على سواحل البحر المتوسط وجدت منذ القدم 3 مراكز للثروة والمتعة والحرية، بالقرب من موانئ رئيسية واقعة على مفترق الطرق بين الشرق والغرب، وعلى عكس التوقعات، ازدهرت العالمية والقومية في وقت واحد في هذه المدن، وغيّر الناس هوياتهم ولغاتهم بحرّية، وتجاور أبناء الأديان المختلفة بسلام.
كانت بيروت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وكانت واحدة من 3 مدن، كتب عن تاريخها فيليب مانسيل المؤرخ البريطاني كتابه ” ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية “، في عام 2017، والذي طُبع حوالي 43 طبعة حول العالم.
يدور الكتاب عن تاريخ نشأة المدن الثلاث، أزمير في تركيا (يستخدم الكاتب اسمها الإغريقي القديم “سميرنا”)، والإسكندرية في مصر، وبيروت في لبنان، الموانئ الثلاثة الأشهر على البحر المتوسط، والتي تحولت لمدن تعددية متنوعة يتعايش في نسيجها العديد من الأجناس والأديان والأعراق واللغات والمِلل والطوائف، قبل أن تتبدل الأحوال، وتندلع الصراعات في المدن ذات الطبيعة المتنوعة، وتنتهي البدايات المشرقة بنهايات مآساوية.
ينظر مانسيل إلى الوراء ليدرك كيف كانت هذه المدن المشرقية الرائعة، وكيف اختلفت عن غيرها من المدن، ولماذا ظهرت كمنارات ثقافية، كما يشرع في البحث: لاكتشاف ما إذا كانت هذه المدن، كما يُزعم كثيرا، هي مدن كوزموبوليتانية -تعرف التعددية الدينية والقومية والعرقية- وعالمية حقا، وهل امتلكت إكسير التعايش الذي يتوق إليه العالم أم كانت تخفي البراكين التي تنتظر الانفجار كما توحي كوارث القرن العشرين؟
بيروت جمهورية التجار
في الفصل السادس من الكتاب، بدأ المؤرخ البريطاني الحديث عن المدينة المشرقية الثالثة بيروت جمهورية التجار، يشرح الكاتب كيف كانت بيروت مدينة صنعها المال والتجارة، وتحكمت تجارتها في السياسة والدين؛ فالسكان المسيحيون، سرعان ما تعاونوا مع القنصليات الأجنبية، وزادت التجارة أواصر العلاقة بين البيروتيين الأصليين، والوافدين على الميناء من تجار اليونان والأرمن وغيرهم.
كتاب “ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية” صدر عام 2017 وتُرجم للعربية (الجزيرة)
ولم تكن التجارة فقط هي الباعث الوحيد على تقوية العلاقات مع الأجانب؛ لكن كذلك رغبة مسيحيي بيروت في زيادة عددهم لمواجهة الطوائف الأخرى، كانت بيروت أقل المدن الثلاث تبعية للنفوذ العثماني، فقد كانت عاصمة أمراء الطوائف المختلفة، الذين ساهموا في تعزيز سيطرة البيروتيين على اقتصاد مدينتهم في القرن 19.
كان جزء كبير من التجارة في أيدي سلالات التجار الأجانب، والعائلات التي عاشت في بلاد الشام لأجيال طويلة متعاقبة، ومع ذلك لم يتم استيعابهم مطلقا في الثقافة المحلية، وظل كثيرون منهم يستخدمون لغاتهم الأجنبية ومدارسهم الخاصة.
يقدم مانسيل تاريخ بلاد الشام على أنه صراع بين العالمية والقومية، معتبرا أن التجارة أدت دورا كبيرا في سمات التنوع والعالمية، قبل أن يتم تأميم المدن العالمية في القرن 20 وتحويلها لمدن متجانسة، مزقت بيروت الحرب الأهلية، وأصبحت سالونيك مدينة يونانية خالصة، وإزمير مدينة تركية بعد التبادل السكاني الكبير بين البلدين بعد الحرب العالمية الأولى، وأصبحت الإسكندرية مدينة طاردة لسكانها الأجانب في الستينيات من القرن الماضي.
ويقول نقاد لكتاب مانسيل إن السمة العالمية والكوزموبوليتانية التي يمتدحها المؤلف كثيرا في المدن الثلاث، كانت حكرا على النخبة الثرية، ولم تشمل معظم السكان المحليين على الإطلاق.
اعلان
احتفظت بيروت بإرث من الاستقلالية وحسن العلاقات بين المسلمين و المسيحيين، ربما بسبب تكافؤ أعداد الطرفين، وكانت بيروت في حالة تضاد دائم مع دمشق، يبدو ظاهرا حتى الآن، كانت بيروت باريس سوريا، كمان كان يطلق عليها الأجانب في ذلك الحين، فكان التنوع والمرونة هما السمت الغالب على المدينة التي ترقد على قنبلة الطائفية، وغدا ميناء بيروت أكثر ازدحاما، لا تنقطع منه الحركة، يجد المسافرون في كل خطوة مشهدا حافلا بالعجلة و العدو والانطلاق، تصل بواخر و تغادر أخرى، يسرع التجار من أجل البريد، هواء الأعمال الأوروبية يهب في الأنحاء كافة، والدكاكين تمتلئ ببضائع أوروبا، كانت تبدو المدينة ساحرة.
درب الأحزان
تعاقب على حكم لبنان نظم حكم مختلفة في الزمن العثماني منذ القرن 16، وحكمتها عائلات درزية بتكليف من العثمانيين، قبل أن يضمها والي مصر محمد علي باشا عام 1831 لمملكته لفترة وجيزة.
وعرفت بيروت طريق الحزن مبكرا على مدار تاريخها، فهي لا تكاد تبتسم حتى يأتيها الحزن، لتتشح بالسواد من جديد، يروي فيليب مانسيل تاريخ المذابح البيروتية منذ عام 1840؛ لكن المذبحة الأبرز كانت في أيار/مايو 1860 التي حدثت بين الدروز والموارنة في الجبال، ونجم عنها قرابة 15 ألف قتيل، ودمرت مائتا قرية، وتحوّل 100 ألف شخص إلى لاجئين.
احتفظت بيروت بإرث من الاستقلالية وحسن العلاقات بين المسلمين و المسيحيين(بيكساباي)
ويتعرض الأكاديمي الأمريكي بروس ماسترز في كتابه “المسيحيون واليهود في العالم العربي العثماني.. جذور الطائفية” لموقع المسيحيين داخل الإمبراطورية بالأناضول وبلاد الشام والعراق، وللمدارس الدينية والكنائس المختلفة، متناولا الإصلاحات الدستورية “التنظيمات” التي دعمها الأرمن واليهود والأقباط والمسيحيون الأرثوذكس في حين أثارت استياء غالبية المسلمين بسبب ما عدّوه امتيازات تفضيلية.
وسمى العثمانيون الأراضي جنوب البلاد “عربستان” أي بلاد العرب، وكانت بلاد الشام تطلق على الأرياف والبلدان التابعة لدمشق، في المقابل كان لبنان تسمية محلية تشير إلى منطقة جبلية أصغر، وعلى جانب آخر كان الأوروبيون وحدهم الذين يميزون بين سوريا وفلسطين.
وبسبب الفتن الطائفية انتهى نظام “القائمقاميتين” سنة 1861، وقام نظام “المتصرفية” الذي أقرته السلطنة العثمانية مع 5 دول أوروبية.
ويقر النظام الجديد إدارة جبل لبنان عبر متصرف مسيحي (عثماني غير تركي) ومجلس إدارة يشترك فيه الموارنة والدروز مع ممثلين من السنة والشيعة وبقية الطوائف.
ورغم التدخلات الأوروبية الواسعة، استمر نظام المتصرفية حتى الحرب العالمية الأولى، وشهدت سنوات الحرب مجاعات واضطرابات هائلة، خصوصا في عهد جمال باشا الحاكم العسكري على سوريا، وبعد الحرب اقتسمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربي، وأصبحت البلاد تحت الانتداب الفرنسي بقرار من عصبة الأمم 1918.
الجزيرة