مواجهة النزاعات تقتضي إعادة التفكير في أساليب وأدوات دبلوماسية المياه

مواجهة النزاعات تقتضي إعادة التفكير في أساليب وأدوات دبلوماسية المياه

تلتقي قراءات المحللين والباحثين في الأسباب التي قد تقوم على أساسها الحروب أو النزاعات بين البلدان، في معظم الأحيان، عند قضية مصيرية هي مسألة المياه والمشاكل الخطيرة المرافقة لها. ولا يعتبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمعزل عن ذلك السياق، لذلك تشدد دراسات حديثة على اتباع رؤية مغايرة ضمن الخيار الدبلوماسي لتسوية الخلافات.

القاهرة – حظيت قضية المياه، خاصة في السنوات الأخيرة، بقدر كبير من الاهتمام في الأوساط الأكاديمية والبحثية كما هو الحال في دوائر صانعي القرار على مستوى المنظمات الحكومية الدولية والمراكز المتخصصة الفنية والسياسية، خاصة أن مسألة شح المياه تشي بتصاعد حدة الصراعات بين الدول.

ولقد أدى التنافس المتزايد على المياه بين البلدان، كما يحصل في قضية سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان (حوض النيل) وفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وأيضا مشكلة الأنهار الحدودية والأنهار المشتركة بين العراق وإيران وأيضا بين العراق وتركيا، إلى جدل عام يتسم بالاستقطاب في بعض الأحيان، بالنظر إلى غياب فكرة مفهوم “الدبلوماسية المائية” عند الحديث عن هذه القضية الشائكة.

وسلطت الباحثة مريم عبدالسلام الشامي، الأستاذة المساعدة بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الضوء على المشكلة في مؤلف نشر مؤخرا بعنوان “دبلوماسية المياه.. من الصراع إلى التعاون” تتناول فيه بالتحليل أحد المداخل النظرية للدبلوماسية في ما يخص أحد الحقول البينية الهامة لدراسة قضايا المياه وعلاقاتها بالعلوم السياسية وهو سياسات المياه (الهيدروبوليتكس).

وتسعى الدراسة إلى تفسير نجاح الدبلوماسية المائية في تحقيق التعاون المائي ومنه تحقيق التعاون الدولي في نهري الراين في أوروبا والميكونغ في جنوب شرق آسيا، وما هي الإشكالية المرتبطة بذلك المفهوم وعلاقته بالتعاون الدولي؟ وما هي طبيعة الإشكالية الطارئة في العلاقات بين الدول التي تتشارك في حوض نهري ما، في الوقت الذي يبدو فيه جليًا أن الخيار الدبلوماسي القائم على الوسائل التقليدية لم يعد يجدي نفعا؟

أدوات جديدة للتعاون
خلال السنوات الماضية، اتّجهت بعض دول الشرق الأوسط نحو تسوية الخلافات العالقة في ما بينها حول المياه التي باتت أحد محاور التنافس والصراع في المنطقة بشكل يؤشر على أن هذه الدول باتت تفضل الخيار الدبلوماسي في حلّ مشكلات المياه، لاسيما في ظلّ التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية. ومع ذلك لا تزال بعض الملفات عالقة.

ومن هذا المنطلق، تحاول الشامي في دراستها الصادرة عن دار العربي التعريف بأهمية الدبلوماسية المائية وفاعليتها في التوصل إلى حلول تحقق المصالح الوطنية لكل الأطراف، مستندة إلى اتباع منهجية للبحث بالاعتماد على تفسير كيف نجحت دبلوماسية المياه في تحقيق التعاون الدولي وحل الصراع المائي عبر تجربة كل من حوضي نهر الراين والميكونغ.

مريم الشامي تؤكد في كتابها “دبلوماسية المياه.. من الصراع إلى التعاون” أنه يجب التسلح بكل مقومات القوة الناعمة، وتبني مدخل يتجاوز الأدوات التقليدية في احتواء النزاعات

وتقول الباحثة المصرية إن الدبلوماسية المائية جاءت باعتبارها عملًا دبلوماسيًا يسعى للجمع بين الدربين في إدارة أزمة المياه سواء من المنظور التعاوني أو الصراعي معًا، حيث تسعى إلى إدارة أزمة المياه من خلال إستراتيجيات التعاون والصراع (المواجهة) في ذات الوقت، وذلك عبر تخصيص إمكانات بشرية ومادية في إطار خطة زمنية لحل المشكلة المائية القائمة.

وتقوم تلك الدبلوماسية على أساس التفاوض بين الأمم لابتكار حلول علمية وفق إستراتيجية مائية تشمل الأفراد والمجتمعات لدرء خطر اندلاع نزاعات جيوسياسية بسبب شح المياه، حيث تم التأكيد على الحوار التفاعلي بمناسبة العقد الدولي للمياه تحت عنوان “المياه من أجل الحياة”، وهذا حث الدول على ضرورة جعل مشكلة شح المياه سببًا للتعاون لا سببًا إضافيًا للنزاع.

وتوضح الشامي أن دبلوماسية المياه تنصرف إلى مجموعة الأنشطة والفعاليات التفاوضية والدبلوماسية التي تستهدف قضية مائية معينة، حيث يتم حشد الكوادر والجهود البشرية وتخصيص الإمكانات المادية والرمزية خلال فترة زمنية محددة لتحقيق أهداف على الصعيد المائي الدولي، حيث تكون هناك خطة إستراتيجية مائية تسعى الأجهزة الدبلوماسية من خلال تحركاتها وأنشطتها الخارجية إلى تحقيق أهدافها.

وتتجلى أهمية دبلوماسية المياه المقرونة بدبلوماسية القمة، وهي مؤتمرات يعقدها رؤساء الدول أو وزراء الخارجية في ما بينهم لمناقشة قضية خلافية ما، في أنه يلزم الاستمرار في قوة الدفع لتدعيم مسيرة العمل التعاوني وعدم الاقتصار على قضايا التعاون في قضايا السياسة الدنيا، وإنما من الضروري تحقيق قدر من التعاون في مسائل السياسة العليا، فهنا توافر الإطار السياسي الأمني يعمل كقوة دافعة نحو تعزيز خطى العمل التعاوني في قضايا السياسة الدنيا.

وتتمثل مهارة “دبلوماسية المياه” وفاعليتها واستدامتها في أن إدارة التعاون المائي لا تقل أهمية عن إدارة الصراع ولذلك يجب التسلح بكل مقومات القوة الناعمة، وعليه فقد ظهرت حاجة ملحة إلى ضرورة تبني مدخل جديد يتجاوز السلبيات والأدوات التقليدية في احتواء الصراع.

ومن هنا تتمثل أهمية الدراسة في تفسير دبلوماسية المياه كمدخل نظري تفاوضي قادر على تجاوز نقائص الآليات التقليدية القانونية بتقديم آلية سياسية تتسم بالمرونة والقدرة على استيعاب خصوصية احتياجات الدول الأطراف في صراعات المياه، بل تتجاوز ذلك إلى فتح منافذ أوسع للتعاون الدولي.

نماذج للتعاون الفعال
تسعى الدراسة إلى التركيز على تحديد آليات إقامة علاقات دولية تعاونية عن طريق استقراء تجارب معاصرة حققت نجاحا في تحقيق التعاون باستخدام الدبلوماسية المائية، في حين وجدت تجارب أخرى تعثرت في تحقيقه مثل نهر النيل، بهدف الوصول إلى أساليب فعالة تستطيع تحقيق التعاون الدولي وتجاوز الصراعات حول المياه.

وعلى سبيل المثال، أسفرت الدبلوماسية المائية عن تحقيق إنجازات واضحة وملموسة في عدد من الأحواض المائية منها الراين والميكونغ والسند والأورانج وكولومبيا والريوع والغانج وكولورادو وزامبيزي، بيد أن دراسة الشامي ركزت على استقراء حالتي نهري الراين والميكونغ بهدف الوقوف على مؤشرات يمكن الاستفادة منها وبالتالي إنجاحها، لاسيما في المنطقة العربية.

وتؤكد الشامى في دراستها أن حالتي نهر الراين، الذي تتشاركه كل من سويسرا وفرنسا وألمانيا وهولندا وليختنشتاين، ونهر الميكونغ الذي ينبع من هضبة التبت ويمر عبر إقليم يونان الصيني ثم ميانمار ولاوس وتايلاند وكمبوديا ليكوّن في فيتنام دلتا نهر الميكونغ ليصب في نهاية المطاف في بحر الصين الجنوبي، تمكنتا من التحول من الصراع المحتمل إلى تأسيس وترسيخ تعاون مثمر بين كافة الأطراف بعد اتباعهم للدبلوماسية المائية.

وتقدم الباحثة المصرية في كتابها مجموعة من التوصيات للحكومة المصرية للتعامل مع ملفاتها المائية بتعبئة كافة الموارد بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والعسكرية وتوظيفها بالشكل الذي يحقق في النهاية الأمن القومي للبلاد، والذي يتمثل في إحدى جوانبه في مسألة الأمن المائي.

وحول الرؤية المستقبلية للوضع في حوض النيل وقضية سد النهضة الإثيوبي في إطار محاكاة نجاح الدبلوماسية المائية في كلتا التجربتين الأوروبية والآسيوية، وضعت الشامي سيناريوهين أولهما التعاون بين دول المنبع ودول المصب، بتجاوز الخلافات الشكلية الحالية بين الطرف الإثيوبي والمصري.

ويتطلب ذلك المنحى تغليب المصلحة الجماعية على التنافس والمصالح الفردية مع تحييد الخلافات السياسية والاجتماعية واعتماد آلية للتفاوض يمكن من خلالها البناء على ما تحقق من قبل، وتفعيل إحدى آليات الدبلوماسية المائية المتمثلة في بناء المشروعات المائية، أو صياغة اتفاقية مائية، أو تواجد مفوضية مائية للحوض يتم من خلالها تنسيق المواقف، وبدء إدارة المشروعات والاستثمارات المتفق عليها برعاية الأطراف المانحة.

أما السيناريو الثاني فيتثمل في استمرار غياب التعاون بين الطرفين وتواصل عمليات الشد والجذب وتمييع المواقف، وتسويفها استنادا على مبدأ اللاتفاوض نظرا لغياب التنسيق والتكامل بين مختلف تلك الجهات، وأن تلك الأنشطة تفتقر للطابع الهيكلي المستقر التي لها طابع الاستمرار في إحداث آثارها.

واستنادا إلى ما يجري على الخارطة السياسية الحالية وتغير ميزان القوى لصالح دول بعينها، فإن الشامي ترجح السيناريو الأول لأنه الأقرب إلى التحقيق والأكثر واقعية.

العرب