صُنّف الاتفاق الذي تم توقيعه في يوليو الماضي بين تونس والاتحاد الأوروبي ضمن ما اصطلح عليه الشراكة الشاملة، وهو ما يعني أنه يطول قطاعات مختلفة ولا يقف عند نقطة بعينها كما هو جار الآن، من محاولة حصره في ملف الهجرة غير النظامية دون سواه.
فكيف تم الالتفاف على الاتفاق الذي تم توقيعه في مؤتمر روما الدولي حول التنمية والهجرة، وتم الترويج له كنموذج لنجاح الحوار والتعاون بين دول ضفتي المتوسط؟
تبدو العلاقة التونسية – الأوروبية مرتبكة في التعريفات، فالرئيس التونسي قيس سعيد ينظر إلى الاتفاق على أن الهدف منه هو دعم تونس ماليا واستثماريا وسياسيا لمساعدتها على لعب دورها بفاعلية في التصدي لموجات الهجرة غير النظامية وضرب مهربي البشر ضمن ضوابط واضحة كان حددها في أكثر من خطاب له، منها أن تونس شريك في مواجهة تدفقات اللاجئين من دول جنوب الصحراء، وليست حارس حدود ولا شرطيا للمتوسط، كما ينظر إليها بعض الأوروبيين.
◙ مثلما أن هناك التباسا في البند المالي للاتفاق، فإن هناك التباسا أوسع في تحديد المهاجرين المعنيين بالمعركة، هل الأفارقة فقط أم التونسيون؟
وتعريف قيس سعيد للاتفاق يكمن في كونه تحصيل دعم أوروبي متعدد الأوجه لتونس ومساعدتها على مواجهة وضع اقتصادي صعب، ومن ضمن عناصره الخمسة المعلنة مواجهة تدفق اللاجئين، مع خط أحمر معلن، وهي أن تونس لن تقبل بأن تكون دولة لتوطين اللاجئين بشكل نهائي.
ويحرص الرئيس التونسي على تأكيد أن الخيار الأمني، أو لنقل الشراكة الأمنية، ليس حلا بعيد المدى، وأنه جزء من معالجة ظرفية، وأن الحل الإستراتيجي هو أن تساعد أوروبا على بناء التنمية في دول جنوب الصحراء من أجل القضاء على أسباب الهجرة من جذورها.
وسمع الأوروبيون خطاب قيس سعيد وتنبيهاته وخطوطه الحمراء أكثر من مرة، لكنهم تعاملوا مع الأمر على أنه جزء من الخطاب الدعائي الاستعراضي لرئيس بنى شعبيته على الشعارات والرفع من سقف الخطاب في القضايا المحلية والخارجية، وأن الخطاب شيء والتطبيق شيء آخر. لكنهم اصطدموا بصورة مغايرة.
المهم أن الخلاف، وإن كان في ظاهرة ماليا، من خلال قرار تونس بإعادة 60 مليون دولار كان ضخها الاتحاد الأوروبي ضمن برنامج التعافي من آثار كورونا، إلا أنه في الأصل يتعلق بالتعريفات، أي علام اتفقنا في روما، هل على دعم ضمن حزمة شاملة تصل إلى أكثر من مليار دولار، وإن كانت على مراحل، أم على منحة “زهيدة” مقابل أن يجد التونسيون أنفسهم أكثر في مواجهة تدفقات اللاجئين، التي زادت بشكل كبير بالتزامن مع التوترات الأمنية والسياسية في دول الساحل والصحراء؟
لم يكن الالتباس فقط في تأويل المهمة وحجم الدعم من وراء “الشراكة الشاملة”، فهناك التباس أهم قد يفسر لماذا يرتبك الأوروبيون في تأويل الاتفاق، وهي أن الشراكة في الأصل ليست أوروبية في عمقها، فهي شراكة مع إيطاليا التي سعت رئيسة حكومتها جورجيا ميلوني بكل ما أوتيت من جهد لكسب تونس إلى صفها في الحرب على المهربين، الذين أغرقوا مدنها بالمهاجرين.
تحركت ميلوني في كل اتجاه لإقناع الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد، والولايات المتحدة، والجزائر بتقديم سيولة عاجلة لتونس لمساعدتها في الخروج من أزمتها لكونها لاعبا مهمّا في نجاح مهمة تقليص تدفقات اللاجئين أو فشلها. لكن الذي حصل أن المفوضية الأوروبية تحمّست في البداية، ودعّمت الاتفاق مع تونس، ثم تحت ضغوط مختلفة بدأت بالتراجع، وتركت قرار الاستمرار في التفاوض مع تونس لأطراف أخرى برلمانية وحقوقية أعادت المشهد إلى أزمنة سابقة يرى فيها الأوروبيون أنهم أساتذة ومن حقهم أن يعطوا الدروس، وأن يراقبوا وينتقدوا ويتدخلوا في تفاصيل شركاء الجنوب.
ومثلما أن هناك التباسا في البند المالي للاتفاق، فإن هناك التباسا أوسع في تحديد المهاجرين المعنيين بالمعركة، هل الأفارقة فقط أم التونسيون؟ وهل أن حكومة قيس سعيد ستعطى امتيازا بقبول المئات من المهاجرين التونسيين وتسوية وضعهم القانوني كرسالة حسن نية لتخفيف العبء على تونس اقتصاديا واجتماعيا لتقدر على لعب دور أكثر فاعلية في مهمة ضد موجات المهاجرين؟ أم أن لديها مهمة مزدوجة بصد الأفارقة من جهة وضد عشرات المئات من أبنائها الذين يركبون البحر بسبب الاقتصادية الحادة؟
أليس من الواقعي أن تبادر أوروبا، وخاصة إيطاليا وفرنسا إلى إعطاء التونسيين امتيازا في كوتا المقبولين قبل غيرهم ومراعاة الأسباب التي قادت إلى ذلك، ويكون ذلك رسالة دعم إضافية لقيس سعيد لتشجيع حكومته على أداء دورها كاملا في صد الهجرة غير النظامية.
◙ أليس من الواقعي أن تبادر أوروبا، وخاصة إيطاليا وفرنسا إلى إعطاء التونسيين امتيازا في كوتا المقبولين قبل غيرهم ومراعاة الأسباب التي قادت إلى ذلك
وعلى العكس من ذلك تضغط أوروبا على تونس لإعادة استقبال المئات من أبنائها الذين نجحوا في اجتياز البحر وفشلوا في تسوية أوضاعهم بسبب تشدد دول مثل إيطاليا وفرنسا في منح هؤلاء وثائق الإقامة والعمل ضمن مقاربة أشمل تقوم على التقليص من أعداء المهاجرين الذين يتم تحميلهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أوروبا.
لكن السؤال الأهم هو ماذا بعد قرار تونس إعادة المنحة المالية الموجهة من الاتحاد الأوروبي، كما أعلن عن ذلك وزير الخارجية نبيل عمار في حواره لصحيفة “الشروق” التونسية، هل هي ورقة ضغط لزيادة الدعم، بالرغم من أن المنحة الأوروبية متفق عليها وفق جدولة واضحة للدعم من البداية مشروطة بالاتفاق مع صندوق النقد (900 مليون يورو).
وبالنظر إلى نتائج هذه الخطوة، هل تستمر تونس في مواجهة تدفقات اللاجئين بإمكانياتها الذاتية ودون تنسيق مع الأوروبيين أم ستترك الحبل على الغارب مع خطورة هذا الموقف أمنيا وسياسيا؟
الإجابة عن السؤال حملها كلام نبيل عمار خلال زيارته إلى لندن حين أكد حرص بلاده “على التصدي لهذه الظاهرة (الهجرة غير النظامية) وفقا لإمكانياتها وبكل مسؤولية وفي إطار احترام القوانين التونسية والمعاهدات الدولية ذات الصلة”، وهو ما يعني التحرك بشكل منفصل عن جهود الأوروبيين، وهو أمر صعب عمليا وأمنيا، كما أنه قد يقود إلى شرخ دبلوماسي مع شركاء إستراتيجيين لتونس.
العرب