الباحثة شذى خليل*
تخلي واشنطن عن نظام كابول صدم البعض بشكل خاص في آسيا، بما في ذلك جزيرة تايوان، وهي المنطقة الأكثر اعتماداً على حماية الولايات المتحدة. وقد دفعت سلطات الحزب الديمقراطي التقدمي (دي بي بي) في الجزيرة تايوان إلى المضي قدماً في هذا المسار غير الطبيعي، بحسب “غلوبال تايمز”، لقد شهد الوضع في أفغانستان فجأة تغيراً جذرياً بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن البلاد، وغادرت واشنطن لتوها على الرغم من تدهور الوضع في كابول، دراسة حديثة تقدر خسائر الولايات المتحدة المالية في الحرب الأفغانية خلال عقدين، منذ تدخلها العسكري في 2001 وحتى بداية انسحابها في إبريل/ نيسان 2021 بنحو 2.261 تريليون دولار بعد خسائر بشرية ومالية ضخمة تكبدتها القوات الأميركية في الحرب الأفغانية وتحمل كلف تدريب وتسليح الجيش الأفغاني، تسقط المدن والأقاليم الأفغانية مثل “بيت من الورق”وسط ريح عاصف ويهرب الجيش الأفغاني من أرض المعركة مخلفاً ورائه المعدات الحديثة وطائرات الدرون لقوات “طالبان”.
بعد سيطرة “حركة طالبان” الشركات الأوروبية قلقة من فوضى الأوضاع السياسية والعسكرية والاجتماعية وبدأت بحسابات التكلفة الاقتصادية للوضع الجديد، من بين هي الشركات الألمانية التي تستثمر بكثافة في مشاريع البنية التحتية الكبرى في أفغانستان. ومن بين الصفقات التي تصل إلى مليارات اليورو والتي تواجه الآن مستقبلاً غير مؤكد، من المشاريع الكبرى هو مشروع الكهرباء لشركة سيمنز، الذي انطلق بالتعاون مع الحكومة السابقة.
البنك الدولي يرسم صورة قاتمة للاقتصاد الافغاني، بعد سيطرة “طالبان” على البلاد، إذ قال البنك أن الآفاق الاقتصادية لأفغانستان تبدو أكثر خطورة، والمساعدة المالية في المستقبل غير واضحة ، حيث تمتلك أفغانستان موارد معدنية كبيرة، لكن الوضع السياسي عرقل استغلالها، وتظهر أرقام البنك الدولي أن مساعدات التنمية كانت تعادل 22 في المئة من الدخل القومي الإجمالي (وهو ليس الناتج المحلي الإجمالي نفسه ولكنه قريب منه)، وهذا رقم مرتفع لكنه أقل بكثير من نسبة 49 في المئة التي أبلغ عنها البنك الدولي قبل 10 سنوات.
وفي مجرى الاحداث من سيطرة حركة طلبان أصبحت تدفقات المساعدات بعد التأكد مما سيحدث في الوقت القريب القادم . وقال وزير الخارجية الألماني هايك ماس لقناة “زد دي إف” الأسبوع الماضي، “لن نعطي سنتاً آخر إذا ما سيطرت طالبان على البلاد وطبقت الشريعة”.
ومن المؤكد أن الجهات المانحة الأخرى للمساعدات ستراقب التطورات عن كثب.
يقول المختصون في الشأن الاقتصادي؛ تهدد حركة “طالبان” على أفغانستان ما قيمته 3 مليارات دولار من الاستثمارات الهندية في البلاد. وتراقب الهند بقلق شديد ما يحدث مع عودة “طالبان” إلى الحكم في كابول، وكيف ستنعكس العودة غير المحمودة للعلاقات الهندية – الأفغانية، التي كانت شهدت تقارباً كبيراً في السنوات القليلة الماضية.
ربما للقلق الهندي ما يبرره، وخصوصاً أن “طالبان” ترتبط بعلاقات قوية مع باكستان وبعض الأحزاب المتشددة فيها، ناهيك عن الاهتمام المتزايد للصين في أفغانستان، وقد كشفت وسائل الإعلام العالمية عن لقاء مسؤول صيني مع أحد قادة “طالبان” من دون تحديد هوية الرجلين، مما يعكس رغبة الصين في تثبيت قدم لها في أفغانستان، خصوصاً بعد رحيل الخصم، الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وعلى رأسهم بريطانيا.
وتشعر الهند بأن عودة “طالبان” إلى حكم أفغانستان يجعلها محاصرة بين خصمين شرسين هما الصين وباكستان، وتربطها بكل منهما علاقات متوترة سياسياً وعسكرياً، مما يرفع وتيرة التهديدات التي تواجهها الهند.
اما على الصعيد الروسي، ربما تكون موسكو سعيدة بهزيمة الولايات المتحدة وانهيار نظام الحكم في كابول، وبالتالي خروج القوات الأميركية من أفغانستان دون حصاد يذكر غير الخسائر، ولكن لايبدو أن موسكو ستكون رابحة من الهزيمة الأميركية، إذ لدى روسيا مصالح ضخمة من العلاقات التجارية والنفطية في آسيا الوسطى وتتخوف عليها من حركة طالبان التي تكنّ لها عداء تاريخياً منذ الغزو السوفييتي في القرن الماضي.
وتقدر استثمارات الشركات الروسية بنحو 20 مليار دولار في دول جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تابعة للإمبراطورية السوفييتية، كما أن هنالك نحو 7500 شركة تعمل في هذه الدول، وتأمل روسيا في استغلال أسواق آسيا الوسطى لتوسيع حجم تجارتها وسط ضغوط الحظر الأميركي المتواصل عليها.
و يرى محللون أن روسيا تبدو قلقة على مصالحها من سيطرة الحركة على السلطة في كابول، خصوصاً لناحية تداعيات عدم الاستقرار على مشروعات الطاقة.
مما سيفاقم الوضع الاقتصادي المتدهور في أفغانستان، خصوصاً على صعيد تزايد معدل الفقر والبطالة وارتفاع معدلات الجريمة وتجارة المخدرات والتهريب في منطقة آسيا الوسطى.
الصين تبرر اهتمامها المتزايد بأفغانستان لاستكمال خريطة الحزام والطريق من البوابة الأفغانية الغنية بالثروات الطبيعية والمعدنية، والتي يسيل لها اللعاب الصيني.
والصين حريصة على أن يكون لها موطئ قدم في أفغانستان، ويبدو أن علاقاتها مع “طالبان” أفضل من تلك التي تتمتع بها القوى الغربية، لذلك قد يكون لبكين امتياز.
إذ استثمرت الصين عشرات المليارات من الدولارات في مبادرة الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يشمل مجموعة من مشاريع البنية التحتية من بينها مشاريع قيمتها 47 مليار دولار قيد الإنشاء في جميع أنحاء باكستان منذ عام 2013، من إجمالي مشاريع الممر الباكستاني الصيني البالغة 70 مليار دولار، ويهدف الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني إلى تطوير البنية التحتية المطلوبة لباكستان وإنشاء مناطق خاصة، ولكن الشكوك تتزايد حول نجاح هذا المشروع الاقتصادي الضخم مع الصعود السريع لحركة طالبان.
مشاريع الحزام والطريق استفادت من الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، إذ وفر لها الاستقرار السياسي للعبور إلى العديد من الدول الأعضاء في مبادرة “الحزام والطريق
وقد فازت الشركات الصينية بعقود لتطوير عمليات في النحاس والنفط، لكن القليل تحقق على الأرض. ومن المتوقع أن تكون الصين مهتمة. ويبدو أن الفرص كبيرة للغاية حيث المسافة بين البلدين قصيرة.
لكن أي وكالة صينية رسمية أو شركة تريد أن تكون واثقة من النجاح، لذلك ستتردد في الالتزام ببناء مشاريع والاستثمار في أفغانستان، ما لم تشعر بأنه سيتم احتواء مشكلات الأمن والفساد بشكل كافٍ للتمكن من استخراج كميات جديرة بالاهتمام من هذه السلع الصناعية.
في المستقبل القريب، هناك قدر كبير من عدم اليقين في شأن الاستقرار المالي في ظل حشود الناس التي تحاول سحب أموالها من البنوك لهجر البلاد على عجل هرباً من “طالبان”، ربما من دون رجعة.
ولا ننسى القيمة جيوسياسية لأفغانستان، والتي لا تقل عن قيمة جزيرة تايوان، فحول أفغانستان هناك أكبر ثلاثة منافسين جيوسياسيين للولايات المتحدة، الصين وروسيا وإيران، إضافة إلى ذلك تعد أفغانستان معقلاً للأيديولوجيا المعادية للولايات المتحدة. وانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان ليس لأنها غير مهمة، ولكن لأن الوجود الأميركي أصبح مكلفاً للغاية بالنسبة إلى واشنطن.
قوة الاقتصاد الافغاني بما تملكه من الثروة المعدنية، فمنذ الغزو الأميركي في العام 2001. اخذ الاقتصاد الافغاني بالنمو، في حين أن الأرقام الخاصة بأفغانستان غير موثوقة، لكن ما تظهره وفقاً للبنك الدولي هو متوسط نمو سنوي يزيد على تسعة في المئة خلال السنوات العشر منذ العام 2003، ثم تباطأ النمو الاقتصادي للبلاد (وهو ما قد يعكس انخفاض مستويات المساعدة) إلى معدل متوسط قدره 2.5 في المئة بين عامي 2015 و2020.
وتمتلك البلاد موارد طبيعية كبيرة من شأنها في سياق أمن أفضل وفساد أقل، أن تكون جذابة للأعمال التجارية الدولية، وهناك أنواع عدة من المعادن متوفرة بكميات كبيرة، بما في ذلك النحاس والكوبالت والفحم وخام الحديد. وهناك النفط والغاز والأحجار الكريمة.
و الليثيوم، المعدن الذي يستخدم في بطاريات الأجهزة المحمولة والسيارات الكهربائية، وسيكون التطبيق الأخير مهماً بشكل خاص لأن صناعة السيارات تقوم بالانتقال إلى أشكال النقل الخالية من الكربون، في عام 2010 قال جنرال أميركي كبير لصحيفة “نيويورك تايمز” إن الإمكانات المعدنية لأفغانستان كانت “مذهلة” مع “كثير من الأشياء بالطبع”. وهناك مذكرة داخلية في وزارة الدفاع الأميركية قدّرت أن البلاد يمكن أن تصبح “مركزاً لليثيوم في العالم”، ومع ذلك فإن هذه الإمكانات غير المشكوك فيها ليست على وشك أن تُستغل، ولم ير الشعب الأفغاني سوى القليل منها، ولم تستغل بشكل صحيح.
اما الافيون فهو اقتصاد بحاله حيث يصف البنك الدولي القطاع الخاص في أفغانستان بأنه ضيق، فيما تتركز العمالة في الزراعة المنخفضة الإنتاجية حيث تحصل 60 في المئة من الأسر على بعض الدخل من الزراعة.
وتمتلك البلاد اقتصاداً غير مشروع كبير، فهناك تعدين غير قانوني، وبالطبع إنتاج الأفيون والأنشطة ذات الصلة مثل التهريب. في حين بقيت تجارة المخدرات مصدر دخل مهم لـ “طالبان” خلال الـ 20 عاماً الماضية على الرغم من الوجود الأميركي والغربي في البلاد.
هبوط قياسي لعملة الأفغاني
بعد مغادرة القائم بأعمال محافظ البنك المركزي الأفغاني البلاد، بحسب “بلومبيرغ”، مع سيطرة “طالبان” على العاصمة كابول، في حين دفع الاضطراب السياسي المتزايد عملة البلاد إلى مستوى قياسي منخفض. وهبط الأفغاني 1.7 في المئة الثلاثاء إلى 83.5013 للدولار في اليوم الرابع من سيطرة “طالبان” على البلاد، وفقاً لبيانات جمعتها بلومبرغ. وتم إبلاغ البنك المركزي أنه لن يكون هناك مزيد من الشحنات بالدولار.
انخفاض السندات التي قيمتها دولار امريكي المستحقة لباكستان، امتدت الاضطرابات في أفغانستان إلى الأسواق في باكستان. وانخفضت السندات السيادية في الدولار المستحقة لباكستان في 2031 بمقدار 1.8 سنت يوم الإثنين، وهو أكبر انخفاض منذ أن قامت الحكومة بتسعير الأوراق النقدية في مارس (آذار). وكانت السندات في الدولار الباكستانية أكبر الخاسرين في آسيا يوم الإثنين وفقاً لمؤشر “بلومبيرغ باركليز”. وارتفعت الأوراق النقدية 0.2 سنت على الدولار يوم الثلاثاء إلى 100.5 سنت.
إن الأمن والمشاكل الحادة مع الفساد وراء مشكلة أخرى مستمرة في أفغانستان، وهي تدفق الاستثمار الأجنبي الضعيف للغاية في الأعمال التجارية، التي تبين ضعف الاقتصاد الذي شار الية البنك الدولي من خلال المستويات المرتفعة للغاية للإنفاق على الأمن قبل سيطرة “طالبان”، والذي يمثل 29 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط ثلاثة في المئة للبلدان منخفضة الدخل
وطبقاً لبيانات الأمم المتحدة، لم تكن هناك إعلانات في العامين الماضيين عن استثمارات جديدة تشمل شركات أجنبية تنشئ عمليات من الصفر. ومنذ العام 2014 كان هناك ما مجموعه أربع شركات أبدت اهتماماً بالاستثمار في أفغانستان.
ختاما على الرغم من أن أسواق المال العالمية ربما لن تصيبها تأثيرات الحرب الأهلية الأفغانية والتقدم السريع لقوات حركة طالبان في الاستيلاء على المدن والأقاليم بأفغانستان على المدى القصير، مع تقدم الحركة ودخول العاصمة كابول، لكن يرى العديد من خبراء استراتيجيات السياسة والنفوذ العالمي، أن المشهد السياسي والاقتصادي سيتغير ويصبح أكثر تعقيداً في منطقة آسيا الوسطى، وربما ستكون له تداعيات خطيرة على النفوذ الأميركي ومشاريع “الحزام والطريق” الصينية وروسيا واستثمارات اوربا ، الفوضى لن تقف عند حدود أفغانستان، ولكنها ستتمدد خارج الحدود”.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية