حينما نُقل عن تشرشل قوله إن الديمقراطية هي أسوأ النظم السياسية، ولكن لا يوجد ما هو أفضل منها، كان ذلك إشارة إلى ما يوجد فيها من عيوب الانقسام واحتمالات «طغيان الأغلبية»، وضغوط الرأي العام من أجل المضي في اختيارات غير عاقلة وإنما تحكمها العاطفة، وأحيانًا أن يكون التوازن ما بين الجماعات والمصالح مفضيًا إلى الشلل. من جانب آخر، كان القول مفضيًا إلى الحيوية التي تتمتع بها النظم الديمقراطية، ومقدار الحرية فيها التي تؤدي إلى الإبداع والابتكار، والأهم من ذلك كله ما تتمتع به من قدرة على المحاسبة التي تأخذ أشكالاً متعددة، من أول التصويت في الانتخابات، إلى المحاسبة السياسية، من خلال الرأي العام وممثلي الشعب المنتخَبين، وحتى المحاسبة الجنائية التي تفضي إلى السجن.
الميزان بين هذه السلبيات وتلك الإيجابيات لا يستقيم دون شبكة كبيرة من التعليم والتدريب التي تبدأ منذ الصغر، وتعطي أهمية كبيرة لطريقة الحكم في المحليات والمقاطعات والولايات، بقدر ما تعطي معرفة بالقوانين والدساتير؛ ما تسمح به وما تنفع وما تحرّم. ولكن هذه العملية التعليمية مستمرة وتأخذ أشكالاً متعددة. لفت نظري خلال الإقامة في الولايات المتحدة أن كتاب الحكم مفتوح إلى حد كبير، ليس فقط من خلال المذكرات والكتب التي لا تتوقف عن الفحص وإعادة الفحص لكل القرارات التي تأخذها الدولة، وإنما من خلال الأفلام لمسلسلات والبرامج التلفزيونية التي لا تكف عن شرح القانون وكيف يعمل، والتشريع كيف يشرع، والمصالح كيف تتفاعل. ورغم الدراما والإثارة والاتجاه السلبي في مسلسلات مثل «بيت من ورق» (البيت الأبيض)، فإن أهم ما فيه هو كيف تعمل هذه المؤسسة الكبيرة والمعقدة في مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية.
أخيرًا لفت نظري مسلسل تلفزيوني باسم «السيدة وزيرة الخارجية»، ومع استبعاد الجانب الدرامي من المسلسل، فإن جوهره هو أنه يقرب الرأي العام من عملية إدارة السياسة الخارجية بكل ما فيها من حروب وأزمات وصراعات وبحث عن النفوذ والدفاع عن مصالح الولايات المتحدة الأميركية. معظم «الحكايات» تدور بشكل أو بآخر حول تجربة هيلاري كلينتون، وربما بعض من تجربة كوندوليزا رايس في وزارة الخارجية الأميركية في التعامل مع عالم مضطرب.
ومن ناحية أخرى، فهناك التأكيد على أن المرأة يمكنها القيام بوظائف كانت لوقت طويل محتكَرة من قبل الرجال، ولا يُظن أن امرأة يمكنها القيام بها. الديمقراطية هنا عملية مستمرة يجري فيها رفع الحواجز، والقضاء على رواسب تاريخية، بعضها عرقي والآخر مذهبي، وأحيانًا عنصري، أو له علاقة بالنوع؛ ذكر أو أنثى.
وفي لحظة من اللحظات، فإن الحاجز ما بين الخيال والواقع لا يسقط فقط، ولكن يبدو أن هناك صلة عميقة قائمة بينهما، فـ«السيدة وزيرة الخارجية» باتت الآن مرشحة لرئاسة الجمهورية كلها، وأصبحت الولايات المتحدة كلها في موضع امتحان عما إذا كانت على استعداد لعبور حاجز النوع، بعد أن عبرت حاجز اللون بانتخاب باراك أوباما رئيسًا للجمهورية. ولكن هذا الامتحان، والرغبة في تجاوزه، لا يعفيان هيلاري كلينتون من إثبات جدارتها بالمنصب، فالجدارة في الأول والآخر عصب الموضوع الديمقراطي، وإذا كان ذلك يسري مع إسقاط حاجز من الحواجز المرتبطة بظروف تاريخية أو اجتماعية، فإن ذلك يصبح مفضلاً. هنا فإن هيلاري كلينتون باتت موضع محاكمة مستمرة، أو محاسبة قاسية وفق التقاليد الديمقراطية، فلا يمكن تركها لما لديها من مواصفات؛ محامية ذات تاريخ، وزوجة لرئيس الجمهورية لثماني سنوات، وعضوة في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك لدورتين، ثم وزيرة خارجية لأربع سنوات. ولكن منصب الرئيس له مواصفات أخرى أكثر قسوة وقدرة، نظرًا لما يتحمله من أعباء.
هيلاري كلينتون تتعرض لنوعين من المحاكمات: أولهما باعتبارها مرشحة لرئاسة الجمهورية، ولأنها تقع من حيث استطلاعات الرأي العام على رأس قائمة المرشحين الديمقراطيين، فإن الهجوم عليها بالمحاسبة، أو البحث عن قصور أو فضيحة، يتم من قبل المرشحين الديمقراطيين المنافسين في الانتخابات التمهيدية، ومن قبل المرشحين الجمهوريين ومؤيديهم في الإعلام تمهيدًا للمعركة الرئاسية في الصيف المقبل، عندما تسفر الانتخابات التمهيدية عن مرشحين تدور بينهما المنافسة. وثانيهما أن تاريخها كله بات مفتوحًا، سواء كان هذا التاريخ متعلقًا بكيف كانت تدير رسائلها الإلكترونية، أو كيف فشلت في إدارة أزمات وزارة الخارجية.
يوم الخميس الماضي 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، شاهدت عجبًا لم أرَ مثيلاً له، ليس بالطبع في بلادنا، وإنما أيضًا في كل البلاد الديمقراطية الأخرى، وهو محاكمة هيلاري كلينتون على دورها كوزيرة خارجية في اغتيال كريس ستيفنز السفير الأميركي لدى ليبيا مع ثلاثة من رفاقه في 11 سبتمبر (أيلول) 2015، في عمل إرهابي قامت به جماعة أنصار الشريعة الإرهابية. الحدث جرى التحقيق فيه من قبل في وزارة الخارجية وأجهزة أخرى معنية، بل جرى التحقيق فيه من قبل لجنة مشتركة من مجلسي النواب والشيوخ، وانتهت هذه التحقيقات كلها إلى رفع المسؤولية عن وزيرة الخارجية، مع إلقاء اللوم على اثنين من موظفي وزارة الخارجية. ومع ذلك، فإن مجلس النواب، بما فيه من أغلبية جمهورية، شكّل لجنة خاصة بحادث الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، ومن ثم دعا إلى جلسة استماع كبرى لوزيرة الخارجية السابقة عن حادث جرى منذ ثلاثة أعوام. وعلى مدى 11 ساعة كاملة جلست هيلاري كلينتون أمام أعضاء اللجنة لكي تفسر وتشرح وتستعيد دقائق أزمة كبرى، وتدافع عن قدرتها على اتخاذ قرارات صحيحة. كان كتاب الحادث، أو معظمه، مفتوحًا على مصراعيه، وبلا شك لم يكن الأمر كله بحثًا عن «الحقيقة»، وإنما كانت «النوازع السياسية» واضحة، ومع ذلك، فإن كل الأطراف كانت مستعدة بالمعلومات، والتحليل، والرسوم البيانية، و«الإنفوغرافيك»، كان الرأي العام الأميركي يتعلم عن اتخاذ القرار، وكان في الوقت نفسه يطلب من المسؤولين أن يرتفعوا إلى المستويات العليا لاتخاذ قرارات صعبة وقاسية وتحت ضغوط نفسية وعصبية هائلة.
في بلادنا، لا يعرف أحد مسؤولية الوزير أو حتى رئيس الدولة، ولا مدى المعاناة التي يعانونها في مواجهة معضلات واختيارات صعبة. بشكل ما، فإن ذلك دائمًا يُعد من أسرار الدولة العليا أو من صميم موضوعات الأمن القومي. العجيب أنه عندما جاء ما سُمي «الربيع العربي»، فإن المحاكمات التي جرت لمسؤولين عرب لم تتضمن محاسبة عن قرارات اتخذوها. كانت المسألة كلها عما إذا كانوا من الفاسدين أم لا، وفي الحالة المصرية، وفيما عدا استثناء واحد، فإنه لم تثبت – بعد محاكمات وسجون – على أحد أي من التهم. إن أحدًا لم يُحاسب على قرار أو سياسة أو مواقف ترتبت عليها نتائج غير حميدة، ولم يُحاسب أحد على نكسات وهزائم وتراجع في المكانة، ولا حتى بحث أحد في المسؤولية عمن ماتوا أو «استشهدوا». هذا ما بات معروفًا بالعجز الديمقراطي في بلادنا، الذي ربما نسده في يوم ليس ببعيد.
د. عبد المنعم سعيد
نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”