. وعلى مدار العقد الماضي، شهد النظام الدولي تحولاً بنيوياً في اتجاهات القوى الجديدة التي تؤكد نفسها، بما في ذلك تشي جينبينغ في الصين وفلاديمير بوتين في روسيا، والتي تحدت علانية تقاليد الحقوق بينما تقوم في الوقت نفسه بسحق المعارضة في المناطق المتنازع عليها، مثل الشيشان والتبت. ولم تشن هذه القوى الصاعدة حملة على المعارضة في الوطن وحسب؛ بل إنها منحت الغطاء للحكومات العابثة بالحقوق الإنسانية، من مانيلا إلى دمشق. ويستطيع الدكتاتوريون الذين يواجهون الانتقاد الغربي الالتفات الآن إلى أشباه الصين من أجل الحصول على الدعم السياسي والمالي والدبلوماسي “غير المحدود”.
تعزز هذا الاتجاه بالثورة القومية الشعبوية التي استهدفت مؤسسات حقوق الإنسان والنظام الاقتصادي العالمي الذي يندغمان فيه. ومع اكتساح الشعبوية للعالم، ومع صعود قوى عظمى جديدة، أصبحت رؤى ما بعد ويستفاليا لنظام عالمي مشترك تخلي مكانها لحقبة من السيادة المنبعثة مجدداً. كما تخلي العولمة والأممية مكانهما لعالم ما بعد الحقوق الإنسانية.
كل هذا يرقى إلى تحد وجودي لتقاليد حقوق الإنسان العالمية التي انتشرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي ذلك الوقت، تم استكمال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تم تبنيه في العام 1948، بمجموعة من المعاهدات والمواثيق التي تضمن حقوقاً سياسية ومجتمعية واقتصادية، وحقوقاً للاجئين والنساء والأطفال. وساعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة في المزيد من تكريس حقوق الإنسان في داخل النظام الدولي. وعلى الرغم من فشل العالم في منع المذابح الجماعية في أماكن مثل رواندا والبوسنة، فقد شهدت أعوام التسعينيات ظهور سيادة عالمية لحقوق الإنسان: عالماً عابراً للحدود الوطنية ومتجاوزاً للقومية، مدعوماً بمؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتشرف عليه منظمات غير حكومية دولية وطبقة جديدة من الناشطين الحرفيين وخبراء القانون الدولي.
ترافقت الحرفية الخاصة بحقوق الإنسان مع تقدم العدالة الجنائية الدولية. وقد شهد العقد تأسيس محاكم مؤقتة لرواندا ويوغسلافيا السابقة، والتوقيع في العام 1998 على قانون روما الذي أسس المحكمة الجنائية الدولية -وهو إنجاز أشاد به الأمين العام للأمم المتحدة في حينه كوفي أنان واعتبره “خطوة عملاقة أماماً نحو حقوق إنسان وحكم قانون عالميين”. وعلى الورق، يتمتع المواطنون في معظم البلدان الآن بحوالي 400 حق معترف به. وكما كتب مايكل إيغناتييف في العام 2007، فقد أصبحت حقوق الإنسان أقرب ما تكون إلى “اللغة المهيمنة على الخير العام حول الكرة الأرضية”.
تعزز هذا التوسع القانوني والمعياري بشكل حاسم بفترة غير مسبوقة من النمو والتكامل الاقتصادي، والذي بدأت معه الحدود القومية بالاختفاء، وبدا معه أن العالم يصغر وسينضوي تحت نفوذ العولمة والتقدم التكنولوجي. ومثل النظام الاقتصادي الذي رافقه، حقق مشروع حقوق الإنسان العالمي تألقاً حتمياً: فقد أصبح -إلى جانب السياسات الديمقراطية ورأسمالية السوق الحرة- جزءاً من الحزمة الليبرالية الجديدة المنتصرة التي عرفها فرانسيس فوكوياما في العام 1989 على أنها “نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للجنس البشري”. وفي العام 2013، تنبأ أحد أبرز الخبراء الأميركيين في القانون الدولي، بيتر جيه سبيرو، بأن حالات التقدم القانوني والعولمة الاقتصادية قد جلبا “غروب السيادية”. ومن جهتها، حاججت فاتو بن سودة، المدعي العام الحالي للمحكمة الجنائية الدولية، على نحو مشابه بأن إنشاء المحكمة مهد لحقبة جديدة من سياسة ما بعد ويست فاليا، حيث ستتم الآن مساءلة الحكام عن إساءة المعاملة الخطيرة المرتكبة بحق شعوبهم. (حتى الآن لم يتم التحقيق مع أي زعيم حكومة ما يزال في الحكم).
ولكن، في العام 2017، في وقت يشهد تفاقم الاضطرابات وعدم الاستقرار، وحيث فشلت وعود العولمة في التحقق في القسم الأكبر منها، يبدو أن هذه الثوابت القديمة قد انهارت. وفي “عصر الغضب” الراهن، كما سماه بانكاج ميشرا، أصبحت حقوق الإنسان هدفاً مباشراً لشعبوية اليمين الصاعد، والضحية الجانبية لهجومه الواسع على العولمة والمؤسسات الدولية والنخب العالمية غير القابلة للمساءلة”.
من الممكن رؤية الخطوط العريضة لهذا العالَم الجديد من أوروبا والشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى والباسفيكي. فعلى نحو روتيني، تتجاهل الحكومات الالتزامات المترتبة عليها بموجب معاهدات حقوق الإنسان العالمية، مع قليل من الخوف من مواجهة عواقب جادة. ولست سنوات، مرت أعمال العنف الخطيرة التي ارتكبت في سورية من دون التعامل معها، على الرغم من التسهيلات المتضمنة في مبدأ “مسؤولية الحماية”. وفي الأثناء، تبدي العديد من الحكومات الغربية تردداً في احترام التزاماتها القانونية فيما يتعلق بالموافقة على منح اللجوء لمئات الآلاف من الهاربين من الحرب الأهلية السورية الوحشية.
من المؤكد أن هذه التطورات ليست كلها جديدة: فقد مثلت معاهدات الحقوق الدولية دائماً خط الأساس الطموح الذي تمس حاجة العديد من الأمم إليه. لكن عصر حقوق الإنسان كان واحداً بدا فيه العالم –على الرغم من كل سقطاته- وأنه يميل في اتجاه المزيد من التماسك إلى حد ما. وكان هناك وقت تحدث فيه المنافحون عن حقوق الإنسان والقادة الداعمون بثقة عن الوقوف عن الوقوف “في الجانب الصحيح من التاريخ”، وقد اضطر حتى استبداديو العالم إلى التحدث شفوياً على الأقل عن فكرة الحقوق.
إذا كان عصر حقوق الإنسان واحداً اتضحت فيه الخطوط الكونتورية للتاريخ، فإنه لم يعد واضحاً اليوم أن ذلك التاريخ كان يتوافر حقاً على ذلك المخطط الكبير. ووفق أحدث تقرير عن الحرية في العالم، والذي نشره “فريدم هاوس” في كانون الثاني (يناير) الماضي، فإن العام 2016 شكل العام الحادي عشر على التوالي الذي تتراجع فيه الحرية العالمية. كما أنه كان أيضاً العام الذي عانى فيه 67 بلداً من تراجع في الحريات السياسية والحريات المدنية. وثمة مؤسسات دولية رئيسية تخضع هي أيضاً للحصار. ففي تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، أعلنت ثلاث دول إفريقية -جنوب إفريقيا وبوروندي وغامبيا- عن انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، التي ربما كانت التتويج والذروة لإنجاز عصر حقوق الإنسان. (لكن غامبيا عدلت بعد ذلك عن قرارها بعد استقالة الرئيس الاستبدادي يحيى جامع). وبسبب الغضب من استهداف المحكمة الجنائية الدولية للزعماء الأفارقة، يفكر قادة القارة السوداء حالياً في انسحاب جماعي من المحكمة.
ويعكس هذا الانتقاد الإفريقي للمحكمة ثقة الحكومات المتزايدة في رفض حقوق الإنسان كقيم “غربية”، ويصور أي تنظيمات محلية تدافع عن هذه المبادئ على أنها بيادق لقوى خارجية. وكانت الصين والهند قد طرحتا قوانين جديدة صارمة تحد من العمل مع منظمات غير حكومية أجنبية أو مجموعات محلية تتلقى تمويلاً أجنبياً، بما فيها منظمات تدافع عن حقوق الإنسان. وفي روسيا، مرر في العام 2012 “قانون الوكيل الأجنبي” والذي يستخدم للحد بشكل صارم من عمل المنظمات غير الحكومية في حقل حقوق الإنسان، ويصور أي انتقاد لسياسات الحكومة على أنه غير موالٍ، وترعاه جهة أجنبية و”غير روسية.”
وفي الغرب أيضاً، يتم التنازل عن دعم حقوق الإنسان. ففي حملته الناجحة لصالح “بريكسيت”، هاجم الزعيم السابق لحزب الاستقلال في المملكة المتحدة، نيغيل فاراج، الميثاق الأوروبي الخاص بحقوق الإنسان، مدعياً بأنه قوض الأمن البريطاني لأنه منع لندن من حظر عودة مقاتلي “داعش” البريطانيين من الشرق الأوسط. وخلال الحملة الانتخابية الأميركية، شيطن دونالد ترامب الأقليات ودافع عن التعذيب، وأعرب عن إعجابه بالحكام المستبدين -ومع ذلك كسب السباق إلى البيت الأبيض. وفي الأثناء، يشير تقرير حديث إلى أن الدعم الغربي لمؤسسات القانون الدولي، مثل المحكمة الجنائية الدولية، ضعيف ويستمر فقط “طالما أنه يستهدف مشاكل أخرى في بلدان أخرى”.
في عالم ما بعد حقوق الإنسان، سوف تستمر أعراف ومؤسسات الحقوق العالمية في الوجود، وإنما بشكل أقل فعالية باطراد. وسوف تكون هذه حقبة تتجدد فيها المنافسة بين القوى العظمى، فيما وصفه روبرت كابلان بأنه “عالم أكثر اكتظاظاً وتوتراً وقلقاً”. ولن يكون عالم ما بعد حقوق الإنسان خالياً من من النضالات السياسية للقواعد الشعبية مع ذلك. بل على العكس من ذلك، سوف تتكثف هذه النضالات بينما تضيق الحكومات مساحة الرؤى ووجهات النظر المعارضة. وفي الحقيقة، فإن موجة المعارضة المحلية لسياسات ترامب تشكل علامات مبكرة على أن النشاط السياسي قد يكون في مرحلة دهول حقبة من تجدد القوة والأهمية.
فما الذي يجب عمله، إذن؟ كما أقر العديد من ناشطي حقوق الإنسان مسبقاً، فإن الحجة تمس إلى مقاربات جديدة. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، طرح مركز “رايتس ستارت” لاستشارات حقوق الإنسان اقتراحاً لخمس استرتيجيات تستطيع المنظمات غير الحكومية استخدامها للتكيف مع “الأزمة الوجودية” التي تعرضها الأوقات الراهنة. ومن بين هذه الاستراتيجيات، كانت حاجة هذه المجموعات إلى “ترويج وإيصال أكثر فاعلية” لأهمية حقوق الإنسان، واستخدام المنصات الدولية بطريقة أوسع لإيصال الأصوات المحلية. وحاجج فيليب أستون، مخضرم حقوق الإنسان وأستاذ القانون في جامعة نيويورك، بأن على حركة حقوق الإنسان أن تواجه أيضاً حقيقة أنها لم تقدم حلاً مرضياً أبداً لمعالجة العامل الرئيسي وراء الصعود الشعبوي الحالي: عدم المساواة الاقتصادية عالمياً.
بمفهوم أوسع، على مشروع حقوق الإنسان العالمية أن يتخلى عن ادعاءاته بالحتمية التاريخية، وأن يهبط بالتالي إلى الواقع ويقوم بعرض قضيته على الناس العاديين. ومع تصاعد السياسة الاستبدادية، فقد حان الوقت الآن لإعادة الانخراط في السياسة وتبني تكتيكات أكثر براغماتية ومرونة من أجل تقديم ما هو أفضل للإنسان. وسوف تبقى النضالات القانونية العالمية مهمة، وإنما يجب أيضاً توجيه الجهود بشكل أكبر من الأعلى إلى أسفل، إلى المحاكم والمشرعين الوطنيين. هنا كسبت الشعبوية اليمينية المتطرفة انتصاراتها المدمرة. وهنا أيضاً سيخسر -أو يكسب في نهاية المطاف- النضال المقبل ضد النزعة الترامبية وتجلياتها.
سباستيان سترانجيو
صحيفة الغد