شرطي العالم والاستفادة من سياسة التمحور

شرطي العالم والاستفادة من سياسة التمحور

a1448441256

يثير «شرطي العالم» الأمريكي الكثير من الحيرة في الأوساط الدولية التي ترقب سياسة التمحور. فكيف ولماذا تنقل الإدارة الأمريكية محور اهتمامها ونشاطها من الشرق الأوسط الذي تخترقه الحروب والبؤس والإرهاب، إلى الشرق الأقصى الذي ينعم – باستثناء كوريا الشمالية – بالسلم والثروات المتنامية؟ وأين أوضاع الشرق الأقصى المستقرة نسبياً من أوضاع الشرق الأوسط المتفجرة التي لا تهدد أمن المنطقة فحسب بل الأمن الدولي عموماً؟
لقد كان من المتوقع أن يضع شرطي العالم كل ثقله في السيطرة على الأوضاع المتفجرة في الشرق الأوسط. هذا ما فعله قبل أن تزداد هذه الأوضاع تأزماً، حتى إذا بدأت وتفاقمت، أعلن شرطي العالم عزمه على تطبيق نهج التمحور وباشر في نقل مركز اهتمامه إلى الشرق الأقصى فكيف يمكن تفسير هذا الانتقال؟ وهل أصبح أمراً واقعاً لا تراجع عنه؟
جاءت فكرة التمحور حصيلة مراجعة شاملة لاستراتيجية الدفاع الأمريكي قامت بها وزارة الدفاع بتوجيه من البيت الأبيض خلال عام 2011. ورمت المراجعة إلى تطوير هذه الاستراتيجية من الاستغراق في «حروب اليوم»، ومواجهة «المهام المتفرقة والمشتتة»، والوقوع تحت «الضغوط المالية» التي طبعت الأوضاع السارية وترافقت مع التركيز على منطقة الشرق الأوسط، إلى تنمية الاستعداد لمواجهة «تحديات الغد» التي تلوح في الشرق الأقصى، وتحديد الأولويات وتعزيز الجهود بقصد الإصلاح واستعادة التوازن على كل صعيد يتصل بقضايا الدفاع والأمن.

بين الزعماء الأمريكيين، كان الرئيس الأمريكي هو الأكثر حماساً لسياسة التمحور. ومن المؤكد أن أوباما لا يقلل من خطورة الحروب اليومية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولا من حجم المهام المتفرقة التي تضعها هذه الحروب والنزعات على النظام الدولي سواء تجلت هذه المهام في إنقاذ اللاجئين السوريين أو القضاء على الإرهاب أو الاهتمام بالمضاعفات الاقتصادية والاجتماعية للأوضاع السائدة في المنطقة العربية. ولكن هناك فرق بين المهم والأهم. وهناك فرق بين تصور الحاكم الأمريكي لسلم الأولويات، ونظرة الآخرين لهذا السلم. ففي المنطقة العربية حيث تطغى الهموم الإقليمية والمحلية على أي اهتمام آخر، لبث المواطن يعتقد أن المنطقة هي محور السياسة العالمية. هذا في أوقات السلم. أما في أوقات الحرب والمآسي والإرهاب فإن هذا الظن تحول إلى قناعة راسخة. انطلاقاً من هذه القناعة يتابع المعنيون بشؤون المنطقة العربية ودول شرق الأوسط باستغراب مضي الولايات المتحدة في تطبيق سياسة التمحور.
مقابل هذه النظرة، يقارن الحاكم الأمريكي بين الاهتمام بأحوال الشرقين الأدنى والأقصى من منظار المصالح الأمريكية. من هذا المنظار يرى سيد البيت الأبيض أن الولايات المتحدة مؤهلة أن تكون اليوم خلفاً للإمبراطورية الرومانية، وأنه لأول مرة منذ قرون يتزعم النظام الدولي قطب عالمي واحد. ومن هذا المنظار يرى باراك أوباما أن التحدي الأكبر للزعامة الأمريكية يكمن في بكين وليس في القاهرة أو بغداد أو غيرهما من العواصم العربية، وفي الفاعلين الرسميين والحكوميين وليس في منظمات إرهابية مثل «داعش».
إن بكين قلما عبرت عن رغبة في تزعم النظام الدولي، أو حتى في تزعم النظام الإقليمي، ولكن رئيساً مثقفاً مثل باراك أوباما يعرف أن الصين مثل مصر، كانت تتزعم كل نظام إقليمي شاركت في بنائه، باستثناء مئتي عام من تاريخها، وأن الزعامة تأتي إليها بحكم التاريخ والطبيعة والأرقام والأحجام. هذا ما يعرفه أيضاً بالطبع الزعماء الصينيون، ولذلك سعت بكين، خلال مناسبات متعددة، إلى طمأنة واشنطن إلى حسن نواياها..
على الرغم من حرص القيادة الصينية على طمأنة أهل القرار والرأي في واشنطن، إلا أن هذا الموقف لم يكن كافياً في الحسابات الأمريكية. ذلك أن الوصول إلى هذه الغاية يقتضي، في نظر الزعماء الأمريكيين.. أن يترافق نمو القوة العسكرية الصينية مع وضوح أكبر في تحديد الأهداف الاستراتيجية (الصينية)، كما تقول وزارة الدفاع الأمريكية. ويبدو هذا الشرط تعجيزياً لسببين: أولهما، لأنه يتجاهل توضيحات كثيرة جاءت في بيانات الحكومة الصينية والحزب الشيوعي الحاكم حول أهداف الصين الاستراتيجية. وثانيهما، هو أنه ليس من حق الإدارة الأمريكية أن تطالب الصين وغيرها من الدول بتوضيحات أكبر حول أهدافها الاستراتيجية في الوقت الذي تحيط الأهداف الأمريكية الاستراتيجية بالغموض. فواشنطن تعرب في سياستها الدفاعية للقرن الحادي والعشرين عن «قلقها الشديد لانتشار الأسلحة البالستية وأسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط»، بينما تؤكد في الوقت نفسه «دعمها لأمن «إسرائيل» وللسلام الشامل في منطقة الشرق الأوسط». إن هذه المواقف والعبارات حافلة بالغموض وبالتستر على واقع امتلاك «إسرائيل» لأسلحة الدمار الشامل وكذلك لموقفها المناهض للسلام الإقليمي عبر الاستمرار في بناء المستوطنات في الأراضي العربية.
هذه مجرد أمثلة سريعة تؤكد أن عدم تحديد الأهداف الاستراتيجية للصين هو ليس السبب الحقيقي وراء سياسة «التمحور»، وأن الغرض من هذه السياسة هو حرمان الصين من المكانة الدولية التي تستحقها وهو خلق الظروف الدولية التي تتيح للولايات المتحدة أن تحتكر الزعامة. البعض قد يجد هذا الأمر طبيعياً. «فالدول العظمى لا تولد ولا تموت في الفراش بل في ساحات القتال»، كما يقول مارتن وايت، عالم العلاقات الدولية البارز. ولكن هذا القول ليس دقيقاً. فبريطانيا كانت قوة عظمى، ولكنها تخلت عن هذه المكانة إلى الولايات المتحدة من دون حروب كبرى. وهناك فرق بين قبول الاتحاد السوفييتي التخلي عن مكانته الدولية والطريقة التي قبلت بها الإمبراطوريات الأوروبية الوسطى التنحي عن هذه المكانة. وما يخيف في سياسة «التمحور» هو أنها لا تهدف إلى إحاطة الصين عن طريق التحالفات الاقتصادية والسياسية فحسب، وإنما تسعى إلى تحقيق هذه السياسة عن طريق منع الصين من تطوير قدراتها العسكرية بما يتماشى مع قدراتها الاقتصادية والبشرية.
يعني هذا المنحى أن التخلي عن سياسة التمحور لن يكون أمراً ممكناً إلا إذا طرأت على المشهد الدولي أوضاع مستجدة تضطر الإدارة الأمريكية إلى إعادة الشرق الأوسط والمنطقة العربية إلى صدر أولوياتها. ولقد لخص باراك أوباما هذه الأوضاع في خطاب أدلى به في صيف العام الفائت بما يلي: أولاً، تعرض حلفاء واشنطن لعدوان خارجي مباشر، ثانياً احتمال تعرض الولايات المتحدة إلى عدوان إرهابي آت من الشرق، ثالثاً، عرقلة تدفق النقط الأوسطي إلى الغرب، رابعاً، امتلاك أطراف إقليمية لأسلحة الدمار الشامل.
من الأرجح أن يطرأ أي من هذه الأحداث على مسارح الصراع في الشرق الأوسط. والشروط التي حددها أوباما لعودة واشنطن عن سياسة التمحور باتت موضع قبول سائر الأطراف الحكومية في المنطقة، أما الجماعات الإرهابية فإنها تعاني الآن تراجعاً مستمراً. إذا استمر هذا الوضع، أي إذا لم تتوفر ظروف لعودة القوات الأمريكية إلى سابق عهدها في المنطقة، وإذا اضطرت واشنطن إلى سحب جزء من قواتها في الشرق الأدنى من أجل تعزيزها في الشرق الأقصى، فهل نعتبر ذلك أمراً ضاراً بالدول العربية؟
إن انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي العربية كان ولا يزال هدفاً يتطلع إليه، بحق، أكثر العرب. بعض هذه القوات، وهي على وجه التحديد قوات الأمم المتحدة، أدت دوراً إيجابياً يحفظه لها المواطنون العرب بالتقدير. ولكن أكثرها جاءها كقوات احتلال، ولفرض مشاريع تناقضت مع حقوق الشعوب ومطالبها. إن انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي العربية هو أمر يفيد المنطقة ولا يضرها.

د.رغيد الصلح

صحيفة الخليج