وفرت الدولة غطاء أمنيا وإداريا لضمان سير العملية الانتخابية بسهولة ويسر، ونجحت في الخروج بالعملية في يوميها إلى بر الأمان، دون أن تقع حوادث ذات بال في دوائر تمتد طوليا من الإسكندرية ومرسى مطروح شمالا، إلى حلايب وشلاتين جنوبا. واتسمت الإجراءات بالحيادية والشفافية، ولم يعكر صفو الانتخابات، مخالفات جسيمة، بحسب تقارير كل المنظمات المشاركة في الرقابة على سير العملية.غير أن هذا البعد لم يكن مؤثرًا رغم النجاح المشهود فيه، لأن الناخب كان قد اتخذ قراره مسبقا بعدم المشاركة في الانتخابات، بسبب جملة من العوامل التي تضافرت فأدت إلى انخفاض نسبة الحضور.
ثانيا: الخطاب الرئاسي .. عفوية سلبية
جيد أن يمتنع رئيس الجمهورية عن الانتساب إلى حزب أو تيار سياسي، غير أنه في المقابل، قام بإرسال عدة رسائل سلبية تتعلق بالانتخابات البرلمانية، فلم يكن حاسما في إنجاز هذا الاستحقاق في الآجال المناسبة، وتولت الحكومة إعداد قانون الانتخابات، بآلية متلكئة بطيئة، تزعم البحث عن أفضل البدائل، فإذا بها تنتهي للأسوأ. وتمثلت أشد الرسائل سلبية في دعوة رئيس الجمهورية – العفوية – للأحزاب السياسية إلى نبذ الخلافات والتوحد في قائمة واحدة. وهي دعوة لا تتسق مع مبدأ التعددية السياسية، كما أنها لا تراعي أن النظام السياسي لا يمكن أن يطور من أدائه ويحقق أهدافه في غياب المعارضة القوية التي تشكل جزءا لا يتجزأ من أي نظام سياسي ديمقراطي.
ثالثا: قانون الانتخابات .. وإدخال الناخب في متاهة الاختيار
اعتمد القانون نظام القائمة المغلقة المطلقة (تفوز القائمة بأكملها أو تخسر بأكملها) إلى جانب الانتخاب الفردي بصفة حزبية أو مستقلة. وقد ارتضت الأحزاب بنظام القائمة المطلقة، لسبب معلن وآخر خفي، أما المعلن فقد ادعت الأحزاب أنها وافقت على القانون بصورته الحالية، رغم اعتراضها على معظم مواده، رغبة منها في استكمال خارطة الطريق. أما السبب الخفي، فإن نظام القائمة المغلقة المطلقة، أفضل للأحزاب القوية المتحالفة، من القائمة النسبية، فهو يمنع الصراع المحتمل داخل التحالف الانتخابي على المقاعد المتقدمة، وحتى لو قرر الحزب الواحد تشكيل قائمته منفردًا كحزب النور، فإن القائمة المطلقة تمنع الصراع بين الأعضاء على المقاعد المتقدمة في القائمة.
ولكن من جهة الممارسة السياسية، فإن موافقة الأحزاب على القانون، يعني أنها ارتضت أن تحول العملية الانتخابية من منافسة بين أفكار وبرامج وتيارات، إلى صراع محموم للانضمام للقائمة الأقوى سعيا لحصد كل المقاعد المخصصة لذلك. وبالفعل تشكلت هذه التكتلات الانتخابية بين تيارات وأحزاب متناقضة فكريا وسياسيا. ما أدى إلى ضرب فكرة الاختيار في مقتل. على معنى أن الأصل في الانتخابات هو قدرة الناخب على المفاضلة واختيار الحزب أو التيار السياسي الذي يمثله في البرلمان، وحين يتم التعمية على المواطن ومزج كل الاطياف في قوالب القائمة المغلقة المطلقة، فإنها تؤدي إلى شعور المواطن – وهو محق في ذلك – بانعدام الجدوى في الذهاب إلى لجان الاقتراع. ففي كل الأحوال هو يعلم مسبقا أن اختياراته تصب في صالح التيار الذي يؤيده ونقيضه الموجود في نفس القائمة، معادلة صفرية أدركها المواطن بالفطرة السليمة.
وفي هذا السياق يجتهد البعض في وسائل الإعلام، لصرف انتباه الناس بعيدا عن أصل المشكلة، متهمين الأحزاب المشاركة في القوائم بتقصيرها في عرض البرامج، والتعريف بالقائمة، ولا يدري المجتهدون بهذا الرأي أن هذا التقصير متعمد، فلا توجد برامج بين تيارات متناقضة، ولا يمكن التعريف بشخصيات القائمة، حتى لا يلتفت الناخب إلى هذا الاسم أو ذاك، فيقرر عدم التصويت لهذه القائمة بأكملها.
خامسا: الأحزاب .. بورصة تداول السلع السياسية المغشوشة
من الغريب، أن تتنكر كل الأحزاب لمبادئ إنشائها، وتتخلى عن الحد الأدنى من المسئولية والأخلاق، وذلك بتوظيف المال السياسي لشراء المرشحين، حالة جديدة ينفرد بها المشهد الانتخابي في مصر، فالمعتاد في البلدان العربية أن المال السياسي يوجه لشراء أصوات الناخبين، ولكنه في الحالة المصرية، زاد فاستثمر في شراء الكوادر القوية الراغبة في الترشح، وبالفعل تأسست بورصة لتداول المرشحين، ولدينا العديد من الشواهد لمرشحين تغيرت ولاءاتهم الحزبية أكثر من مرة في أقل من شهر (1) فلا يهتم الحزب المضارب في البورصة إن كان المرشح الذي يحاول استقطابه يؤمن بمبادئ الحزب من عدمه. (2) ولا يهتم الحزب المضارب إن كان المرشح من قيادات الحزب الوطني المنحل من عدمه. (3) ولا يعني الحزب إن كان المرشح يملك القدرة والكفاءة على القيام بمهامه الرقابية والتشريعية حال نجاحه، المهم أن يكون قادرا على تحقيق الربح للحزب.
وقد تولد عن هذه الظاهرة حالة أخرىتقتل عملية الاختيار للمرة الثانية، فحين يسجل المرشح الفردي نفسه ضمن حزب ما، لا يلزمه ذلك استخدام شعارات هذا الحزب في الدعاية، والغالبية العظمى من المرشحين بصفات حزبية، لا يعلنون ذلك على الناخبين، بل إنهم يتهربون من الكنية الحزبية. هذا التدليس على الناخب، بإخفاء الانتماء الحزبي، أسهم في خفض نسبة المشاركة، واستقر في وجدان قطاع كبير من المصريين، أن هذا النظام الانتخابي، بممارساته المذكورة، لا يحض على الاختيار الصحيح.
بعيدا عن المشهد الانتخابي ذاته، وارتباطا به، أسهم الخطاب الإعلامي بشكل سلبي في دفع الشباب إلى عدم النزول، فالشباب متهم لدى بعض البرامج والتحليلات، ويتحمل مسئولية التدهور الذي تشهده الدولة بسبب ثورة 25 يناير على حد زعمهم. ولا يخلوا الأمر في أحيان كثيرة من اطلاق السخرية والتهكم على هذه الفئة العمرية. وفي المقابل تكوّن داخل هذه الفئة حس مشترك، يقاوم العنف الرمزي الذي يمارس ضدهم في وسائل الإعلام. أما الخطاب الرسمي، فإن الحكومة ووزراءها يقدمون ترجمة ساذجة لدعوات الرئيس المتكررة بالاهتمام بالشباب. تتمثل هذه الترجمة في تضمين مصطلح الشباب في غالبية تصريحات الوزراء، والشباب يسمعون جعجعة بلا طحين.
سابعا: البعد الاقتصادي الاجتماعي
من العوامل التي أثرت في انخفاض مستوى المشاركة، حالة الإحباط من الاختيارات السيئة لبعض القيادات (وزراء ومحافظين)، ما يعني فقدان الأمل في تطوير الأداء الحكومي وتنفيذ برنامج التنمية في وجود هذه النوعية التي لا تملك الكفاءة وبعضها سيئ السمعة. يضاف إلى ذلك، أن الحكومة تعلن بين الحين والحين عزمها على مكافحة الفساد، ولا يلمس المواطن تحول هذا الخطاب إلى مواقف جادة وحازمة لمواجهة هذا السرطان الذي يلتهم 40% من ميزانية الدولة، ما يعني مرة أخرى أن الأمل في التغيير يتسرب من نفوس المصريين رويدا رويدا. ويضيف بعض المحللين سببا ثالثا، ضمن البعد الاقتصادي الاجتماعي، وهو تدنى الأحوال المعيشية وارتفاع الأسعار، ومشكلة الأجور، ولا أظن أن هذا السبب قد أثر في انخفاض نسبة المشاركة قدر تأثير حالة فقدان الأمل، بدليل أن المصريين – بكل طبقاتهم- قبلوا بالأمس القريب الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لرفع الدعم عن المحروقات، رغم تردي أحوالهم المعيشية، لأن الروح المعنوية حينذاك مرتفعة بالثقة والأمل في المستقبل.
خاتمة
لا شك أن انخفاض المشاركة في الانتخابات قدم انذارا شديد اللهجة للقيادة السياسية، وعليها أن تتخذ ما يلزم من أجل معالجة هذه الأزمة عميقة الأثر متعددة الجوانب.ونأمل ألا تستمع القيادة السياسية للخطاب التبريري الشائع الآن، الذي يهون من انخفاض نسبة المشاركة، أو يصورها على أنها استرخاء أصاب بعض المصريين، أو حالة إنهاك من كثرة التردد على الصناديق الانتخابية خلال الأعوام الخمس الماضية، وكأن المصريين يعانون مشقة الذهاب يوميا لصناديق الاقتراع. ومع ذلك فإن المصري يملك بدائل أخرى من مقاطعة الانتخابات، فالمشاركة وإبداء الرأي على أي نحو، أفضل وأعمق تأثيرا من الكف عن المشاركة. وقد سبق أن مارس الناخب المصري هذا الدور الإيجابي الفاعل في الاستفتاء على دستور 2012، حين خرج للتصويت ضد الدستور، وهو على يقين بأنه سوف يمر، ولكنه أصر على تسجيل موقفه السياسي الناضج، فصوت أكثر من ستة ملايين مواطن ضد هذا الدستور. فهل تتمكن القيادة السياسية من استعادة الأمل المتسرب، وهل يمكن أن يعيد المصري التفكير في موقفه من المشاركة في المرحلة الثانية، سؤال لن تتأخر إجابته سوى أسابيع قليلة.