ونحن لا نقول ذلك لأنّ الرئيس باراك أوباما، الذي سيغادر البيت الأبيض، في مطلع عام 2017، فشل في تعطيل القانون، حين ردّ الكونغرس الفيتو الرئاسي، ولا لأنّ أحداً لا يَقْوى على الجزم بأن موقف الرئاسة بعده سيظل هو نفسه موقف الاعتراض على قانون الكونغرس (خاصة مع صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة)، لكن لأنّ مبنى السياسة الداخلية الأمريكية على التوافق بين المؤسَّستين، وأنّ الخلافات بينهما في شأن التصديق الرئاسي على قوانين الكونغرس، أو الموافقة التشريعية على قرارات الرئاسة، عادة ما تجد لها حلولاً توافقية تسمح لآلة الدولة بأن تشتغل دون أن يتعرض عملها للتعطل أو الاضطراب. يحصل ذلك في أقل المسائل الداخلية حساسية، فكيف بمسائل أخرى لا يختلف الأمريكيون – على تضارُب خياراتهم – بأنها في جملة مسائل الأمن القومي، مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
على أنّ الفيتو الرئاسي على القانون ربما كان-فيما لو نجح-قد لا يَقِل، هو نفسه، وطأةً على السياسة الرسمية العربية من القانون نفسه، فلقد كان بإمكانه أن يصبح مع الزمن، وتبعاً لمقتضيات المصالح الأمريكية، ورقة للابتزاز السياسي والمالي للحكومات التي يراد استخدام أحكام القانون ضدها، وقد يُتَّخذ ذريعة لمطالبتها بما يمس سيادتها على أراضيها وثرواتها، أو بما يمس بالتزاماتها مع غيرها من الحكومات والدول التي تشاركها الانتماء إلى تحالفات أو شراكات أو اتفاقيات. وعندها، ستتساوى أضرار تطبيق القرار عليها مع أضرار تعطيل إنفاذ أحكامه (التعطيل المغرض)، أي المنصرف إلى تحقيق الغرض وهو الوصول، من طريق الابتزاز، إلى الأهداف عينها التي تبتغيها أحكامُ موادّ القانون! وهذه لعبة خبيثة ليست غريبة على السياسات الدولية للولايات المتحدة، خاصة تجاه «حلفائها»-ولا موضع استغراب ممن جرَّبوها قبْلنا. وقد تكون فوائدُها، الناجمة منها، أجزلَ من أخرى، تتوسَّل لها أسلوب الكَيّ.
وفي الإجماع السياسي الحزبي على صدوره ما ينبغي أن يستوقف التفكير، فهو قرينة على أن الجامع بين التيارات السياسية الأمريكية الرئيسية واحد، وهو المصالح القومية الأمريكية، وأنها (تيارات) لا تعير اهتماماً ل «أصدقاء» أمريكا إن اقتضت المصالح التضحية بصداقتهم، بل إن في ذلك ما يحملنا على الاعتقاد الجازم أنه ما من صديق للولايات المتحدة في بلادنا العربية – بعد مصلحتها – سوى الكيان الصهيوني، فهو الوحيد الذي في وسعه ألا يخشى انقلاب السياسة الأمريكية عليه، لأنه يعد جزءاً من مشروعها الإمبريالي.
ننبّه إلى أنّ هذا القانون المشؤوم، وإنْ كان مصمَّماً للنيل من بلدان عربية بعينها، هو محطُّ اعتراضِ العالمِ كلِّه واستنكارِه، بما فيه دول الاتحاد الأوروبي، مّا يسمح للبلدان العربية بتنسيق جهود الردّ على القانون مع سائر البلدان والدول التي استهجنت إصداره، وأبدتْ خشيتها من توسيع أشكال استخدامه وتنويعها. على أنّ سعياً عربياً رسمياً إلى تأليف جبهة عالمية مناهضة لقانون ينال من الحصانة السيادية للدول، ومن مرجعية القانون الدولي، ينبغي أن يقترن بموقفين سياسيين متلازمين على تلك السياسة العربية، أن تلتزمها حتى تعزّز مصداقيتها في نظر الرأي العام الدولي.
أوّلهما: أن تمارس الدول العربية المستهدفة بالقانون الأمريكي المغرض حقها الشرعي – الذي يكفله القانون الدولي – في ممارسة أو تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل. ويقع ضمن ذلك حقها في فرض عقوبات مالية على الولايات المتحدة، وفي سحب ودائعها المالية التي يتوازن بها الاقتصاد والمالية في أمريكا، وتنويع صلاتها المالية والتجارية والاستثمارية بدول العالم وقوى اقتصادية كبرى فيه مثل الصين وألمانيا. وليس من شك في أن ذلك سيكون رداً موجعاً للولايات المتحدة يردعها عن التطاول في علاقاتها بالآخرين.
وثانيهما: أن تثبت الدول العربية المتهمة بدعم الإرهاب بطلان التهمة، عن طريق مراقبة عمليات التحويل المالية إلى الجماعات الإرهابية من جمعيات ومؤسسات أهلية فيها (لأن هذه التحويلات مراقبة ومعروفة دولياً)، وأن تنخرط في الحرب على الجماعات المسلحة التي تعيث فساداً في سوريا والعراق وليبيا، وتهدّد بنقل عملياتها إلى مناطق أخرى، وأن تتخذ إجراءات عقابية ضد دول إقليمية ودولية تقدم الدعم والإسناد للجماعات الإرهابية مسخرة إياها من أجل تحقيق أوهام إمبراطورية في داخل الوطن العربي. –