أكرهت سياسة الإغلاق المتبعة في العراق للحد من تفشي فايروس كورونا المستجد بالبلاد، مربي الجاموس في الأهوار، على بيع حيواناتهم التي تعتبر أغلى ممتلكاتهم بأسعار زهيدة في سبيل تحصيل قوتهم اليومي، وجاء ذلك بعد أن تراجعت مبيعات حليب الجواميس وأسعارها.
ذي قار (العراق) – “الجاموس عزيز كثيرا عليّ.. عندما يمرض، أشعر بقلق شديد عليه، لاسيما إذا ما كان بحظيرتنا منذ فترة طويلة”.. كلمات مؤثرة، على قصرها، قالها جعفر إسماعيل وهو يقف بجوار جاموسة صغيرة تتغذى على العلف في كيس معلق برقبتها.
وكعادته كل صباح، استيقظ إسماعيل فجرا في منزله بأهوار الجبايش في جنوب شرق العراق، وأشعل نارا صغيرة وشرب الشاي على الشاطئ، بينما يتحلق حوله قطيع الجاموس الذي تملكه أسرته.
وقال إسماعيل “أقوم صباحا بحلب الجاموسة ثم بعد ذلك أحرص على بيع حليبها، وفي مرحلة أخرى أذهب بالقارب لأحضر لها العلف حتى أضمن ألا تجوع”.
وتعيش أسرة إسماعيل على عوائد الحليب واللبن بعد أن يبيع إنتاجه للتجار في المنطقة لينقلوا معظمه خارج الأهوار، بل وحتى خارج محافظة ذي قار التي تقع فيها أهوار الجبايش.
لكن بعد فرض القيود على السفر الداخلي للحد من انتشار فايروس كورونا المستجد، تراجع الطلب على الحليب وانهارت أسعاره.
وأكد إسماعيل خليل، وهو رجل آخر من عرب الأهوار، بعد أن احتلب الجاموس بيده وحفظ الحليب في حاوية كبيرة، “الجاموس مصدر دخلنا.. ليست لنا وظيفة أخرى.. الجاموس مهنتنا التي لا نعرف غيرها”.
وأضاف خليل “تسبب تفشي الفايروس في إلحاق الضرر بنا كثيرا. انخفض سعر الجاموس، كما انخفض سعر الحليب أو انهار تقريبا بسبب حظر التجول”.
وقبل اندلاع الأزمة، كان سعر 30 لترا من الحليب 28 دولارا، وانهار الثمن الآن إلى 12 دولارا فقط. ولم يعد بإمكان المربين بيع إنتاجهم اليومي بالكامل.
وبعد مرور أربعة أشهر لم يستطع إسماعيل أثناءها توفير الاحتياجات الأساسية لأسرته، التجأ إلى بيع الحيوانات، على غرار رعاة كثيرين آخرين في مجتمعه.
ولكن سعر رأس الماشية انخفض أيضا منذ اندلاع أزمة كورونا، مما اضطر الأسر لبيع حيواناتها العزيزة بثمن بخس.
ورمت الأزمة بظلالها أيضا على “القيمر” أشهى أكلات العراقيين الصباحية والتي يصنعونها من حليب الجاموس المعروف بكثافته الدهنية للإفطار.
ولفت إسماعيل إلى أنهم بدأوا في بيع حيواناتهم من أجل شراء الطماطم واللحوم وغيرها من المواد المعيشية الضرورية، بما يحصلون عليه لقاءها من أثمان بخسة.
وقال تاجر الحليب صادق محمد “بإمكاننا جلب الحليب من مربي الجواميس في الأهوار وبيعها في بلدتي القرنة والمجير والمحافظات الأخرى، لكن في الوقت الراهن، لا أحد يشتري الحليب، لذلك فنحن نكتفي بأخذ كميات قليلة جدا من الحليب فقط”.
وسبق أن فقد سكان الأهوار جواميسهم، حيث سبب تناقص منسوب المياه وزيادة الملوحة في منطقة الأهوار في عام 2018 انتشار الأمراض مما جعل الجاموس المنتشر في المنطقة عرضة للهلاك.
بعد فرض القيود على السفر الداخلي للحد من انتشار كورونا لم يعد بإمكان مربي الجاموس بيع إنتاجهم اليومي بالكامل
وكان نقص المياه إلى مستويات متدنية أجبر مربي الجاموس على شراء الطعام لحيواناتهم بنحو 369 دولارا للطن، بالإضافة إلى شراء مياه بما بين 10 دولارات و13.45 دولار يوميا مما فاقم أعباءهم المالية.
ويعيش سكان الأهوار منذ آلاف السنين في بيوت مصنوعة من القصب على جزر صغيرة طبيعية أو مصنعة، ويربّون الجاموس والبقر، ويستخدمون نوعا من القوارب، ذات الأصل السومري، يسمونه “المشحوف” في تنقلهم وترحالهم، إذ تمثل المياه مقوما أساسيا لاستمرار نمط حياتهم وأسلوب معيشتهم. وتوجد في الأهوار ثروة كبيرة من الأسماك والطيور.
وجرت العادة على تصنيف عرب الأهوار إلى مجموعتين رئيسيتين حسب النشاط والعمل، وهما مربو جواميس الماء والمزارعون، علما وأن المنطقة باتت تعوّل علىالسياحة البيئية ومقصدا للمولعين برحلات القوارب وسط الطبيعة.
وأُدرجت الأهوار ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة التربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منذ عام 2016، ومنذ ذلك التاريخ يتطلع أهل الأهوار إلى إجراءات تؤسس بنية تحتية لجعل “مملكة القصب” هذه محل اهتمام ثقافي وسياحي دولي، وتوفير سبل استثمار ثرواتها الطبيعية.
وكانت الأهوار تغطي تسعة آلاف كيلومتر مربع في سبعينات القرن الماضي لكنها تقلصت، إذ جفت مياهها في العامين 2009 و2010 بسبب قطع المياه وبناء السدود في تركيا وإيران، وكان أشدها جفافا العام 2015 حيث نفقت أكثر الجواميس، ما دفع غالبية سكان الأهوار إلى الهجرة إلى المدن والقرى الأخرى.
العرب