إقليم كردستان العراق يفشل في الاستقلال الاقتصادي

إقليم كردستان العراق يفشل في الاستقلال الاقتصادي

على الرغم من الإنجازات البارزة التي حققتها حكومة إقليم كردستان خلال فترة دامت ثلاثين عاماً، إلا أن سعيها اللامتناهي من أجل الاستقلال الاقتصادي لم يؤد إلاّ إلى ترسيخ انقساماتها الداخلية ونظام حكمها الغارق في الفساد بينما حوّلت اعتمادها من العراق إلى تركيا، ومن المساعدات الخارجية إلى عائدات النفط.

أربيل – إذا كانت حرب الخليج عام 1991 قد أسفرت عن قيام حكومة إقليم كردستان، فإن الغزو الأميركي عام 2003 قد دفعها إلى المستقبل.

واليوم، تواجه كردستان العراق تحديات ، أبرزها ضغوط قانونية ومالية من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد وتهديدات بهجمات إيرانية وتركية. ولكن التهديد الفعلي الذي تتعرض له حكومة إقليم كردستان ليس خارجياً. فبعد ثلاثين عاماً من تأسيسها و 20 عاماً من الغزو الأميركي، تفتقر حكومة الإقليم إلى رؤية واضحة لمستقبلها، كما لو أنها تمر بأزمة منتصف العمر.

وفي ظل خطر فقدان دورها المهم، تواجه احتمال حدوث انفجار داخلي بسبب عدم اليقين الاقتصادي والانقسامات الداخلية المزمنة والمؤسسات الضعيفة.

البحث عن الثروة
مع تعمق الانقسامات الكردية يتحول ميزان القوى، الذي كان سابقا لصالح حكومة إقليم كردستان، لصالح بغداد

لطالما كان أساس كفاح الأكراد في العراق في نضالهم من أجل الحكم الذاتي قائماً على مظالمهم كأقلية عرقية مضطهدة. فقد اكتسب الحكام الأكراد الشرعية من خلال الدفاع عن حقوق الأكراد. ولكن بعد حرب الخليج الثانية في 1991 وانتخابات عام 1992، حلت الشرعية الديمقراطية محل هذه السمعة الثوروية.

و أسفرت الانتخابات عن قيام حكومة إقليم كردستان وأوصلت حزبين، هما الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى السلطة السياسية الرسمية. ومنذ ذلك الحين، ارتبط هذان الحزبان الكرديان الرئيسيان ارتباطاً وثيقاً بعائلة محددة – عائلة طالباني التي تقود الاتحاد الوطني الكردستاني، وعائلة بارزاني التي تتزعم الحزب الديمقراطي الكردستاني – حيث يتربع حالياً جيلاهما الثاني والثالث، على التوالي، على رأس السلطة في الإقليم.

وأسفرت الحرب الأهلية في كردستان العراق بين عامي 1994 و 1998 عن زعزعة مصداقية كلا الحزبين، مما أدى إلى تقسيم الإقليم إلى إقطاعين يتألف كل منهما من حزب واحد ولا يزالان قائمين حتى اليوم.

وفي غضون ذلك، وعلى مدى العقدين الماضيين، تولى جيل جديد من كل أسرة حاكمة دور القيادة، فافتقرت شرعية كردستان العراق إلى المكانة الثورية والديمقراطية على حد سواء، وظهرت التنمية الاقتصادية كبديل.

وترجمت حكومة إقليم كردستان فرص ما بعد الغزو الأميركي بين عامي 2004 و 2014 إلى ازدهار اقتصادي. فقد أدت فورة البناء في تلك الفترة إلى زيادة مساحة العاصمة أربيل إلى أكثر من الضعف.

سمعة حكومة إقليم كردستان تدهورت بشكل عام من ناحية تقدير الديمقراطية وحقوق الإنسان منذ عام 2003

وتقول حكومة الإقليم أنها أعادت بناء 65 في المئة من المناطق الريفية في كردستان التي دُمرت خلال حملة الأنفال للتطهير العرقي في عام 1988. ويقع مقر اثنتين من شركات الهاتف الخلوي الوطنية العراقية الثلاث في كردستان، كما يضم الإقليم عدداً كبيراً من الفنادق والمجتمعات المسوَرة والمدارس الخاصة، بما في ذلك جامعتان على الطراز الأميركي.

وبحلول عام 2005، كانت حكومة إقليم كردستان قد شيدت مطارين دوليين، في السليمانية وأربيل، مما أدى إلى فك قيود الإقليم غير الساحلي.

وفضلاً عن ذلك، أسفر قانون الاستثمار لعام 2006 الذي قدم امتيازات للمستثمرين مثل ملكية الأراضي والإعفاءات الضريبية وإعادة الأرباح إلى الوطن، إلى مساعدة حكومة الإقليم على جذب رؤوس أموال محلية وأجنبية كبيرة.

واليوم، يفوق عدد الشركات الأجنبية المسجلة في الإقليم 3000 شركة. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تستضيف حكومة الإقليم 42 قنصلية ولديها 14 مكتباً تمثيلياً في جميع أنحاء العالم.

واستفادت كردستان العراق لأقصى درجة من موقعها الجغرافي وأمنها، وأصبحت طريقاً ووجهة تجارية إقليمية مهمة. فتركيا، التي تمر حدودها البرية الوحيدة مع العراق عبر إقليم كردستان، هي الشريك التجاري الأكبر لـحكومة الإقليم.

وفي عام 2017، بلغ حجم التجارة بين تركيا وكردستان العراق 2.5 مليار دولار، مما يمثل ما يقرب من ثلث إجمالي تجارة أنقرة مع العراق. وبالمثل، يصل ثلث واردات العراق من إيران – التي تقدر بنحو 2.4 مليار دولار في السنة – إلى كردستان العراق.

من المساعدات إلى الاتحادية
قوات البيشمركة تتمتع بنفوذ وهَيْبة واستمرت في حشد دعم شعبي وسياسي كبير، لا سيما خلال مشاركتها مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش

منح نظام الحكم الاتحادي المقترح في دستور عام 2005 حكومة إقليم كردستان دوراً هاماً في إدارة موارد النفط والغاز في الإقليم. وكانت هذه البنود بمثابة ضمانة، ففي حالة فشل العراق الجديد سيكون من الممكن لكردستان المستقلة اقتصادياً اتخاذ الخطوة التالية نحو إقامة الدولة، وهو حلمها القومي ما قبل الأخير.

وتوخى الدستور نظاماً اتحادياً بترولياً تتشارك فيه الحكومة العراقية الاتحادية وحكومة إقليم كردستان المسؤولية عن سياسة النفط والعائدات. ولكن في السنوات التي أعقبت المصادقة على الدستور فشل مجلس النواب العراقي باستمرار في إقرار قانون وطني للنفط والغاز من شأنه تنظيم قطاع الطاقة وتحديد هذه الأدوار المشتركة.

وفي خطوة استباقية، أقر مجلس النواب الكردي قانون الموارد الطبيعية الخاص به في عام 2007 وبدأ في إبرام حوالي 55 عقداً مع شركات نفط دولية. وبينما أكدت الحكومة الاتحادية أن هذا القانون غير دستوري وأن عقود النفط غير قانونية، إلّا أن حكومة الإقليم مضت قدماً في سياستها.

وفي عامي 2011 و 2012، وقّعت “إكسون موبيل” و”شيفرون” على عقود للاستكشاف مع حكومة إقليم كردستان، مما عزز المكانة القانونية لقطاع الطاقة في الإقليم على نحو بارز. ولم تطلب حكومة الإقليم الإذن أو الإعفاء من بغداد، وهي مقاربة أتت بثمارها من نواحٍ عديدة. وبحلول منتصف عام 2022، كانت حكومة إقليم كردستان تنتج ما يقرب من 450 ألف برميل من النفط يومياً، تم تصدير معظمها عبر خط الأنابيب المستقل في الإقليم عن طريق تركيا.

وحيث أن حكومة الإقليم عازمة على الاستقلال بصورة أكثر عن بغداد، فقد أصبحت تعتمد على كيانات وعوامل أخرى خارجة عن سيطرتها، بما فيها أسعار النفط العالمية وسعر صرف الدولار مقابل الدينار، وعلى تركيا التي يمر عبرها خط الأنابيب.

وبدأت نقاط ضعف هذه المجموعة تظهر في عام 2014، عندما تسبب توسُّع تنظيم الدولة الإسلامية في قيام شركات النفط الدولية بسحب مشاريعها المرتقبة أو تعليقها. وعوّضت حكومة إقليم كردستان الخسائر من خلال استيلائها على حقول نفط كركوك في أعقاب انسحاب الجيش العراقي، مما ضاعف صادرات حكومة الإقليم من النفط الخام إلى 550 ألف برميل في اليوم.

ولكن هبوط أسعار النفط عرقل هذه المكاسب، إذ انخفض سعر البرميل الواحد من نسبة قصوى بلغت 115 دولاراً في يونيو 2014 إلى 70 دولاراً في ديسمبر من ذلك العام و35 دولاراً بحلول فبراير 2016.

وبحلول عام 2021 ونتيجة لهذه العوامل، ومن بينها أمور أخرى، واجهت حكومة الإقليم ديوناً بقيمة 31.6 مليار دولار.

الانقسامات وضعف المؤسسات
هل ينبغي أن يبقى الاقتصاد الكردي مرهوناً بالمساعدات الخارجية والنفط وتحويلات الميزانية من بغداد؟ أم يمكن للإقليم بناء اقتصاد قوي من خلال الإصلاح والتنويع؟

في السنوات الأخيرة، ظهرت انقسامات بين العائلتين الحاكمتين في كردستان العراق، والتي برزت مع ضعف الأحزاب السياسية في الإقليم. فبعد وفاة مؤسس الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني في عام 2017، تولى نجله الأكبر وابن أخيه رئاسة الحزب بصورة مشتركة. وفي عام 2021، نشب نزاع بين أبناء العم بافل ولاهور طالباني، ونجح الأول بالإطاحة بالثاني.

وفي غضون ذلك، يستعر صراع على السلطة في عائلة بارزاني بين اثنين من أبناء العمومة، والذي من شأنه الإخلال بتماسك الحزب الديمقراطي الكردستاني وحكومة الإقليم بأكملها. وتعكس هذه الصراعات الداخلية نقاط ضعف مؤسساتية على نطاق واسع وتراجع الديمقراطية في إقليم كردستان.

وعلى سبيل المثال، كانت مؤسسات حكومة الإقليم متضعضعة وغير مستعدة على الإطلاق لمواجهة “التسونامي الاقتصادي” الذي بدأ في عام 2014. وكانت المرّة الأخيرة التي أقرّ فيها مجلس نواب إقليم كردستان ميزانية هي في عام 2012. وشهد القطاع العام تضخماً خارجاً عن السيطرة، مما أدى إلى مزاحمة وظائف القطاع الخاص.

وبحلول عام 2017، كانت حكومة إقليم كردستان أكبر القطاعات توفيراً للعمالة في كردستان، حيث كانت توظف نصف القوى العاملة، أي ما يقرب من 1.4 مليون شخص، بتكلفة 750 مليون دولار شهريا.

وقد أدّى الفساد وعدم الكفاءة إلى تشويه التوظيف في القطاع العام، مع وجود الآلاف من الموظفين الوهميين ومزدوجي الوظائف والمعاشات التقاعدية والمتقاعدين غير المستحقين، في حين يدين القطاع الخاص الناشئ بوجوده لشركات قابضة يملكها أو يسيطر عليها أفراد من العائلتين الحاكمتين في كردستان. ولتجنب قيام قطاع الطاقة في حكومة الإقليم، بكشف أوراقه لبغداد، أصبح غامضا وغير خاضع للمساءلة على نحو متزايد.

وتتمتع قوات البيشمركة بنفوذ وهَيْبة واستمرت في حشد دعم شعبي وسياسي كبير، لا سيما خلال مشاركتها مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن الصدع السياسي الهائل بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني قلل من قيمة إقليم كردستان كشريك للولايات المتحدة وقلص النفوذ الكردي في بغداد وليست هناك حسابات دقيقة متاحة عن عدد مقاتلي البيشمركة، إلّا أن عديدها يقدَّر ما بين 160000 و320000 مقاتل.

وبشكل عام، تدهورت سمعة حكومة إقليم كردستان من ناحية تقدير الديمقراطية وحقوق الإنسان منذ عام 2003. وبسبب الحرب الأهلية والانقسامات الداخلية في تسعينيات القرن الماضي، لم تُجرَ الانتخابات الثانية لمجلس النواب في الإقليم إلا بحلول عام 2005، أي بعد 13 عاماً من الانتخابات الأولى. ولم تُجرَ الانتخابات اللاحقة إلا بعد تأخيرات كبيرة

وأصبح الفوز الانتخابي والسلطة غير منسجمين بشكل متزايد في الإقليم. فعندما فاز حزب “كوران” المعارض غير المسلح بالمرتبة الثانية في انتخابات عام 2009، بحصوله على أصوات أكثر من تلك التي حصل عليها الاتحاد الوطني الكردستاني، لم يسمح الحزبان الحاكمان لحزب “كوران” بمشاركتهما السلطة.

وعلى الرغم من انتهاء ولاية الرئيس مسعود بارزاني في عام 2015، إلا أنه لم يترك منصبه إلا في عام 2017، مما أدى فعلياً إلى إغلاق مجلس النواب الكردي لمدة عامين من أجل تمديد فترة ولايته.

ومع تعمق الانقسامات الكردية وتحسن الوضع الأمني في بقية أنحاء العراق، يتحوّل ميزان القوى، الذي كان سابقاً لصالح حكومة إقليم كردستان، لصالح بغداد.

ومنذ الاستفتاء، اختلف قادة حكومة الإقليم على الرؤى المتعلقة بمركزهم داخل العراق وعلى خطط إنقاذ قطاع الطاقة المضطرب في الإقليم.

والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، هل ينبغي أن يبقى الاقتصاد الكردي مرهوناً بالمساعدات الخارجية والنفط وتحويلات الميزانية من بغداد؟ أم يمكن للإقليم بناء اقتصاد قوي من خلال الإصلاح والتنويع؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد مستقبل إقليم كردستان.

العرب