بناء الديمقراطية بالتدخل العسكرى

بناء الديمقراطية بالتدخل العسكرى

U.S. Marines from Fox Company, 2nd Battalion 1st Marines, 13th Marine Expeditionary Unit clear ahead of an Amphibious Assault Vehicle (AAV) during a non-live fire Military Operations in Urban Terrain (MOUT) training at US Marine Corps: Marines Air Ground Combat Center in Twentynine Palms, California September 1, 2015. REUTERS/Mario Anzuoni - RTX1QO08

بدأت أعداد من الشخصيات والتيارات الفكرية الغربية والأمريكية، تحديدا، تطالب بإعادة النظر فى تلك السياسات التى أعلنت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية فى فترة جورج بوش الابن والتى وضعت لها عنوان «الفوضى الخلاقة»، وهى السياسة التى اعتمدت فى الأساس على مبدأ أن التدخل السياسى الضاغط ثم العسكرى الخارجى فى البلدان النامية التى لا تتمتع شعوبها بالديمقراطية، حسب المعايير والمقاسات الغربية البحتة، هما الوسيلتان القادرتان على دفع هذه البلدان إلى الطريق الديمقراطى الذى يفتح تلك البلدان على الحريات العامة والخاصة الكاملة، السياسية والاجتماعية وحقوق الإنسان وغيرها من الحريات المعروفة ومنها وفى مقدمتها الحريات الاقتصادية التى تفتح السوق الوطنية للتحولات الاقتصادية الكبيرة تجاه التحرر من تلك الإفكار والتيارات الفكرية التى استقرت فى بعض الأدمغة فى تلك البلدان والتى لا تؤمن بالانسحاب الكامل للدولة من العملية الاقتصادية. وقد تم توجيه هذه السياسات إلى عدد من البلدان العربية وشعوبها.

لم نتعرف حتى هذه اللحظة على تلك التجارب الإنسانية السابقة التى اعتمدت عليها السيدة كوندليزا رايس وزيرة الخارجية هذه، وهى التى أطلقت الإشارة الأولى لتلك السياسات. كما اننا لم نتعرف على التجارب الإنسانية التى ارتكزت عليها إدارتها الأمريكية قبل تنفيذ تلك السياسات. لا ندرى على أى تجربة استندت وهى الباحثة الدارسة للعلوم السياسية والحاصلة على درجة الدكتوراه فيها من كبرى الجامعات الأمريكية. ربما تكون قد استندت على تجربتها الأمريكية مع البلدان التى خرجت منهزمة فى الحرب العالمية الثانية. وهى البلدان التى استمرت حتى الآن تحتضن قواعد أمريكية. كما أنها البلدان التى راقبتها الولايات المتحدة فى إعادة بناء البعض منها اقتصاديا « مشروع مارشل» كما شاركتها فى التخطيط للبناء السياسى والاجتماعى فى مرحلة ما بعد الحرب الثانية وتدخلت بشكل سافر فى أولى انتخاباتها البرلمانية التى أجريت بعد الحرب الثانية. وراقبت وضع دساتيرها التى سارت عليها حتى الآن. ربما.

ومع ذلك لم تستطع وزيرة الخارجية وإدارتها ملاحظة الفروق فى مراحل تطور هذه الدول مع غيرها من الدول التى وجهت إليها سياستها «الخلاقة». امتلكت بلدان أوروبا المهزومة قاعدة بشرية متطورة عمليا كما أنها كانت تستند على واقع اجتماعى متطور العلاقات لا يعانى تلك العلاقات الاجتماعية الزراعية القديمة. تناغم هذا الواقع الأوروبي، بالرغم من هزيمته، مع علاقات صناعية حديثة. ساعدت هذه التركيبة الاجتماعية، الجميع الفائز والمهزوم، على قبول هذه التدخلات. فألمانيا على سبيل المثال كانت قبل الحرب العالمية الثانية بلدا صناعيا متطورا يستند، بنفس الدرجة، على زراعة متطورة. ولم يكن يعانى وجود علاقات قبلية كما هى الحال فى العراق أو فى اليمن مثلا. فالتركيبة الاجتماعية، التى هى إفراز لمرحلة التطور التاريخية، تكون مساعدة أو معوقة فى مثل هذه التدخلات السافرة. خاصة فى حالة الانكسار السياسى أو الهزيمة العسكرية الساحقة.

وينطبق الشيء نفسه على التدخل السوفيتى فى أفغانستان عام 1979. ذلك التدخل الذى سعى إلى مساندة الحكومة ورئيسها الاشتراكي. وهى الحكومة التى لم تكن تملك من السيطرة إلا على القليل من المدن الأفغانية بجانب عاصمتها كابول. أما بقية المساحة الأفغانية فكانت تحت سيطرة القبائل التى تستند فى الأساس على نوع فريد من الإقطاع وهو امتلاك مصادر المياه وليس امتلاك الأرض. كان هذا التدخل العسكرى السوفيتى خطأ كبيرا كلف الجانبين السوفيتى والأفغانى الاشتراكى خسائر فادحة أمام تلك العلاقات المتخلفة التى تحكم عموم أفغانستان. فوجود رئيس اشتراكى فى العاصمة لا يعنى عمومية الانتشار فى بلاد لم تعرف المركزية ولا سيادة القانون المدنى ولا المؤسسية. كل الذى تعرفه هو القبلية بعلاقاتها المستقرة والتى تحتاج سياسات وتغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية طويلة الأمد لمعالجتها وتطويرها.

وخطأ التجربة السوفيتية فى أفغانستان إنها قد تكون، وأكرر قد تكون، قد ارتكزت على التجربة السوفيتية عام 1921 عندما انضمت البلدان وسط آسيا، بعلاقاتها التقليدية القديمة غير المتطورة، والتى كانت مستعمرات تحكمها وتديرها روسيا القيصرية، إلى روسيا الجديدة الاشتراكية لإنشاء ما كنا نعرفه بالاتحاد السوفيتي. عند التدخل السوفيتى لمساندة الحكومة الاشتراكية فى كابول، ولم يؤخذ فى الاعتبار التغيرات العالمية الفارقة بين عام 1921 وعام 1979. لم يعترفوا بالتغيرات بين حال العالم ما بعد الحرب العالمية الأولى وذلك العالم الذى يدور فيه صراع دولى يستقطبه محوران نوييان. ثم تكرر ذات الخطأ عندما تكتل الغرب، ومعه عدد من الحكومات العربية، لإزاحة التدخل الأول الذى هو السوفيتى بالتدخل الثانى الذى هو الغربى الذى لايزال يعانى التكوينات الاجتماعية والظروف السياسية نفسها التى عانى منها السوفيت. وعلى الرغم من كل خسائره لا يزال يعاني.

وباتت أفغانستان بعد كل التدخلات الخارجية العسكرية عليها، تعانى الفوضى التى هى غير «خلاقة» على الرغم من وجود رئيس منتخب وبرلمان منتخب وحكومة ووزراء وجيش وجهاز شرطة. على الرغم من كل هذه المكونات «الحديثة» التى يراد منها تأسيس دولة ديمقراطية فإن الريف لايزال خارج السيطرة والأمن «غير مستتب» والإدارة الأمريكية مترددة وتنهشها الحيرة بين سحب قواتها العسكرية من هذا البلد الآسيوى أو إعادتها. ولكن الذى تغير حقيقة هو تلك السوق التجارية فى كابول، العاصمة، وبعض المدن الأفغانية الأخرى التى امتلأت بالسلع الاستهلاكية الغربية. بدءا من أجهزة المحمول إلى السيارات إلى الثلاجات.

وتكرر التدخل العسكري، بشكله المباشر أو الخفي، فى العراق وفى ليبيا والآن فى سوريا وفى اليمن. لكل بلد عربى أدوات تدخله. والآن نشاهد حروبا وتدخلات عسكرية بالأصالة أو بالوكالة. يحدث ذلك بهدف وبحجة بناء مجتمع ديمقراطى حديث ينعم فيه الإنسان العربى بالحرية والديمقراطية. وجاءت النتيجة كما جاءت بالضبط فى أفغانستان مع الفارق فى وجود جهازدولة ضعيف أو قوى بعض الشيء. ولكن فى النهاية نتج عن التدخل العسكرى «المباشر أو الخفى وسواء كان بالأصالة عن أصحابه أو بالوكالة، وجود تلك الفوضى «غير الخلاقة» التى مزقت النسيج الاجتماعى القديم دون أن تكون نسيجا اجتماعيا متماسكا جديدا تستند عليه قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لا يعنى ذلك أن البلدان والمجتمعات العربية لم تكن فى حاجة إلى التغيير والتطوير فى أبنيتها وقيمها السياسية والاجتماعية والثقافية. بالعكس كانت الشعوب العربية تحتاج وترنو إلى التغيير ولكنها كانت تحتاج إلى ذلك التغيير الذى ينقلها من مرحلة إلى مرحلة أخرى أرقى ولكن بشرط أن يكون التغيير من الداخل. تماما كما حدث فى أوروبا قديما. لم تنسج الشعوب الأوروبية ديمقراطيتها فى عام أو عامين. بنت هذه الشعوب نسيجها الديمقراطى مع الارتقاء بالعلاقات الإنتاجية من مرحلة الإقطاع إلى الرأسمالية. فالبنى السياسية المتقدمة تحتاج إلى قاعدة من البنى الاقتصادية التى يصنعها ويطورها المواطن نفسه ليتطور هو معها. فى أوروبا لم يبن أى تدخل عسكرى الديمقراطية لأنه لم يكن يوجد هذا المتربص القوى الذى يسعى للنيل من بلدانها ومن شعوبها ليفتحها سوقا لسلعه وبضائعه. هناك، فى أوروبا، سار بناء النسيج الاجتماعى بالتوازى مع بناء الصناعة وتطوير الزراعة وتأسيس شبكة خدمات تعليمية وصحية. لم تسقط عليهم ثمرة التفاح من الشجرة دون حهد إنساني، إنما قطفوها بعد أن زرعوا الشجرة ورعوها وسقوها ثم تلقوا خيراتها.

والغريب أننا قرأنا كل هذه المعلومات من كتبهم وفهمناها واستوعبناها من تجربتهم فى حين أنهم لم يستوعبوا دروس تجاربهم التاريخية هذه. أو الأصح أن المصالح المباشرة لطبقاتهم الحاكمة والمالكة للمال وخاصة مال الصناعات العسكرية، تجاهلت الدرس لتحقق مكاسبها. ثم سعت من حيث لا يدرى عدد من مثقفيها إلى محاولة اختزال التجربة بشكل مشوه حطم من نسيجنا الاجتماعى وعطل من قدراتنا الاقتصادية. كما أن الغريب أنهم لم يصدقونا عندما نبهناهم إلى كل الأخطار التى ستحيط بنا وبهم، معا. وللمرة الأولى بعد الألف لم يصدقونا.

والآن ننظر إلى تلك المئات من البشر الذين رحلوا عنا أخيرا فى مصر ولبنان وفرنسا وباماكو، كما نتابع تلك الهمة والنخوة والعزيمة غير المعهودة من دول استمرت تتجاهل نداءاتنا، وهى تحاول التكتل عسكريا، لنعيد الحديث عن الجهود المتوازية التى يجب أن توجه إليها تلك الهمم، لننبه انها ليست عسكرية فحسب وإنما ثقافية واجتماعية واقتصادية.

أمينة شفيق

نقلا عن الأهرام