تحولات ديموغرافية: سياقات انتشار ظاهرة “الجيل الضائع” في المنطقة العربية

تحولات ديموغرافية: سياقات انتشار ظاهرة “الجيل الضائع” في المنطقة العربية

1280x960

تشهد بعض الدول العربية إرهاصات تشكل ظاهرة جنينية يمكن تسميتها بظاهرة “الجيل الضائع”، أي الجيل الذي وُلد في أتون الانتفاضات الشعبية والصراعات الداخلية والحروب الأهلية، وبصفة خاصة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق والسودان، حيث يعاني من تهديدات البيئة الأمنية، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وتزايد التحركات البشرية، وتفاقم الأوضاع الصحية، وتدني الخدمات التعليمية، وانهيار المقومات النفسية، فضلا عن تنامي التشوهات الأخلاقية والثقافية.

 ولعل تعدد أبعاد ومؤشرات الظاهرة يُصعِّب من تطوير سبل وآليات لمواجهتها أو تحجيمها خلال المستقبل المنظور، لا سيما مع تعقد أطر التسوية السياسية للصراعات، وتعثر تجاوز تعقيدات المراحل الانتقالية.

لم يكن ذلك الوضع حالة عربية استثنائية، بل شهدته دول كبرى، حيث ظهر مصطلح “الجيل الضائع” بشكل أساسي في الأدبيات الأمريكية والغربية في محاولة لوضع توصيف دقيق لماهية الجيل الذي نشأ في أوروبا إبان فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، إلا أنه يبدو أن واقع المنطقة العربية في السنوات الأخيرة قد ساهم في إعادة طرحه مرة أخرى، لا سيما مع انتشار الصراعات الداخلية المسلحة، وتنامي المواجهات العسكرية، وانتشار الأمراض الوبائية، وهو ما أسفر عن اتساع قاعدة المحرومين من أدنى متطلبات الحياة، خصوصًا الخدمات التعليمية والصحية، وأدى أيضًا إلى تحولات ديموغرافية حادة تشهدها الدول العربية في المستقبل المنظور.

محفزات الانتشار:

يُساهم السياق العام المضطرب الذي تمر به الدول العربية في اتساع قاعدة ظاهرة “الجيل الضائع”، في ظل الظروف الصعبة والحادة التي يُعاني منها الإقليم، سواء تلك التي ترتبط بالتشوهات التي أصابت عملية التنشئة الاجتماعية للأجيال الجديدة، أو تلك التي تتعلق بالطبيعة السياسية المضطربة وغير المستقرة للدول. وفي هذا الإطار يمكن تلخيص أبرز تلك الظروف فيما يلي:

1- اتساع نطاق الصراعات المسلحة: انتشرت الصراعات المسلحة في بعض الدول العربية، لا سيما سوريا والعراق واليمن والصومال والسودان. فقد ساهم هذا المناخ المحتقن في زيادة معدلات عدم الاستقرار السكاني والديموغرافي، وهو ما انعكس في زيادة أعداد النازحين واللاجئين على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد أشارت تقديرات المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين والنازحين في سوريا وصل إلى 4,08 مليون في الخارج، و7,6 مليون نازح في الداخل، أما في ليبيا فقد وصل عدد اللاجئين في الخارج إلى 4,194 ألف شخص، فيما بلغ عدد النازحين في الداخل ما يقرب من 400 ألف شخص، في حين وصل عدد اللاجئين اليمنيين في الخارج إلى ما يقرب من 2628 ألف شحص، بينما بلغ عدد النازحين في الداخل 334 ألف شخص.

2- تردي الأوضاع التعليمية: شهدت السنوات الأخيرة تدهورًا ملحوظًا في أوضاع المنظومات التعليمية في الدول العربية، مما أسفر عن نشأة جيل جديد يفتقر لأدنى درجات التراكم المعرفي والتعليمي، وهو ما ساهم في زيادة معدلات انتشار ظاهرة “الجيل الضائع” في تلك الدول. فأوضاع التعليم تدهورت على مستويين: الأول، تدهور جودة المناهج التعليمية، ويتركز بالأساس في الدول التي شهدت استقرارًا نسبيًّا مثل تونس ومصر، حيث تراجعت جودة المناهج بشكل ملحوظ، مما أسفر عن تنشئة جيل لا يستطيع مواكبة التغيرات والتحولات العالمية.

والثاني، انخفاض أعداد المنخرطين في العملية التعليمية، لا سيما في الدول غير المستقرة التي تعاني من صراعات مسلحة. فوفقًا لدراسة حديثة أصدرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” بعنوان “التعليم على خط النار”، فإن 40% من الطلاب في سن التعليم لا يرتادون المدارس بما يتجاوز 13 مليونًا، منهم 2,4 مليون في سوريا، و3 ملايين في العراق، و2 مليون في ليبيا، و3,1 ملايين في السودان، و2,9 مليون في اليمن.

3- تفشي الأمراض المعدية والأوبئة: ساهم انتشار الأمراض والأوبئة في نشأة جيل جديد معتلٍّ صحيًّا، وبالتالي غير قادر على العطاء والإنتاج. ففي سوريا انتشرت الأمراض المعدية بشكل ملحوظ، فقد وثَّق المكتب الطبي الموحد في دمشق والقلمون إصابة 3350 شخصًا بمرض التيفود، و2500 شخص بالالتهاب الكبدي الوبائي، فضلا عن الانتشار الكبير لمرض “الليشمانيا”.

وقد كشفت منظمة الصحة العالمية عن حدوث تراجع كبير في الخدمات الصحية في سوريا بعد تدمير 58% من مستشفياتها سواء جزئيًّا أو كليًّا. كما انتشر في العراق بشكل مضطرد مرض “النكاف” بين طلاب المدارس الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية وثلاثة عشر عامًا نتيجة عدم تقديم اللقاح لهم. ذلك في الوقت الذي انتشرت فيه الأمراض المعدية لا سيما المعوية في مخيمات النازحين في جنوب الصومال، مما أثار مخاوف من اتساع نطاق الأمراض في ظل تدهور وغياب الخدمات الصحية.

4- تزايد معدلات البطالة: تمثل معدلات البطالة المرتفعة سببًا رئيسيًا في انتشار ظاهرة “الجيل الضائع” في بعض الدول العربية. فوفقًا لدراسة حديثة أجراها “اتحاد المصارف العربية” فقد وصل عدد العاطلين في الدول العربية إلى ما يقرب من 22 مليونًا من إجمالي 120 مليونًا هي إجمالي القوة العاملة في دول المنطقة، وهو ثاني أعلى معدل للبطالة على مستوى مناطق العالم، وتوقعت الدراسة ارتفاع أعداد العاطلين في المنطقة ليصل إلى حوالي 80 مليون فرد بحلول عام 2025.

وقد حلت السودان في المقدمة من حيث نسبة البطالة، والتي بلغت في عام 2014 ما يقرب من 20%، ثم تونس 16%، ثم مصر 12,83%، ثم الأردن 12,2%، ثم الجزائر 9,83%، ويليها المغرب 8,78%، فضلا عن دول الصراعات التي تبلغ فيها النسبة أكبر من ذلك بكثير. فوفقًا لتقرير صادر عن صندوق النقد العربي في عام 2015 فقد تجاوزت نسبة البطالة في سوريا 57,7%، وفي اليمن 40%، وموريتانيا 31%، والأراضي الفلسطينية 26,5%. ولعل نسب البطالة المرتفعة قد ساهمت بشكل ملحوظ في تنشئة جيل ضعيف الإنتاجية، غير قادر على مواكبة التغيرات السريعة.

5- التشوهات الثقافية والتدهور الأخلاقي: شجعت البيئة الداخلية بما تتضمنه من محفزات، على حدوث تشوهات وتدهورات أخلاقية للأجيال الجديدة من خلال انتشار الأعمال الفنية والسينمائية والدرامية التي تحث على انتهاج العنف والانفلات الأخلاقي، لا سيما في الدول التي شهدت ثورات، حيث ساهمت تلك الأعمال في تنشئة جيل جديد منفلت أخلاقيًّا وضعيف ثقافيًّا، خاصة مع غياب الدور الرقابي للحكومات، الذي يمكن أن يساعد في تحجيم انتشار هذه الظاهرة.

تداعيات خطيرة:

تتعدد التداعيات السلبية لانتشار ظاهرة “الجيل الضائع” على الدول التي تشهد قدرًا من الاستقرار النسبي، وعدم وجود برامج حكومية واضحة لاحتواء هذا الجيل ومواجهة أزماته. ويأتي في مقدمة تلك التداعيات، إضعاف قدرات دول المنطقة على المشاركة في حركة التطور العالمي، وتراجع احتمالات نجاحها في توفير متطلبات الحياة. فضلا عن تزايد احتمالات انتشار الإرهاب والتطرف بين أبناء هذا الجيل، نظرًا لافتقارهم لمنظومة فكرية ودينية وثقافية تكون قادرة على مواجهة وسائل التجنيد المتطورة التي تستخدمها التنظيمات المسلحة والحركات الإرهابية، وهو ما سيؤثر بالضرورة على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي في تلك الدول.

 وفي النهاية، يمكن القول إن التخوف الأبرز الذي تثيره ظاهرة “الجيل الضائع” في المنطقة العربية، يتمثل في قابليتها السريعة للانتقال من مجتمعات إلى أخرى، خاصة مع المنحى التصاعدي الذي تسير فيه المسببات الموضوعية لها، خاصة فيما يتعلق باتساع نطاق الصراعات المسلحة، وتآكل المنظومتين التعليمية والصحية، وضعف مؤسسات التنشئة المنوط بها تحجيم ومحاربة مثل هذه الظواهر.

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية