تونس – “ماذا فعلنا بالديمقراطية؟” من هنا اختار الباحث والصحافي التونسي عامر بوعزة أن يتفاعل مع تحولات المشهد السياسي في بلاده بعد 12 عاما من الانتفاضة التي أطاحت بنظام دولة الاستقلال في عهدها الثاني بزعامة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وبالتزامن مع تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كنتاج لسنوات الفوضى والانفلات التي حملت في ظاهرها ملامح انتقال ديمقراطي أثبت عدم جدواه وفشله على الأقل من وجهة نظر نسبة مهمة من التونسيين ترى أنها غير معنية بالديمقراطية بالشكل الذي أريد له أن يكون فكان منقوصا من القيم المعبرة عن التطلعات الحقيقية للشعب.
عن دار “سوتيميديا” للنشر بتونس صدر كتاب “ماذا فعلنا بالديمقراطية؟!” وهو يتضمن مقالات صحفية تقارب الشأن العام في تونس خلال عشرية الانتقال الديمقراطي حيث يضع الكاتب تحت مجهر التحليل النقدي والمقاربة الثقافية مجمل الأحداث التي حفّت بهذا المخاض، بدءا من الثورة ، وما عقبها من صعود قوي لتيار الإسلام السياسي، وتفشّ للإرهاب، ثم إعلان التوافق بين القوى الوسطية الدستورية وحركة النهضة وصولا إلى ما يعتبره الكاتب انتصارا للشعبوية إثر وصول الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج وإعلانه في الخامس والعشرين من يوليو 2021 عن تعطيل البرلمان والدخول في حالة الاستثناء.
لا يقف الكاتب عند عتبات السياسة وتقلبات السلطة، بل يتناول بالتحليل التداعيات الاجتماعية والثقافية لهذا التحول الراديكالي من زمن الاستبداد إلى زمن الديمقراطية وما رافقه من تعثر اقتصادي يقدر الكاتب أنه جعل الدولة مشلولة بالكامل وعاجزة عن التقدم في زمن تشهد فيه عدة مناطق من العالم حركة تقدم سريعة ومذهلة. ولذلك نجد في هذه النصوص عودة متأنية إلى أحداث قد تبدو في الظاهر عابرة غير مؤثرة كحوادث القطارات أو تراجع مؤسسات القطاع العام أو انتشار عقلية التواكل والانتهازية في المرافق العمومية، وفي هذه العودة يكشف الكاتب العمق الدلالي لهذه الأحداث المتفرقة بوصفها مؤشرات قوية على التناقض بين الممارسة الديمقراطية في صفوف النخبة والواقع اليومي للأفراد في الشارع، ويبني تصوره النقدي كاملا على هذه القطيعة بين الانتقال الديمقراطي وحركة التطور الاقتصادي والاجتماعي.
عن عنوان الكتاب يقول عامر بوعزة إن السؤال ينبغي أن يقرأ في ضوء التجربة التونسية لا غير، وينفي أن يكون بحثا في المسألة الديمقراطية بشكل مطلق أو يتضمن حكما جازما بخصوصها، بل هو سؤال يتردّد اليوم بكثرة على ألسنة التونسيين لاسيما غير المعنيين منهم بشكل مباشر بلعبة السياسة والأحزاب ومغانم السلطة. ونصوص الكتاب تؤكد انتفاء أي معنى للديمقراطية حين تعجز عن تحقيق الرفاه الاجتماعي ، معتبرا أن الكتاب من حيث الشكل ينتصر لمقال الرأي الذي يشهد انحسارا في ظل تنامي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو ينتمي إلى الصحافة السياسية وإن كان في بعض النماذج يقترب من عوالم الأدب الساخر والنقد الاجتماعي.
سألت “العرب” بوعزة عمّا فعل التونسيون بالديمقراطية حسب رأيه؟ ومن يعتقد أنهم كانوا وراء عرقلة المسار الديمقراطي؟ فرد بما وصفه بأنه أبسط إجابة عن هذا السؤال -وهذا جوهر القضية عنده- “أننا لم نفعل بالديمقراطية شيئا! نفترض هنا أن الفعل يعني بالضرورة معنى إيجابيا، فالديمقراطية لم تجعلنا نتقدم، ولم تحقق للمواطن الرفاه ولا الأمن ولا الطمأنينة، حتى أصبح غير قادر على التفاؤل. لم تقض على الفساد، ولم تحقق الاستقرار والعدالة في المجتمع. ولا ينبغي هنا أن نهزأ من رجل الشارع البسيط الذي نصادفه في كل مكان من حياتنا اليومية المتعبة أو نتعالى عليه كما يفعل بعض ‘الديمقراطيين’ حين يتحسّر على أيام ‘بن علي’، أو يقارن وضعه المادي يومها بما هو عليه اليوم. ومن المؤكد أن النخبة السياسية التي تسلمت مقاليد الحكم منذ الرابع عشر من يناير 2011 تتحمل كلها المسؤولية بدرجات متفاوتة. لكن من الضروري الاعتراف بأن طبقة كاملة من محترفي السياسة كانت تصلح للمعارضة أكثر مما تصلح للحكم. كما أثبتت التجربة أن معارضي الاستبداد ليسوا كلهم ديمقراطيين، بل أحيانا هم مستبدون من نوع آخر!”.
ورغم ذلك فإن بوعزة مقتنع بأن التونسيين “مؤهلون أكثر من غيرهم داخل الفضاء العربي الإسلامي لممارسة الديمقراطية من حيث هي قبول بالآخر وتداول سلمي على السلطة، وتقوم بالأساس على المواطنة والمشاركة الفعالة لكل فئات الشعب بلا إقصاء”، ويقول “لقد ضيعنا الفرصة فنحن لدينا الكثير من المؤهلات التي تسمح لنا بذلك لو توفرت بعض الشروط السهلة. انظر مثلا كيف كان يمكن للوضع أن يكون لو اكتمل إرساء المؤسسات الديمقراطية في مرحلة التوافق تحت حكم الباجي قايد السبسي؟ هل كان قطار الديمقراطية ينحرف عن مساره، لو كان القانون الانتخابي غير قائم على المحاصصة والحسابات الانتهازية الضيقة؟ لاحظ هنا أننا نقارب المسألة من خارج المطبخ السياسي، من زاوية الملاحظ والناقد، أما الفاعلون الحقيقيون فكل واحد منهم عمل على تركيع الديمقراطية وتوظيفها لخدمة مصالحه. لا يمكن الحديث عن تجربة ناجحة إلا إذا توفرت إرادة حقيقية، فلا توجد ديمقراطية بلا ديمقراطيين”.
صدّر الكاتب هذا العمل بفقرة وردت في رسالة وجهها الكاتب اليساري العفيف الأخضر إلى حمادي الجبالي الرجل الثاني في حركة النهضة وأول رئيس لحكومة الإخوان بعد انتخابات أكتوبر 2011 أكد له فيها أنه في عالم العولمة وثورة الاتصالات وضرورة احترام حقوق الإنسان، لم يعد جائزا ولا ممكنا شطب طبقة لطبقة، أو نخبة لنخبة…، وأن الحكم الرشيد هو الذي يُشرك جميع النخب والطبقات في السلطة والثروة كترياق ناجع للعنف ووصفة مجربة للاستقرار والازدهار والسلام الاجتماعي.
وبهذا التصدير يضع الكاتب القراء منذ الصفحة الأولى في أجواء الكتاب إذ يدفع بالقارئ إلى تأمل تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بكل تضاريسها ونتوءاتها على امتداد عشر سنوات كاملة، هذه التجربة التي اعتبر المؤلف أن قرارات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو العام 2021 قد أنهتها. ويعلل إخفاقها من وجهة نظره بعدم توصلها إلى تحسين حياة الناس إلى الحد الذي جعلها ترتبط في أذهانهم بأزمات سياسية واقتصادية عويصة جعلت الواقع جحيما يتطلع الجميع إلى الفرار منه.
وحول دور الإسلام السياسي في إجهاض المسار الديمقراطي يقول بوعزة “في كتابي ‘ماذا فعلنا بالديمقراطية؟’ إجابات حاسمة عن مسائل يراد لها أن تظل دائما بلا حسم، من بين هذه المسائل بلا شك دور حركة النهضة في إفشال الانتقال الديمقراطي، وفي إعادتنا إلى مربع الاستبداد”، ويتابع أن “الظروف لعبت دورا كبيرا في ذلك، فالعبث الذي مارسته النهضة منذ انتخابات 2019 وإلى غاية 25 يوليو 2021 لا يمكن لعاقل أن يتصوره، وهو النتيجة الحتمية لانخرام التوازن الحاصل بعد وفاة السبسي وتشتت ‘العلمانيين’ والتقدميين واليساريين وراء مصالحهم وأنواتهم وأوهام الزعامة”، مردفا أن “هذا لا يعفي نداء تونس من مسؤوليته الجسيمة أيضا في هذا الإخفاق حيث كانت أمام التونسيين فرصة رائعة في الفترة من 2014 – 2019 لتحقيق الاستقرار ومعالجة مسألة التنمية ووضع إستراتيجيات مستقبلية وشراكات دولية لكنها تبخرت أيضا تحت وطأة الخلافات الصغيرة والحسابات الضيقة”، وأبرز أن “طبقة كاملة ساهمت في إهدار التجربة وتضييع الفرصة على الشعب، لكن الإسلاميين هم الذين أخرجوا القطار عنوة من سكته”.
وعندما سئل عن دور النخب ومنها النخبة الإعلامية في إهدار فرصة إرساء نظام ديمقراطي في تونس؟ أبان بوعزة أن “المشكلة هنا تتعلق بمفهوم النخب، ماذا نعني بهذا المصطلح الغائم والفضفاض؟ لقد أدى انفجار المشهد الحزبي في بلادنا عقب الثورة إلى انقلاب حقيقي في وسط النخبة بمعناها التقليدي. وفي مواضع متعددة من الكتاب توقفت طويلا عند المفارقة التي أفضت إليها انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 عندما وجدت المعارضة التي واجهت بشجاعة نظام الرئيس بن علي نفسها في موقع ثانوي أمام نواب العريضة الشعبية المجهولين الذين اختارهم الشعب وأوكل لهم مهمة المشاركة في كتابة الدستور، متابعا أن “التنظيمات الحزبية بمختلف أيديولوجياتها أسهمت في إعادة صياغة المشهد وتأليف نخب جديدة اجتاحت القنوات التلفزيونية وبرامج التالك شو. وهكذا كان لبعض وسائل الإعلام دور بارز أيضا في تبدل منظومة القيم”.
ولا ينسى بوعزة هنا أن “الرئيس قيس سعيّد ليس له أي ماض سياسي ولم تُعرف له أي مساهمة في محاربة الاستبداد أو حتى التصدي له، لكن ظهوره الإعلامي المتكرر بعد الثورة لفت الأنظار إليه. بدأ الأمر أشبه بالصوت الخارج عن المألوف والمعتاد ليتحول إلى ظاهرة سياسية”.
وفي رده على سؤال عن إمكانية تطبيق الديمقراطية الليبرالية الغربية في تونس في ظل التناقضات الحاصلة داخل المجتمع وهيمنة الجهل والتخلف والخرافة على قاعدة واسعة من الشعب ؟ أجاب “نتحدّث هنا عن نموذج هو أيضا يعيش أزمته الخاصة به، وهناك اليوم بحوث مهمة عن ‘دمقرطة الديمقراطية’، ما يؤكد أنها صيرورة وتحوّل، ولا يمكنها أن تكون ثابتة ومقدسة…، لكن نحن لم نتجاوز بعد مرحلة الأساسيات، لا أحد في الغرب يناقش اليوم مسألة حرية التعبير لكن عندنا مهددة في كل آونة وحين وتمنّ بها الطبقة السياسية على الشعب وكأنها عطيّة يمكن سحبها منه في كل لحظة. ورغم ذلك ينبغي أن نتوصل إلى إرساء النموذج الديمقراطي الذي ينبع من واقعنا ويلبي تطلعاتنا، والرأي عندي أن هذا النموذج لا يمكن عزله عن استحقاقات التنمية. الديمقراطية المنشودة هي التي تحقق للفرد الحياة الكريمة وما عداها فهو ضرب من الترف وإضاعة الوقت. والتجربة التونسية تؤكد أن ما ذكرته عن التخلف والجهل لا يمكن أن يكون عائقا إلا إذا استغله القياديون الحزبيون لصالحهم. لقد أقبل التونسيون على صناديق الاقتراع وقبلوا بنتائجها في أكثر من مناسبة لكنهم يفاجأون دائما بالبون الشاسع بين حلاوة الوعود ومرارة الواقع”.
يذكر أن الكاتب قد سبق له أن أصدر عام 2019 كتابا بعنوان “إعلاميون في زمن الاستبداد”، كما صدر له كتاب “نظرية الموز” وأعمال أخرى أدبية. وهو يعمل في مجال الإعلام التلفزيوني ومقيم خارج تونس منذ عام 2012.
العرب