استحقاقات وتحديات كثيرة تنتظر تركيا بعد دخولها مرحلة النظام الرئاسي، ولعل أهمها عودة الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتحقيق الوئام الاجتماعي بما يفضي إلى إنهاء حالة الشحن والانقسام نتيجة التجاذبات السياسية والتوترات الاجتماعية.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هو: هل ستسأنف القيادة التركية مسيرة “السلام الداخلي” التي توقفت عام 2015، إثر الهجمات التي شنها مقاتلو حزب العمال الكردستاني ورد الحكومة التركية بإنزال الجيش إلى الشوارع لمحاربة عناصر هذا الحزب الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية.
التأييد الكردي
بدايةً، تدخل تركيا مرحلة النظام الرئاسي في لحظة تاريخية دقيقة، إذ رغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومعه حزب العدالة والتنمية نجحا في الفوز بالنظام الرئاسي، فإن نتيجة التصويت على التعديلات الدستورية التي جاءت في صالح جبهة “نعم” لم تكن بمستوى ما كانت تطمح إليه القيادة السياسية التركية.
وفي أول ظهور له بعد الاستفتاء الدستوري، اعتبر الرئيس أردوغان التأييد الكردي للتعديلات الدستورية إشارة إيجابية للاستحقاقات القادمة، الأمر الذي قد يُسفر عن خطوات لاحقة لصالح إعادة النظر في توقف عملية السلام الداخلي.
“في أول ظهور له بعد الاستفتاء الدستوري، اعتبر الرئيس أردوغان التأييد الكردي للتعديلات الدستورية إشارة إيجابية للاستحقاقات القادمة، الأمر الذي قد يُسفر عن خطوات لاحقة لصالح إعادة النظر في توقف عملية السلام الداخلي”
ويمكن ربط ذلك بالتصريح الذي أطلقه مستشاره شكري كقرة تبه قبيل الاستفتاء، وأشار فيه إلى أن “تركيا ستتحول إلى نظام الولايات في حال الموافقة على التعديلات الدستورية”، لكن أحزاب المعارضة التركية ضخمت التصريح، واعتبرت أنه يخفي مشروعاً سياسياً سرياً “لتحويل تركيا إلى فدرالية تحت ستار النظام الرئاسي”، والغاية منه كسب أصوات الأكراد لصالح التعديلات الدستورية.
وفي مطلق الأحوال؛ فإن تصويت نسبة لا يستهان بها من أكراد تركيا لصالح التعديلات الدستورية يُردّ إلى عوامل عديدة، حيث أرجع ياسين أكتاي -نائب رئيس حزب العدالة والتنمية- ذلك إلى “جملة من التطورات التي فتحت للأكراد مجالا أوسع من الحرية والقدرة على التعبير في الاستفتاء الشعبي الأخير، بعيدا عن فوهات بنادق الانفصاليين التي كانت تحيط بالانتخابات سابقاً”.
لكن الأهم هو أن الحركة السياسية الكردية -المكونة أساسا من حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، وحزب المناطق الحرة، وحركة المرأة الحرة، ومجلس المجتمع الديمقراطي، وهي كلها قريبة من حزب العمال الكردستاني (PKK) أو رديفة له- لم تتمكن من إقناع الشارع الكردي بحججها واعتراضاتها الرافضة للتعديلات الدستورية.
كما أن غالبية الأكراد يحمّلون حزب العمال الكردستاني المسؤولية عن أحداث العنف والعمليات العسكرية في مناطقهم وما جرته لها من دمار وخراب، الأمر الذي أنتج شعوراً ناقماً ضد حزب العمال الكردستاني وتصرفات مقاتليه ومناصريه.
مرحلة جديدة
إذن؛ تفرض المرحلة الجديدة التي تدخلها تركيا أن تتخذ القيادة السياسية الحاكمة لغة خطاب داخلية مختلفة عن لغتها السابقة، بغية توحيد الصف التركي أمام التحديات والاستحقاقات، والتخفيف من آثار المعارك مع حزب العمال الكردستاني على المناطق الجنوبية الشرقية.
وكذلك ينبغي لها اللجوءإلى تهدئة الأوضاع ومحاورة ممثلين من أبناء تلك المناطق ليسوا من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، بهدف التوصل إلى بناء عملية سياسية جديدة بما يفضي إلى العودة إلى تطبيع مسار خطة السلام، والتوصل إلى حلول واقعية للمشكلة الكردية.
“تفرض المرحلة الجديدة التي تدخلها تركيا أن تتخذ القيادة السياسية الحاكمة لغة خطاب داخلية مختلفة عن لغتها السابقة، بغية توحيد الصف التركي أمام التحديات والاستحقاقات، والتخفيف من آثار المعارك مع حزب العمال الكردستاني”
ولا شك في أن مرحلة جديدة من المراجعات ستقوم بها قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم بغية حل الإشكاليات العديدة، التي أفضت إلى حالة من الانقسام في الشارع التركي، خاصة أن رسائل عديدة وجهها المواطن التركي عبر صندوق الاستفتاء، سواء لجهة التغيير المطلوب في الحزب نفسه، أم بشأن استحقاقات مرحلة النظام الرئاسي.
وهذا ما يفسر تصريحات رئيس الحكومة بن علي يلدرم حول إعادة هيكلة حزب العدالة والتنمية نفسه. كما أن الرئيس أردوغان طالما اعتبر أن حل القضية الكردية يشكل مساراً إستراتيجياً للدولة التركية، ولن يستغني عنه ما دام يعي تماماً ارتباطه بمخاطر تدخلات أجنبية، ويحمل معه محاولات تقسيم وتفتيت.
وفي المقابل؛ يرى جمهور واسع من أكراد تركيا أن أردوغان هو الشخص الوحيد الذي يمكن التوصل إلى اتفاق سلام معه، وقادر على إطلاقه، بما يعني تبريد جبهة عسكرية حامية، وتحقيق شرط من شروط النمو الاقتصادي، واسترجاع ثقة المستثمرين، وإنعاش قطاع السياحة الذي ضُرب في الفترة الماضية.
هذا فضلاً عن أن أكراد تركيا يشكلون كتلة انتخابية وازنة، يمكنها ترجيح فوز أي طرف سياسي في الاستحقاقات الانتخابية، لكن من الخطأ الجسيم النظر إليهم ككتلة انتخابية متجانسة، نظراً للتمايزات السياسية بينهم.
خطوات وآفاق
يكشف واقع الحال في تركيا أنه منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002، توزّعت أصوات الناخبين الأكراد بين مصوّتين لصالحه وغالبيتهم من الإسلاميين المحافظين، ومصوتين لصالح الأحزاب الكردية وهم القوميون الأكراد.
وشهدت مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية تحسناً واضحاً في موقع أكراد تركيا، حيث اتخذت حكومته الأولى عام 2003 قراراً يقضي برفع حالة الطوارئعن مناطق الشرق والجنوب الشرقي التركي، وسارت في طريق يخفف معاناة سكان تلك المناطق عبر سلسلة من الإصلاحات القانونية والسياسية والتنموية.
“الأرجح أن تفتح المرحلة الجديدة في تركيا المشهد السياسي لنقاشات وخطوات حول ممكنات عودة خطة السلام مع الأكراد، وإزالة الصورة القاتمة التي خلفتها العمليات العسكرية والاشتباكات، بما يفضي إلى فتح باب الحوار مع قوى وشخصيات كردية تؤمن بالحل السياسي ”
وجرى منحهم حقهم في استخدام لغتهم في المؤسسات التعليمية بمقتضى التعديلات الدستورية عام 2013، التي ركزت على إعادة تطوير وتنمية المناطق الكردية، ثم أقدمت الحكومة التركية في 2014 على وضع إطار قانوني لعملية السلام مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
ووصل حزب الشعوب الديمقراطي إلى البرلمان عبر صناديق الاقتراع، لكنه لم يتخذ موقفاً حازماً من عودة العمليات العسكرية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، وجاءت نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأخيرة لتكشف تراجع نسبة تأييد هذا الحزب في الأوساط الكردية. في حين أن حزب العدالة والتنمية وجد العديد من المؤيدين له في الوسط الكردي.
والأرجح أن تفتح المرحلة الجديدة في تركيا المشهد السياسي لنقاشات وخطوات حول ممكنات عودة خطة السلام مع الأكراد، وإزالة الصورة القاتمة التي خلفتها العمليات العسكرية والاشتباكات، بما يفضي إلى وقف الإجراءات الاستثنائية، وفتح باب الحوار مع قوى وشخصيات تؤمن بالحل السياسي وبمسيرة السلام.
لكن المشكلة تبقى مع قيادات الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني التي تريد التصعيد مع الحكومة التركية، والتي لم تعد تأخذ أوامرها من الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، بل من طهران وسواها من العواصم.
ولعل الأمر يزداد تعقيداً مع صعود حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، بوصفه الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، وانفتاح واشنطن على هذا الحزب ودعمه عسكريا وسياسياً، مما يشكل عوائق أمام عودة مسيرة السلام الداخلي في تركيا.
عمر كوش
الجزيرة