تونس.. دعاية صاخبة وحصيلة متواضعة

تونس.. دعاية صاخبة وحصيلة متواضعة

580

يراد لنا أن نهنأ بالجمود لأن البديل هو الفوضى، ونحتفلَ بالسقوط ما دمنا لم نصل القاع، وبالفشل ما دام هناك من هو أفشل منا، وأن نكذّب ما نراه لنصدق ما نسمعه، وألا نفكر في ما حدث ولماذا.

بل يراد منا أن نخدع أنفسنا ونعيش على الأوهام والأماني، وأن نغض الطرف عن كل الكوارث ما دام لدينا دستور وانتخابات وتوافق، وأن نصمت ونكتفي بالفرجة والحسرة على ثورة ووطن ودين واقتصاد وأخلاق ومستقبل وأجيال في مهب الريح.

سيقول بعض الناس: دعونا من التشخيص والتحليل، أعطونا حلولا أو دعونا نعمل. لهؤلاء أقول: أي مستقبل سنرسمه دون أن نفهم أين نقف وكيف ولماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟ وأي علاجات أو إصلاحات ستتحقق بدون تشخيص؟ وأي حلول سيجدها من يسير في طريق خاطئ؟ ولم يخرّب بيوتَنا ويجعلنا في مؤخرة الأمم ندور في حلقة مفرغة نراوح بين الجمود والانحدار إلا هذا الفهم الحركي للسياسة وللدين.. فهم النشطاء الذي يدعو إلى العمل والحركة دون حاجة إلى فكر أو رؤية أو إستراتيجية أو منهجية أو تخطيط، وبصرف النظر عن النتائج، ومن دون توثيق ولا تقييم ولا محاسبة.

“هل التجربة التونس ناجحة؟ قطعا لا، إذا قسنا الإنجازات والإصلاحات شبه المعدومة بالأهداف والفرص، فقد تهيأت في تونس كل الظروف لإحداث نقلة نوعية وإصلاحات جذرية وشاملة تجعلها نموذجا ناجحا فعلا لا قولا”

فلا عجب أن تتصدع رؤوسنا بالجعجعة ولا نرى طحنا، وكثيرا ما كان الضرر أكبر من النفع.. ولا عجب أن تتكرر الأخطاء والخطايا وعلى يد نفس الأشخاص، وأن تتحول السياسة إلى ظواهر ورقية وصوتية، وأن تظل السياسة العربية كما كانت دوما قبائل تتبارز بالشعر والسيف وتتنازع الغنائم.. فقط القبائل أصبحت تسمى أحزابا.

ومن العبث أن نستمر في ذات المنهج الذي أوردنا المهالك وأوصلنا إلى الحضيض، وننتظر نتائج مختلفة. ذلك هو الجنون بحسب آينشتاين الذي كان يصرف 90% من الوقت في تشخيص المشكلة قبل البحث عن الحل.

فلحكمةٍ كان ثلث القرآن قصصا يوجه المسلمين إلى الاعتبار من تجارب الآخرين، ولحكمةٍ كان القرآن يتنزل بعد كل حدث يحمّل المسلمين المسؤولية ويدعوهم للاعتبار، بخطاب شديد يخلو من الإنكار والتبرير والشماعات.

هل تونس تجربة مختلفة؟ أكيد.. اختلاف فرضته طبيعة الشعب والأجندات الدولية، فسيناريوهات الفوضى والحرب الأهلية مستحيلة في تونس ومرفوضة دوليا، بدليل الهبة الدولية القوية لمواجهة الإرهاب في تونس رغم محدوديته (على عكس الدول التي أريد لها الفوضى والتقسيم)، وبدليل المساهمة القوية من أميركا وأخواتها في حماية رموز النظام التونسي، فضلا عن الحفاوة الكبيرة التي يحظون بها.

هل التجربة التونس ناجحة؟ قطعا لا، إذا قسنا الإنجازات والإصلاحات شبه المعدومة بالأهداف والفرص، فلقد تهيأت في تونس كل الظروف لإحداث نقلة نوعية وإصلاحات جذرية وشاملة تجعلها نموذجا ناجحا فعلا لا قولا.. لم يحدث شيء من ذلك، فركزت الطبقة السياسية على الخطابة والتنظير وتبرير الفشل وتغليفه وتسويقه، ولم تجد من إنجازات تذكرها إلا الدستور في بلد أنجز دستورا محترما عام 1861، وفي عهد أصبحت فيه الدساتير تنجز بالنسخ واللصق، وتجرى فيه انتخابات معقولة في جل بلدان العالم.

لم يستكثر الشعب على تونس الدستور والانتخابات فلم ينبهر، كما لم ينبهر بالدعاية الغربية للتجربة التونسية لأنه خبر نفس الدعاية من نفس الجهات لمعجزة بن علي التي سمع عنها ولم يرها، ولا حتى جائزة نوبل أبهرته.

أما القول بأن تونس تجربة ناجحة لأنها نجت من سيناريوهات ليبيا واليمن وسوريا، فهو إهانة مرفوضة ليس فقط لاستحالة تلك السيناريوهات في تونس، بل أيضا لأنها تعني أن التونسيين والعرب عموما لا ينبغي أن يحلموا بأكثر من النجاة من الحرب الأهلية، وأن يسعدوا بكل ما دون ذلك، وأن قدرهم أن يختاروا بين الجمود والفوضى.

تجربة تونس ناجحة جدا بالنسبة لفريقين: القلة الحاكمة ومن يدور في فلكها، فهؤلاء حدثت في حياتهم نقلة صاروخية وأصبحوا يعيشون أحلامهم، مما أفقدهم الحرص فضلا عن القدرة على إحداث أي تغيير، ولذلك توافقوا.

والتجربة ناجحة أيضا بالنسبة للقوى الخارجية والداخلية المعارضة لأي تغيير جذري، وبالتالي هي سعيدة بثورة قامت ثم خمدت دون أن تغير شيئا (بل كرست التبعية)، وممتنة للفريق الأول الذي “نجح” -بوعي أو بدونه- في تجويف الثورة وتمييع أهدافها.

هل النظام التونسي ديمقراطي؟ لا.. تونس ليست ديمقراطية ولا تسير نحو الديمقراطية، فالانتقال الديمقراطي “المقدس” تم، ولكن تمخّض عن ديمقراطية موجهة ومشوهة، ككل الديمقراطيات المشوهة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ولبنان وباكستان وإيران وروسيا، التي تتوفر فيها كل مظاهر الديمقراطية، ولكن القرار فيها فردي أو في دائرة صغيرة أو خارج مؤسسات الحكم. ولن تقوم ديمقراطية في دولة عربية تابعة.

“القول بأن تونس تجربة ناجحة لأنها نجت من سيناريوهات ليبيا واليمن وسوريا، يعدّ إهانة مرفوضة ليس فقط لاستحالة تلك السيناريوهات في تونس، بل أيضا لأنها تعني أن التونسيين والعرب عموما لا ينبغي أن يحلموا بأكثر من النجاة من الحرب الأهلية، وأن يسعدوا بما دون ذلك”

ولا يمكن الفصل بين الديمقراطية والنهوض والتحرر، بل لا بد من العمل على هذه الأهداف بالتوازي لا بالتسلسل، والديمقراطية ليست مطلوبة لذاتها بل هي مجرد آلية هي الأفضل لإدارة الدول كاملة السيادة، ولا معنى لها (خاصة إذا كانت مشوهة) في بلد تابع ومتخلف بحاجة إلى إقلاع.

ما تحقق هو ما يُسمى الديمقراطية التوافقية، وهي أسوأ أنواع الديمقراطية إذ تضْمن الشلل السياسي وتعطيل مصالح البلاد والعباد، سقفُها تصريف الأعمال وتثبيت الأوضاع، ولا تضطر إليها كأفضل الممكن إلا الدول الملغومة بالطائفية أو القبلية كلبنان لتنجو من الحرب الأهلية والتقسيم، ولا تخدم إلا رؤساء الأحزاب والطوائف إذ تبقي على نفوذهم أيا كانت نتائج الانتخابات، وبالتالي تضعف وتهمش مؤسسات الحكم، وتجعل الانتخابات ونتائجها بلا قيمة، وتقضي على الشفافية والمحاسبة.

وهو ما يفتح الباب على مصراعيه للفساد المالي والسياسي، وتصبح البلاد تدار بالصفقات والتسويات في الخارج وفي الكواليس بوصاية أجنبية، وتصبح الانتخابات مجرد اختيار بين وكلاء معتمدين -متشاكسين أو متوافقين- ليسيروا بالبلاد في مسار محدد سلفا، على الأقل في خطوطه العريضة والحمراء.

والديمقراطية التوافقية أسهل النظم تحكما من الخارج، وهي أسهل حتى من الدكتاتورية. ولأن التوافق في تونس لم يكن على مشروع وطني، فقد كان مجرد صفقة لتقاسم السلطة واحتواء الثورة، أنضجتها الإملاءات الخارجية واللهفة على السلطة.

ففي تونس اليوم حكومة تدير ولا تقود، وتدار من وراء الستار، وبرلمان تأتيه القرارات شبه جاهزة ليصادق عليها، وتوقع الدولة اتفاقيات وتنخرط في تحالفات لا يُسمع عنها إلا من الإعلام. أما آلية الحكم الفعلية فهشة جدا ويمكن أن تنهار في أي لحظة.

ومن المفارقات أن لبنان بدأ ينتفض على ديمقراطية التوافق والمحاصصة ويحاول أن يتحرر منها، بينما تدخل تونس هذا النفق غير مضطرة، فشعبها كله تقريبا مسلم عربي سني على المذهب المالكي.

هل تحققت في تونس إنجازات أو إصلاحات؟ لم يتحقق في تونس شيء يذكر بعد الأشهر الأولى من الثورة التي انتزع فيها الشعب حريته وكسر حاجز الخوف ومنع المنظومة القديمة من العودة عبر النافذة، قبل أن يتم تبييضها ويمهد لها الطريق لتعود من الباب نتيجة خليط من الفشل والتواطؤ. ولو استمر بن علي في الحكم بعد تحرر الشعب لما اختلفت الأوضاع كثيرا عما هي عليه الآن.

وكل ذلك كان سيهون لو أن الشعب يرى في نهاية النفق ضوءا، ولو أن النظام لديه خطة أو حتى الحافز للخروج من الأزمة.

فالأوضاع في تونس تدهورت حتى وصلت إلى مستوى كارثي في كل المجالات، فالمنظومة التعليمية التي كان الشعب يأمل إصلاحها تكاد تنهار، وكذلك منظومة الصحة العمومية، والاقتصاد ظل يتراجع حتى دخل مرحلة الركود والانكماش، وظاهرة البطالة لم تتحلحل، وتفاقمت المديونية، وتردت الخدمات والبنية التحتية، وانتشر التسيب والفوضى في الإدارة وفي الشارع، وتدهورت القدرة الشرائية، وازدادت حدة الغضب ووتيرة الإضرابات والاحتجاجات، وانحطت الأخلاق، وتفاقمت الجريمة كمّا وبشاعة ولأتفه الأسباب، وتراكمت القمامة، وعادت في تونس أمراض كانت قد انقرضت.

أما الفساد فنجح في تطبيع أوضاعه مستفيدا من لهفة الأحزاب وتسابقهم على السلطة والمال. والأخطر من ذلك تفشي الإحباط واللامبالاة بين المواطنين، وفقدان الثقة في السياسيين والأحزاب والنظام والمستقبل، والعودة القوية للأنانية والانتهازية والجهوية على حساب الروح الوطنية التي أذكتها الثورة، وكلها ظواهر تديم الأزمة وتضعف إمكانية الخروج منها.. فعن أي نجاح يتحدثون؟

صحيح أن الكثير من تلك الظواهر من تركة بن علي الثقيلة، ولكن ما أزعج الشعب هو مرور السنوات بدون أي إنجازات أو إصلاحات أو تحسن أو حتى وقف للتدهور، وبدون شفافية، وبدون أي توجهات وتصورات واضحة أو مؤشرات على الخروج من الأزمة تجعل الشعب يصبر وينتظر.

“تونس ليست ديمقراطية ولا تسير نحوها، فالانتقال الديمقراطي تم، ولكن تمخض عن ديمقراطية مشوهة، ككل الديمقراطيات المشوهة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ولبنان وباكستان وإيران وروسيا، التي تتوفر فيها مظاهر الديمقراطية، ولكن القرار فيها خارج مؤسسات الحكم”

وأسوأ من ذلك هو لامبالاة السياسيين بأوضاع البلاد والعباد وانشغالهم بمكاسبهم وصراعاتهم وصفقاتهم. ولقد بلغ الانفصام بالسياسيين أنهم إذا تحدثوا ظن المواطن أنهم يتحدثون عن بلد آخر من فرط النشوة والحديث عن نجاحات وهمية، فانطبق عليهم القول الشهير “الساسة يعبثون وروما تحترق، لكنهم معذورون لأنهم لا يعلمون أنهم يعبثون، ولا يعلمون أن روما تحترق”.

هل الفشل بسبب قلة الموارد؟ وهل المسألة مسألة وقت؟ لا.. فقد تقدمت دول كانت أكثر فقرا وتخلفا من تونس دون أن تكتشف موارد جديدة، ولم تتقدم دول أخرى رغم وفرة مواردها. المفتاح هو قيادة تنجح في بلورة رؤية ملهمة وتحفيز الشعب على تحقيقها، وتنجح في تنمية وتوظيف الموارد البشرية.

وأما الوقت فهو جزء من العلاج عندما يكون المسار صحيحا ولو متعثرا. أما عندما يكون المسار خاطئا كما هو في حالة تونس، فلن تزيده الأيام إلا بعدا عن الهدف. صحيح أن الإنجازات والإصلاحات الكبرى تحتاج إلى وقت، لكن مؤشرات النجاح والتقدم تظهر مبكرا عندما يكون المسار صحيحا.

لقد تهيأت لتونس فرص عظيمة ضاعت بصورة محيرة على يد طبقة سياسية غارقة في النرجسية والأوهام، تفكيرها محدود، وخيالها قديم، واهتماماتها صغيرة، لا تتقن سوى التنظير العقيم، وتقعير الكلام، مفاجآتها وشطحاتها لا تنتهي، تفاجئك مهما انخفضت توقعاتك.. نخب متخلفة عن عصرها، لا تعرف قيمة وطنها وشعبها ولم تقدر قيمة الفرصة التي أتاحتها الثورة.

فكيف تم ذلك؟ وما هي الدروس التي يمكن استخلاصها حتى لا تتكرر الأخطاء فتضيع فرص أخرى وهي قادمة بإذن الله؟ فالوضع الحالي هش ولن يصمد طويلا، بعدما أدرك الشعب أن البلاد ليست في أيدٍ أمينة ولا تسير في الاتجاه الصحيح، وفقد الثقة في هذه الطبقة السياسية ويئس منها، وهو اليوم يتطلع إلى طريقة يصحح بها المسار، وقد بدأ بالمقاومة السلبية، ولا يحجمه عن الانتفاض إلا فشل التجربة الأولى التي لا يريد أن يكررها، وهو يدرك أنه لا حل إلا بكنس هذه الطبقة السياسية وإفراز نخب جديدة صادقة ومخلصة بتفكير جديد وخلاق وآفاق واسعة وطموحات عالية.

بداية الثورة كانت مبهرة.. تتابعت النجاحات وظهر المعدن الحقيقي لشعب طالما قدح فيه السياسيون لتبرير إخفاقاتهم وفشلهم في تحفيزه وتعبئته، لأنه أدرك أن قضيتهم ليست قضية وطن وشعب، بل قضية سلطة وأمجاد شخصية وتمكين لأنفسهم وأحزابهم، وهو ما أكدته سلوكياتهم ومواقفهم بعد الثورة.

ظل الشعب لبضعة شهور معبأ وموحدا تحت راية الوطن ومتضامنا.. أحبط كل محاولات التخريب وإحداث الفوضى، وتدفق الحس الوطني الذي كان مغمورا، وزال حاجز الرعب الذي كان يفرق بين الناس، وأصبحت ثقة الشعب بنفسه وطموحاته بلا حدود، فقد حقق بذكاء وشجاعة معجزة في أسرع الأوقات وبأقل التكاليف، ونجح في إسقاط النظام دون إسقاط الدولة.

تهيأت ظروف الإقلاع، ولم يكن ينقص الثورة والشعب لاقتناص هذه اللحظة التاريخية سوى قيادة صادقة ومخلصة تبلور الحلم في شكل مشروع وطني ملهم، وتحفز الشعب لدفع ثمن التحرر والنهوض والصبر على آلام العلاج، وتراهن على المشروع وعلى الشعب.

سهيل الغنوشي

المصدر : الجزيرة