شهدت إيران منذ الشهر الماضي سلسلة من الانفجارات كانت مسارحها منشآت نووية وصاروخية وصناعية أيضا. في 26 يونيو، وقع انفجار في مصنع لإنتاج الصواريخ، تزامن مع حدوث حريق هائل في شيراز في محطة للطاقة، ثم انفجار في مركز طبي في طهران في الثلاثين من الشهر نفسه.
وفي 2 يوليو، حصل انفجار وحريق كبير في قسم تجميع أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز النووية. وفي الرابع منه حصل حريق في محطة الأحواز، تلاه انفجار في خزانات الأوكسجين في المنطقة الصناعية في باقر شهر في السابع من هذا الشهر. وفي العاشر منه حصل انفجار في مستودع الصواريخ التابع للحرس الثوري غرب العاصمة طهران، تلاه انفجار في منشأة شهيد للمواد البتروكيماوية في 12 من الشهر الجاري.
الأهداف الجيوسياسية الثابتة لإيران هي وحدة الداخل، واستمرارية النظام، وترسيخ دورها كقوة إقليمية مُعترف بها. وانطلاقا من هذه المسلمات، ارتكزت استراتيجيتها على عنصر القتال بالأذرع الخارجية لبيان قوتها الإقليمية، وأن تكون ساحتها الداخلية ليست هي مسرح القتال مع الآخرين، كي لا تسمح بتزعزع وحدة الداخل، لذلك ما حصل مؤخرا من تفجيرات متعاقبة، لأهداف حساسة، وفي فترة قصيرة في مسرحها الداخلي، يعتبر تحولا كبيرا، ويعطي انطباعا بأن هنالك فاعلا خارجيا، يعتمد استراتيجية استهداف جديدة لم يألفها صانع القرار في طهران. هذه الاستراتيجية تتخذ من الوضع الراهن الذي تعيشه إيران وسيلة لتعميق جراحها، وإدمائها بشكل أكبر، فالأزمة الاقتصادية الخانقة، جراء العقوبات الاقتصادية والسياسية الأمريكية، أطاحت بالعُملة المحلية بنسبة 70% من قيمتها، وهنالك غضب وإحباط اجتماعي كبير أحدثته وفاة ما يقارب من 12000 إنسان قضوا بسبب جائحة كورونا. كما أن العواصم التي كانت رموز النظام تفاخر بأنها تسيطر عليها، باتت رموزا للجوع والفساد والإفلاس، ومشروعها فيها يهرول نحو الحضيض. ولا ننسى أنها تلقت ضربة قاصمة في بداية العام، عندما قتلت القوات الأمريكية مهندس استراتيجيتها الخارجية قاسم سليماني. كل هذه الهزائم والانتكاسات تعطي الطرف الآخر فرصة لقضم المزيد من الجرف الإيراني، وإيغال سيفه في هذا الجسد، لكن يبقى السؤال من المستفيد؟
ولبيان الجهة أو الجهات المستفيدة من التفجيرات الأخيرة في إيران، لابد من التذكير بأنه في إبريل المنصرم، استهدف هجوم سيبراني إيراني شبكة المياه في إسرائيل. وفي مايو ردت الأخيرة على الهجوم بفعل مماثل، عطّل إحدى منشآت ميناء بندر عباس لعدة أيام وأربك حركة الملاحة فيه. ولأن التفجيرات الأخيرة لم تعزها الحكومة إلى فعل بشري على الارض، ولم تُصرّح بأن التفجيرات قد حصلت بعبوات ناسفة، أو أي سلاح عسكري آخر، فقد بات الحديث عن هجمات سيبرانية منسّقة هو المسبب لما حدث مقبولا. وبالتالي أصبحت بصمات إسرائيل، وربما الولايات المتحدة كشريك أو ضامن في هذا الفعل هو المتاح، خاصة أن هذين الفاعلين لهما سابقة في التعاون في قيادة هجوم سيبراني ضد منشأة نطنز نفسها عام 2010، وأدى الى تخريب المئات من أجهزة الطرد المركزي.
كل هذا يشير إلى بداية مرحلة جديدة من الاستهدافات الموجهة ضد إيران، وبالتحديد ضد مشروعها النووي، خاصة أن سياسة (أقصى الضغط) التي تمارسها واشنطن عليها قد وصلت الى مدياتها القصوى، مضافا إليها أن صانع القرار في واشنطن ليس لديه أي فكرة عن تحويل المواجهة مع طهران إلى مواجهة مباشرة، مهما تمادت في غيها. وهذا الاتجاه ليس وليد اليوم، بل هو موجود في استراتيجية التعامل مع النظام الإيراني منذ عام 1979.
بداية مرحلة جديدة من الاستهدافات الموجهة ضد إيران، خاصة أن سياسة (أقصى الضغط) التي تمارسها واشنطن عليها وصلت لمدياتها القصوى
أما توقيت الاستهدافات فهي محسوبة أيضا من قبل كل من واشنطن وتل أبيب، فإضافة إلى الاستثمار في الصعوبات التي تواجهها طهران، هنالك ظروف تخص الفاعلين الإسرائيلي والأمريكي فرضت عليها التوقيت. الولايات المتحدة أمامها منعطف كبير وهو الانتخابات الرئاسية المقبلة، الرئيس ترامب يتعرض الى انتكاسات كبيرة في ظل الظروف الصحية التي نزعت من يده ورقة الإنجازات الاقتصادية، وبالتالي لم يبق أمامه سوى رفع لافتة البرنامج النووي الإيراني. كما أن التوقيت يتزامن مع تحرك دبلوماسي في الأمم المتحدة لتمديد حظر الأسلحة على طهران، مترافقا مع إشارات مسبقة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعدم استجابة إيران لطلبات مقدمة لها.
في الجانب الإسرائيلي هنالك سباق مع الزمن للقيام بكل ما يمكن لتعطيل البرنامج النووي الإيراني، لأن الرئيس الأمريكي ترامب لم يبق أمامه سوى أشهر قليلة في البيت الأبيض أن لم يُعد انتخابه، وأن المرشح الديمقراطي بايدن يُبشّر بأن فوزه بالانتخابات المقبلة يعني العودة إلى الاتفاقية النووية، التي انسحب منها ترامب، وهذا يقلق إسرائيل كثيرا، وربما يُجبرها على القيام بضربة خاطفة. أما كيفية تعامل صانع القرار الإيراني مع كل هذه الظروف فيمكن إجمال خياراته بالنقاط التالية: أولا، تجنب التصعيد كلما أمكن في الوقت الراهن، حتى لا يعطي الأوروبيين مُبررا للذهاب بقوة إلى تأييد الموقف الامريكي. ثانيا، الاستمرار في الرد غير المباشر عبر أذرعها، خاصة في العراق لوجود أصول أمريكية يمكن استهدافها بالصواريخ. ثالثا، إن اضطرت للرد المباشر فسيكون محسوبا ومتفقا عليه ومُرسلا للأمريكيين عبر القنوات الدبلوماسية، كما حصل في الرد على القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد بعد مقتل قاسم سليماني. رابعا، قد يكون الرد من جنس الفعل، أي رد سيبراني يستهدف منشآت في إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها أيضا. خامسا، تصعيد العمل في البرنامج النووي وعدم السماح بالتحقق من قبل منظمة الطاقة الذرية الدولية، واتهام خبرائها بأنهم قدموا معلومات إلى الجهات الاستخباراتية الإسرائيلية والأمريكية، فكانوا هم السبب في الاستهدافات الأخيرة في العمق الإيراني. ورغم أن هذه الخيارات تبدو ممكنة، فإن ما يقلق صانع القرار في طهران الآن، ليس طبيعة الرد، بل كيفية الحفاظ على نظرية الرعب، التي بناها خلال عقود في الداخل والخارج، والقائمة على أنه لن يُقهر وأن أذرعه موجودة في كل مكان، بانتظار الإشارة. ففي الوقت الذي مازالت الأسئلة تُطرح عن سبب عدم الرد، بما يوازي خسارة قاسم سليماني، تأتي الأحداث الأخيرة لتثير المزيد من التساؤلات عن كيفية اختراق منشآت استراتيجية عالية الأهمية، ويفترض أنها شديدة التحصين؟ بل تجادل بعض مراكز البحوث السياسية والعسكرية في الغرب، بأن هنالك خرقا استخباراتيا كبيرا قد حصل في العمق الإيراني، دلائله الصيد الكبير في مقتل سليماني، وما تلاه من تفجيرات، إنما هو صفحة أخرى من صفحات هذا الخرق، بل باتوا يتحدثون عن أن إسقاط الطائرة الأوكرانية بصاروخ إيراني وإعلان الولايات المتحدة عنه قبل حكومة طهران، وقصف سفن إيرانية لفرقاطة إيرانية، ومقتل عدد من الجنود، كلها مؤشرات على وجود خرق في أنظمة الدفاع الصاروخي الايراني.