عاد العراق إلى البحث عن رئيس وزراء جديد، بعد أن فشل رئيس الوزراء المكلف، محمد توفيق علاوي، في تشكيل حكومة تحظى بدعم سياسي كافٍ. وإذا كان تكليف علاوي قد تم بعد أسابيع من البحث، ومن ترشيح أسماء عديدة، لم تصل إلى مرحلة التكليف، فإن عملية البحث عن بديل له تبدو متعثرة. تجرى تلك العملية في شبه قطيعة مع حركة التظاهرات التي اجتاحت بغداد ومحافظات جنوبي العراق، وسقط فيها مئات الضحايا وآلاف الجرحى، وأدت إلى دفع عادل عبد المهدي إلى الاستقالة.
كانت الأسابيع الماضية فترة مضحكة مبكية في التاريخ العراقي، ما يعود، بدرجة كبيرة، إلى شخصية محمد علاوي نفسه، فقد بدأ فترة تكليفه متحدّياً الحقائق بطريقة استعراضية، إذ ادعى أنه يحظى بدعم المتظاهرين، وهو أمر أثبت المتظاهرون أنه غير صحيح، ولكن علاوي استمر بالادّعاء، وحاول أن يتظاهر بأنه يحظى بدعم غير مسبوق، ليحاول أن يغير قواعد اللعبة الطائفية السياسية التي تحكم العراق منذ عام 2003. لم تكن تلك المحاولات متناغمةً مع المحاولات المبدأية للمتظاهرين الرافضين للنظام الطائفي وفساده، بل محاولات من أجل إقامة حكومةٍ تعطي لعلاوي قوة سياسية لم يحظ بها أي رئيس وزراء سابق، ولكن من غير سند حقيقي، إذ أراد، وهو القادم من توافق القوى الشيعية المؤثرة، أن يفرض على الأحزاب الكردية والجماعات السنية إرادته بتعيين مرشحين من تلك الطوائف مباشرة للمناصب الوزارية في حكومته، من غير تدخل الأحزاب الممثلة للطوائف. وفي النهاية، سقط ترشيحه بمقاطعة كردية كاملة، وسنية شبه كاملة، في مجلس النواب. ولكن برز أيضاً اعتراض شيعي على علاوي، ساهم في سقوطه. كشفت معلومات ظريفة ما يعكس شيئاً من شخصية علاوي، إذ نقل عنه قوله إنه كان يعلم، منذ ثلاث سنوات، إنه سيصل إلى رئاسة الوزراء، وادّعى أن هناك اختياراً إلهياً جاء به إلى المنصب، وإنه سيحكم ليسلم الراية للإمام المهدي، وهو الإمام المنتظر في المذهب الشيعي. بغض النظر عن دقة ما نقل، فإنه ليس بعيداً عما قاله علاوي سابقاً، وغيره من كبار السياسيين العراقيين، من ادعاءات تخلط العقائد الدينية بالمصالح السياسية.
أما رئيس الوزراء المنتهية ولايته والباقي في منصبه، عادل عبد المهدي، فقد أعلن أيضاً عن
“الأزمة السياسية المتعلقة باختيار رئيس للوزراء جزءٌ من أزمة كبرى للنظام الطائفي في العراق”إجراء غريب، سماه الغياب الطوعي. وكان من المفترض أن يعني ذلك بقاءه في منصبه، ولكن من غير أن يحضر اجتماعات مجلس الوزراء، وربما من غير أن يزاول أعماله الرسمية في المنصب. يأتي ذلك في محاولة توفيقية من عبد المهدي في أن يطبق تعهده بمغادرة المنصب للمرجعية الشيعية التي دعت إلى تغييره، ولكن أيضاً بطريقة تقطع الطريق الدستوري أمام رئيس الجمهورية، برهم صالح، وهو كردي، من أن يتسلم رئاسة الحكومة مؤقتاً، لأن منصب رئاسة الوزراء هو المنصب التنفيذي الأهم في العراق، ويتمسك به الشيعة بقوة.
الأزمة السياسية المتعلقة باختيار رئيس للوزراء جزءٌ من أزمة كبرى للنظام الطائفي في العراق أدّت إلى اندلاع التظاهرات وتصاعدها. انحسرت التظاهرات، في الفترة الأخيرة، خصوصاً مع تدخل أنصار زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، في ساحات التظاهر، للحد من سيطرة المتظاهرين وحركتهم، ولكن ألوان الاحتجاج الأخرى مستمرة. وإذا كان الصدريون قد نجحوا في تقييد التظاهرات، فإنهم لم ينجحوا في تمرير ترشيح علاوي رئيساً للوزراء.
وتتفاعل الأزمة السياسية مع أزمات في الإدارة الحكومية، لها مظاهر متعددة، فقد شاهد العراقيون الطريقة التي تتعامل بها حكومتهم مع أزمة فيروس كورونا مثلاً، فقبيل بدء مؤتمر صحافي لوزير الصحة مع وزراء ومسؤولين آخرين لطمأنة الرأي العام بشأن إجراءات الحكومة، حدثت فوضى وتخبط في فقرات الإعلان الحكومي، واستمع الجميع إلى تعليق وزير التعليم العالي، قصي السهيل، وهو يصف فقرات البيان بـ “الكلاوات” (الخدع). والسهيل مرشح سابق لرئاسة الوزراء، تم تداول اسمه قبل علاوي، وكان يحظى بدعم القوى الشيعية المتحالفة مع إيران، عدا مقتدى الصدر، وهو الأمر الذي أدى إلى عدم تقدّم ترشيحه.
لن يكون تأثير عملية اختيار رئيس للوزراء، على الرغم من الضجة حولها، كبيراً على حل
“تتفاعل الأزمة السياسية مع أزمات في الإدارة الحكومية”أزمات العراق. من المستبعد أن يتم الاتفاق بسرعة على رئيس وزراء جديد، وربما يتم فعلاً تمديد وجود عبد المهدي في الحكم، بطريقة أو بأخرى. وربما تنجح القوى المسيطرة على العراق في إخماد حركة التظاهرات بصورة أكبر مما فعلت حتى الآن. ولكن ذلك كله لن ينهي وجود الأزمات الكبيرة، وهي أزمات لن يحلها رئيس وزراء يأتي بالطريقة التي تتم في العراق. وإذا كان النظام العراقي قد سار منذ 2003 على خطى النظام الطائفي اللبناني، على الرغم من أن العراق أكبر من لبنان بكثير، فإن من المفيد الإشارة إلى عجز رئيس الوزراء اللبناني، حسان دياب، أمام الأزمة الاقتصادية. كان النظام الطائفي اللبناني المدعوم من إيران قد عبر أزمة التظاهرات مع تعيين دياب رئيساً للوزراء. لم يحصل ذلك في العراق بعد، ولكن حتى إن وصل مرشح إلى رئاسة وزراء العراق بالطريقة نفسها، أي توافق الأحزاب ودعم إيران والولايات المتحدة، فإنه لن يكون قادراً على حل الأزمات من غير انتخابات مقنعة، وتفويض شعبي واضح، ودرجة كافية من الاستقلالية عن التدخل الأجنبي.
رافد جبوري
العربي الجديد