ما زال البحث جاريا عن أسباب ما نحن فيه في الشرق الأوسط، وقد أشار قائل إلى أن هذه الفترة من أسوأ الفترات التاريخية التي مرت بالمنطقة، منذ الغزو المغولي لها في القرن الثالث عشر. وسواء كان ذلك صحيحا أو لا، فمقارنة المصائب مسألة تستعصي على العقل، فإن بداية البحث تأتي منذ بدأت عاصفة ما عرف فيما بعد باسم «الربيع العربي». روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي الأسبق، ذكر في مقابلة تلفزيونية مع شبكة «فوكس» للأخبار، أن الرئيس أوباما اتخذ قرارا بالإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، على خلاف كل آراء أعضاء مجلس الأمن القومي استنادا إلى رأي شاب «جالس في المقاعد الخلفية» ذكر له أنه عندما يفعل ذلك، فإنه سوف يكون على الجانب الحق أو الصحيح من التاريخ؛ لأنه سوف يفتح الباب للديمقراطية. القصة ليست جديدة تماما، فقد سبق أن ذكرها غيتس في مذكراته «الواجب»، ولكن مصدر الجدة فيها أن أوباما نفسه كشف في تقرير جيفري جولدبيرغ «عقيدة أوباما» المنشور في دورية «الأطلنطي» في 14 مارس (آذار) الحالي أنه «يجب تجنب الشرق الأوسط.. لا يمكن إصلاح الأوضاع في الشرق الأوسط خلال جيل كامل». لم يصل التاريخ إلى مبتغاه كما أراد له أوباما، ولكن تاريخ الشرق الأوسط سار في اتجاهات قاسية، واحتاجت مصر إلى ثورة أخرى كي تصحح الثورة الأولى، ولكن كل الثورات في النهاية لها أثمان فادحة.
في مذكرات غيتس، وفي حديثه التلفزيوني، إشارة إلى أن أوباما كان يعتقد يوما أنه أذكى الحاضرين في الحجرة، عند عقد اجتماعات مجلس الأمن القومي. المسألة هنا ربما ليس الذكاء بقدر ما كان الأمر اعتقادا آيديولوجيا أولا بأنه على الجانب الحق من التاريخ، أو أن تاريخ الحق يوجد بشكل طبيعي إلى جانبه. الفكرة الليبرالية و«التقدمية» في العادة فيها جانب من الغرور غير قليل، وفي سبيله فإن الحقائق يمكن التلاعب بها. وكما كانت المشكلة في تقدير أوباما الأول حول الأحوال في مصر، فإن المشكلة الآن فيما يخص الشرق الأوسط تقع من ناحية على عاتق أهل المنطقة، ومن ناحية أخرى أن تكون دول وحكومات المنطقة على استعداد لدفع الثمن، وليس أن تعتمد على الولايات المتحدة لكي تقوم لها بما يجب عليها القيام به. ببساطة ألا تكون قيادات المنطقة مصممة على «الركوب بالمجان» أو Free Riders على حساب أميركا. المدهش، والذي ربما لم يلاحظه أحد داخل أميركا على الأقل، أن هناك تلاقيا حول هذه النقطة بين أوباما ودونالد ترامب المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، على بعد الشقة بينهما سياسيا وآيديولوجيا. فهذا الأخير لم يتوقف أبدا عن توجيه هذه التهمة لحلفاء الولايات المتحدة كافة في أوروبا واليابان والخليج العربي أيضا، متوعدا أنه عندما يتولى الرئاسة سوف يعرف كيف ينتزع ما يراه حقوقا لأميركا.
وسواء كان التشخيص السياسي على جانب أوباما أو ترامب، فإن الأمر كله يبدو نوعا من الثقافة السياسية الذائعة التي تتصور حتمية وجود أميركا على الجانب الطيب من التاريخ الذي يعطيها حقوقا بعينها على الآخرين، سواء كانوا من الحلفاء أو الأعداء، مع تغافل تام عن الحقائق التاريخية الكبرى. وربما كان أهمها أن دول العالم الأخرى، عندما تحالفت مع الولايات المتحدة كان ذلك منطلقا ليس من شراكة فكرية أو آيديولوجية بالضرورة، وإنما من المصالح القومية لهذه الدول. وعندما اختارت الدول العربية، ما عدا اليمن الجنوبية، أن تلفظ الشيوعية وترفضها بل وتحاربها في المنطقة وما وراءها، كان ذلك انطلاقا من المصالح الذاتية لهذه الدول، وكذلك من رؤيتها الخاصة بالهوية والمصالح الاستراتيجية المنطلقة من أوضاع تاريخية وجغرافية. ولذلك فإن الانتصار الغربي الكبير في الحرب الباردة، والذي هو ربما أكبر انتصار تحقق في التاريخ المعاصر، عاد في جزء منه على الأقل إلى الدول العربية ودول شرق أوسطية أخرى، التي وإن تبنى بعضها التحالف المباشر مع واشنطن، أو عدم الانحياز، أو في مسافة بين هذه وتلك، فإن النتيجة كانت خلق بدائل في العالم الثالث كله للوقوع بين براثن الشيوعية. وعندما قام الاتحاد السوفياتي بغزو أفغانستان، تلاقت المصالح بين دول الشرق الأوسط والمعسكر الغربي على هزيمة الاتحاد السوفياتي، لأن انتصاره كان يعني ليس فقط الإخلال بالتوازن الدولي، وإنما أيضا يعني إعطاءه نافذة قريبة على الخليج ونفطه ومصالح أخرى كثيرة.
دفعت دول الشرق الأوسط أثمانا كبيرة لهذه الحرب ضد الشيوعية، وعندما قامت العراق بغزو الكويت قادت السعودية تحالفا إقليميا عربيا وإسلاميا إلى جانب الولايات المتحدة وحلفها الدولي لمقاومة هذا الغزو. وكانت المساهمة مالية وعسكرية، وهناك اتفاق بين الكتاب الأميركيين أن مساهمتها في حرب الخليج كانت أول الحروب «الرابحة» في تاريخها. والواقع أن أميركا هي التي حاولت بعد ذلك أن «تركب» على هذه الحرب، لكي تعيد بناء المنطقة على هوى المحافظين الجدد في عهد جورج بوش الابن بغزو أفغانستان والعراق، وتفكيك الدولتين وإنتاج أكبر كارثة ليس فقط على أميركا، وإنما أيضا على حلفائها وخصوصا دول الشرق الأوسط وفي مقدمتها الدول العربية. كانت الشهوة الأميركية لتغيير القيادات، والنظم السياسية، وحتى تنظيم الدول وفقا لدساتير شريرة، ليس وقوفا في الجانب الصحيح من التاريخ، وإنما جانب الفوضى والتشرذم والحروب الأهلية.
نتائج هذا الموقف الأميركي كانت ثلاثًا: الإرهاب على اختلاف درجاته وأنواعه، والحروب الأهلية، والانقسام الطائفي والمذهبي. أثمان كل ذلك لم تدفعها واشنطن، وإنما دفعتها الدول العربية والمسلمون عامة، حيث كانوا من ناحية الضحايا (95 في المائة من قتلى الإرهاب على عكس ما هو ذائع في الغرب من المسلمين، فضلا عن أن ثمن الربيع العربي المزعوم يصل إلى 600 ألف قتيل، وأكثر من مليوني جريح و14 مليون لاجئ ونازح)، ومن ناحية أخرى، فإن الدول العربية وحتى الآن تحملت العبء الأكبر في المقاومة الفعلية للإرهاب، ومحاولة إعادة تركيب دول تفككت.
الدول العربية لم تركب أبدا بالمجان في المركبة الأميركية، من ناحية لأنها كانت يسير في اتجاه مصالحها وليس مصالح الولايات المتحدة، وعندما التقت المصالح، كانت أسعار النفط في خدمة المصالح الذاتية ومصالح الولايات المتحدة والعالم الصناعي والدنيا كلها، وأحيانا كان شراء أذون الخزانة الأميركية من قبل الدول العربية القادرة كان مهما، لأن الاقتصاد الأميركي وسلامته جزء مهم من الاقتصاد العالمي. وسواء كان الأمر آخذا لشكل معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية أو مبادرة السلام العربية التي دشنتها السعودية، فإن تحقيق السلام في الشرق الأوسط كان بالتأكيد مصلحة أميركية وعربية. والأمثلة بعد ذلك كثيرة، ولا يمكن لأميركا أن تدخل المعارك والخصومات، ثم بعد ذلك المصالحات والمعاهدات والاتفاقات، وفقا لرؤية كل قادم إلى البيت الأبيض، وتتوقع بعد ذلك تبعية مطلقة من الدول الأخرى. السياسة الدولية في الأول والآخر مصالح تدفع الدول أثمانها فورا وليس بشكل مؤجل. وكما أنه في الحياة لا يوجد غذاء بالمجان، فإنه في السياسة الدولية لا يوجد ركوب بالمجان أيضا.
عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط