• أصبح “داعش” أخيراً في المراحل النهائية من فقدان وجوده كقوة تقليدية في سورية، بعد أن خسر كل مناطقه الحضرية وأصيب بالشلل الشديد بسبب فداحة الخسائر.
• مع ذلك، فإن زوال تنظيم “الدولة” في سورية لن يكون كافياً، وحده، لتمهيد الطريق أمام تسوية الصراع هناك.
• ما تزال العملية السياسية في سورية مستقطبة، ومن غير المحتمل أن تسفر المفاوضات الجارية عن تحرك كبير نحو السلام.
* * *
“الدولة الإسلامية” تتداعى في سورية، لكن البلد ما يزال يواجه مستقبلاً غامضاً. وقد أصبحت مجموعة “داعش” المتطرفة أخيراً في مراحلها الأخيرة كقوة تقليدية هناك، بعد أربع سنوات تقريباً من تعرضها للقصف المستمر، من الجو والأرض. وبعد طردها بشكل خاص من جميع المناطق الحضرية التي كانت تسيطر عليها، وإصابتها بالشلل تقريباً بسبب الخسائر الفادحة، فقدت المجموعة قدرتها على الاستيلاء على الأراضي أو الاحتفاظ بها في مواجهة العدد الكبير من القوات المتجمعة ضدها. وبينما هيمنت المجموعة على اهتمام الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الرئيسية في المنطقة، فإن سقوطها يثير السؤال الآتي: ما الذي سيأتي بعد ذلك بالنسبة لسورية؟
مهمة الولايات المتحدة
لم يكن هناك أي لاعب رئيسي آخر في سورية يركز حصرياً على تدمير “داعش” كما فعلت الولايات المتحدة. وعلى النقيض من القوى الأخرى في المنطقة، سعت واشنطن إلى حد كبير إلى وضع مهمة مناهضة “داعش” فوق كل الاعتبارات الأخرى. وقد فعلت ذلك من خلال الاصطفاف مع قوات سورية الديمقراطية، حتى بينما ألحق هذا التحالف الضرر بشراكتها الاستراتيجية طويلة الأمد مع تركيا. كما عززت الولايات المتحدة تركيزها على “داعش” في وقت سابق من هذا العام عندما قطعت الدعم العسكري عن قوات الثوار التي تقاتل الحكومة السورية بنشاط. ولم تتحول واشنطن عن هذا التركيز إلا لفترة وجيزة، عندما ردت عسكرياً على استخدام القوات الموالية للحكومة السورية الأسلحة الكيماوية (غاز السارين) ضد المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في نيسان (أبريل) 2017.
وحتى مع التدهور الواضح للمجموعة المتطرفة، فإن الولايات المتحدة متجهة نحو تجنب عودة ظهور تنظيم “داعش” أو أي مجموعة مماثلة. وفي الأسبوع الماضي، أعلن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أن القوات الأميركية ستبقى في سورية لمنع حدوث مثل هذا الانبعاث. وقد رأى الجيش الأميركي كيف أعاد سلف “الدولة الإسلامية” تشكيل نفسه في المنطقة في أعقاب رحيل الولايات المتحدة المتعجل من العراق في العام 2011. لكن ما لم يقله ماتيس هو أن الوجود الأميركي سيساعد أيضاً على احتواء الحضور المتزايد لإيران في المنطقة، وخاصة في سورية.
تزدهر الجماعات المتطرفة مثل تنظيم “داعش” في فراغات السلطة وفي المناطق التي تتسم بعدم الاستقرار الشديد وغير المحكومة. ولذلك، طالما استمرت الحرب الأهلية السورية، مع ما يتصل بها من دمار وعدم استقرار، فإنها ستظل تشكل أرضاً خصبة للإرهاب والجماعات الراديكالية. وبالإضافة إلى دمج قوة عسكرية مع قوات سورية الديمقراطية في شرق سورية، يمكن أن يُتوقع من الولايات المتحدة أن تدفع من أجل التوصل إلى حل سياسي للحرب. ومع ذلك، فإن هذا هو المكان الذي تتجلى فيه التعقيدات المتأصلة في الصراع، والتي تظهر في جميع جولات المفاوضات في جنيف. ولا يقتصر الأمر على أن رؤية الولايات المتحدة لسورية ما بعد الحرب لا تختلف كثيراً عن رؤية اللاعبين الرئيسيين الآخرين، لكن الثوار ومؤيديهم هم أيضاً مستقطبون حول العملية السياسية، كما يفعل الموالون ومؤيدوهم إلى حد ما.
ثلاث نقاط
يعتمد موقف الولايات المتحدة في أي مفاوضات إضافية على الدفع من أجل ثلاثة أشياء: حدوث انتقال سياسي ذي مغزى؛ ووجود دور مهم للأكراد؛ وخفض الدور الإيراني في البلد. ومن بين جميع اللاعبين الرئيسيين على كلا جانبي قسمة الموالين-الثوار، تقترب هذه الأهداف، فيما ينطوي على مفارقة، من أهداف روسيا. فقد أكدت موسكو أن الأكراد يستحقون دوراً مهماً في مستقبل سورية ما بعد الحرب. ومن بين داعمي سورية الموالين، كان الكرملين هو الأكثر حزماً في المطالبة بإصلاحات في الحكم السوري. كما أنه كان راغباً في الحد من الوجود الإيراني، كما ظهر في الاتفاق الأميركي الروسي حول منطقة “خفض التصعيد” في درعا، الذي وضع مساحة عازلة بمسافة 3.5 أميال بين هضبة الجولان والقوات الإيرانية.
بالإضافة إلى ذلك، بينما تبحث عن استراتيجية للخروج، والتي تنسجم مع مكاسبها الرئيسية في سورية، فإن موسكو هي الأكثر استعداداً بين الفصائل الموالية للنظام للتسوية من أجل التوصل إلى اتفاق سلام. وخلال قمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فى سوتشي مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني حول حل الصراع السوري، فإن الرئيس الروسي شجع على التوصل إلى تسوية.
مع ذلك، من المهم الاعتراف بمحدودية أوجه التشابه بين المواقف الأميركية والروسية في سورية. وتلاحَظ هذه التشابهات فقط بسبب الاختلافات واسعة النطاق بين جميع الأطراف الأخرى المشاركة في النزاع. وما تزال هناك فجوة بين واشنطن وموسكو حول الإصلاحات السياسية اللازمة في دمشق، وعلى حدود الوجود الإيراني. وفي واقع الأمر، مع رسوخ حكومة الرئيس بشار الأسد كما كان حالها دائماً، ومع وجود نفوذ إيراني واسع النطاق في سورية، فإن روسيا تواجه محددات حقيقية عندما يتعلق الأمر بإجبار الأسد على التنازل عن نفوذ طهران والحد منه. وتبدو كل من سورية وإيران حريصتين على التركيز على تحقيق انتصار عسكري صريح نظراً لميزتهما الحالية، ويمكن لروسيا أن تقوض موقفها الإقليمي المتحسن إذا هي ضغطت على حلفائها إلى درجة كبيرة، وتم رفض ضغوطها علناً.
مواطن الإحباط التركي
في حين تتقاسم تركيا أهدافا مشتركة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بإيجاد عملية انتقال سياسي هادفة والحد من نفوذ إيران، تبقى المسألة الكردية عامل انقسام حاسم. وقد تسبب دعم الولايات المتحدة لقواتسورية الديمقراطية، التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب، في إثارة غضب الأتراك الذين تبقى أولويتهم الأولى فى الصراع هي الحد من النزعة التوسعية الكردية، حتى على حساب الثوار السوريين الذين يدعمونهم أيضاً في بعض الأحيان. وقد حاولت أنقرة، المحبطة والغاضبة من موقف واشنطن، العمل بشكل أوثق مع موسكو، وخاصة من خلال عملية أستانا.
ومع ذلك، وكما لوحظ في منبج، ثم في وقت أقرب في كانتون عفرين، فإن التقارب التركي مع روسيا لم يطرح ثماره بعد. وبعد أن وضعته الولايات المتحدة وروسيا في وضع حرج، لاحظ إردوغان في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) أنه إذا كانت القوتان تؤمنان حقاً بأنه لا يوجد حل عسكري للنزاع، فإن عليهما سحب قواتهما من سورية. لكن ما لم يقله هو أن من شأن مثل هذا الانسحاب أن يزيل القوات التي تحول دون القيام بتقدم عسكري تركي ضد وحدات حماية الشعب الكردية. وكان من المتوقع أن تضغط أنقرة مجدداً على الروس لسحب قواتهم من منطقة عفرين في قمة 22 تشرين الثاني (نوفمبر). وبالنظر إلى أن الروس لم يرفضوا طلب تركيا فحسب، وإنما أصروا أيضاً على دعوة وحدات حماية الشعب إلى المفاوضات في المستقبل، فإنهم ربما يواصلون منع التحركات التركية نحو عفرين. ويمكن أن يؤدي ذلك مرة أخرى إلى توتير علاقة تركيا مع روسيا حول سورية، على الرغم من أن الانقطاع التام للعلاقة يبدو غير محتمل.
لن يمهد زوال “الدولة الإسلامية” كقوة تقليدية في سورية الطريق إلى تسوية الصراع هناك. والواقع أن إزالتها كعدو مشترك قد تؤدي إلى تفاقم بعض الاختلافات العميقة بين اللاعبين الرئيسيين. فبينما تحرص الولايات المتحدة وروسيا على إنهاء الصراع، فإن تأثيرهما في المنطقة يظل محدوداً. وتميل طهران ودمشق تماماً نحو تحقيق النصر العسكري، بينما تبحث تركيا عن فُرجَةٍ لتوسيع عملياتها العسكرية ضد وحدات حماية الشعب. ولم يظهر الثوار الذين يصبحون متشددين باطراد استعداداً للتخلي عن القتال، وتهدد إسرائيل بتصعيد ضرباتها العسكرية لمواجهة الوجود الإيراني المتزايد. وحتى الولايات المتحدة وروسيا ما تزالان مستقطبتين حول مسائل رئيسية، مثل مصير الأسد والإصلاح السياسي. ومن المرجح أن هذه العوامل معاً لن تضمن أن تؤدي المفاوضات الجارية إلى أي تقدم كبير نحو تحقيق السلام.
ترجمة صحيفة الغد