تثير السياسات التي تتبناها روسيا، تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين، جدلا في الدول الغربية. فبينما يراها البعض أنها غير ديمقراطية، وأدت إلى إضعاف الرقابة على السلطة التنفيذية، والتخلص من المعارضة، ينظر آخرون لها بأنها تهدف لاستعادة النظام والاستقرار اللازمين لتصويب أخطاء تسعينيات القرن الماضي. في هذا السياق، تأتي أهمية عرض مقالة ستيفن كوتكين، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة برينستون الأمريكية، ضمن عدد مارس/ أبريل من مجلة الشئون الخارجية “Foreign Affairs”، والذي تضمن مراجعة لثلاثة كتب تناولت بالتحليل السمات الشخصية للرئيس الروسي بوتين، وسياساته على الصعيدين الداخلي والخارجي، تحت عنوان ” الصعود الصامد لفلاديمير بوتين .. كابوس روسيا تحول إلى حلم يقظة”. يقدم المقال رؤية غربية نقدية لشخصية بوتين ولسياساته الداخلية والخارجية، من خلال التطرق لسيرته الذاتية منذ ميلاده، وتاريخه السياسي حتى وصوله لكرسي الحكم في الكرملين، وطبيعة الصدام بينه وبين الغرب بسبب الأزمة الأوكرانية، وضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية، والتي على أثرها فرض الغرب عقوبات اقتصادية على موسكو، وتطرق المقال إلى احتمالات الخروج من هذه الأزمة.
بوتين ..النشأة والصعود
في بداية مقاله، يتساءل كوتكين حول كيف انتهى الحال بروسيا في القرن الحادي والعشرين مرة أخرى إلى نمط الحكم الفردي الاستبدادي، برغم أنها دولة صناعية متقدمة، يبلغ سكانها 142 مليون نسمة، مشيرا إلى أنه ليس لديها أحزاب سياسية فاعلة قادرة على التفاعل مع مطالب الناخبين باستثناء حزب روسيا الموحدة المسيطر على المشهد السياسي، بخلاف استمرار نفوذ القوى الأمنية السرية بشكل فعال، وعدم استقلالية وسائل الإعلام، وتحول الاقتصاد الروسي إلى ما يشبه إقطاعيات فردية. وفي هذا السياق، يشير الكاتب إلى تصريح للمعارض الروسي، ستانيسلاف بلكوفسكي “إن الفكرة القومية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت تتمحور حول بوتين”. ويضيف كوتكين أن نظام الحكم أصبح يتخذ شكلاً جديداً من السلطوية، حيث إن ديكتاتورية بوتين تختلف كثيراً عن النسخة الشيوعية السوفيتية، وأن ادعاء بوتين بتحقيقه الاستقرار تحول إلى مرحلة من السلب والنهب، وأن أساليبه لإصلاح دولة مختلة، فيما بعد الحقبة السوفيتية، قد أنتجت دولة أخرى فاسدة ومختلة وظيفياً، بحسب وجهة نظر كوتكين. سرد الكاتب مسار حياة بوتين منذ ميلاده في عام 1952 ، ثم صعوده السياسي، وصولاً إلى كرسي الحكم في الكرملين، وتوليه العديد من المناصب السياسية في الإدارة الرئاسية للرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسن (١٩٩١–١٩٩٩)، ثم توليه رئاسة الوزراء عام 1999 ، ثم أصبح رئيساً. يرجع الكاتب الفضل في الصعود السياسي لبوتين إلى ابنة يلتسين تاتيانا وزوجها اللذين كان لهما قوة مؤثرة في اختيار بوتين، وتصعيده في العديد من المناصب، منذ عمله في الاستخبارات الروسية الكي جي بي. ويضيف أن بوتين استطاع تأمين فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2000 بفعل سيطرته على المحطة التليفزيونية الرئيسية حينها، وتحقيقه السيطرة المركزية على مقاليد السلطة، نتيجة التدفق النقدي بعد خصخصة جزء كبير من صناعة النفط والغاز، ومنها شركة “يوكوس” الضخمة. حيث إنه في الفترة من عام 1999 إلى 2008 ، نما الاقتصاد الروسي بنسبة 7% ، وتضاعف الناتج المحلي ، كما ارتفع متوسط دخل الفرد مرتين ونصف مرة نتيجة نجاحه في تحقيق طفرة اقتصادية بسبب توافر احتياطيات الوقود والغاز.
خطايا بوتين وإشكاليات السلطة
في جزء آخر من المقال، يقدم كوتكين عرضاً لأهم ما جاء بكتاب (Mr. Putin) لفيونا هيل وكليفورد جادي، اللذين يعملان بمؤسسة بروكينجز، حيث قام الكاتبان بتشخيص شخصية بوتين علي أنها تتحرك بين عدة شخصيات مختلفة ومتناقضة كرجل الدولة، ورجل التاريخ الذي يحتفي برموز روسيا القيصرية والمكافح، والغريب الأطوار، والمحسوب علي الرأسمالية. ويرى الكاتبان بوتين بأنه الشخص الذي يكسب ثقة الشعب من خلال الخداع والابتزاز بهدف تحقيق مكاسب سياسية. وقد اعتمدا – في وجهة نظرهما تلك – على العديد من الآراء التي ذكرت في كتب مثل “رجل بلا قناع” للصحفي الأمريكي الروسي ماشا جيسين الذي قدم تحليلا نفسيا لحياة وسيرة بوتين العملية على أنه “قاتل ولص”، و”مجرد حادث عارض، ولن يبقى في السلطة مدة طويلة”. وفي سياق متصل، طرح كوتكين أهم ما ورد في كتاب كليبوتقراطية بوتين”Putin’s Kleptocracy لكارين داويشا، أستاذ العلوم السياسية في ولاية أوهايو، والتي رأت أن العقوبات الغربية المفروضة علي موسكو بسبب سياساتها في أوكرانيا قد استهدفت ليس فقط القطاعات الاقتصادية، ولكن أيضاً الأفراد المقربين من بوتين، نتيجة ما سمته تضخم الفساد الحكومي في روسيا. وتشير دوايشا في كتابها إلى عدد من الأفراد المتورطين في الفساد الروسي، مثل اركادي بوريس، وجينادي تيمشينكو، رئيس مجموعة جنفور، واليكس ميلر، رئيس غازبروم، مشيرة إلى قيام بوتين بعمليات خصخصة غير تنافسية للعديد من الأصول المملوكة للدولة. ووضعت دوايشا تخمينات بأن ثروة بوتين الشخصية تبلغ نحو 40 مليار دولار، وأنه يسعى لخلق نظام استبدادي، تحكمه عصابة متماسكة لها مصالح واحدة لا تتجزأ. وعن السياسات غير الديمقراطية التي يتبناها الرئيس الروسي، عرض كوتكين أهم ما جاء بكتاب ” Fragile Empire الإمبراطورية الهشة” للكاتب الصحفي بن جودا، الذي رأى أن عودة بوتين إلى الرئاسة لولاية ثالثة كانت بمنزلة ضربة قاسية لمعارضيه. ويشرح بن جودا في كتابه كيف أن الدولة الروسية أنفقت على الأمن والنظام، وفرض القانون ما بين 2,8 مليار دولار، و36,5 مليار بين عامي 2000 و2010، وأن أكثر من 40% من الطبقة الوسطي الروسية الجديدة تعمل لدى بوتين، ولذلك يرى أنه ليس هناك شعب حر. تطرق بن جودا إلى ما سماه البعد الشعبوي لبوتين، وكيف أنه استغل خطايا وتجاوزات الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش، لتعزيز شرعيته، وعارض وصف نظام بوتين بأنه نظام تليفزيوني أو إعلام، وأكد أن أسلوب الدعاية الإعلامية والسياسية ليس فعالا دائماً، وأن “البوتينية” أصبحت أكثر من مجرد ظاهرة، وإنما هي نظام مجتمعي. في هذا السياق، يقدم بن جودا تقييما حول كيف بنى بوتين نظام حكمه الفردي، وذلك بهدف الخروج من أمراض الدولة الروسية التي ورثها، إذ كان عليه التخلص من هذه الأمور العالقة، والاستحواذ على الشعب، وتعزيز سلطته، وذلك بهدف عدم العودة مرة أخرى للشيوعية، وفوضى مرحلة يلتسين. فقد تمكن بوتين باقتدار من إدارة الصراع مع مراكز القوى، و”حيتان” المال، عبر إعادة السيطرة على الثروات الطبيعية التي سُرق معظمها في عهد يلتسين، وشيد نظاماً مركزياً لإعادة سيطرة الدولة على الأقاليم والجمهوريات الروسية. يرى بن جودا أن بوتين استطاع، من خلال العمل الدءوب، ومهاراته العديدة، توطيد أركان نظام حكمه، وإثبات أنه على مستوى المهمة، وأنه لاغنى عنه لجميع فصائل الشعب. ويضيف أن بوتين حظي في البداية بدعم الأوليجاركيين، وحكام الأقاليم، بحسبانه مدافعاً عن الوضع القائم المستفيدين منه، لكنه سرعان ما تلاشى هذا الدعم، حيث شن هجوماً مباشراً عليهم، وعزل وصادر أموال العديد منهم، مثلما حدث مع عملاق الغاز والنفط الروسي، ميخائيل خودروفيسكي، رئيس شركة يوكوس، الذي تم اعتقاله بدعوى فرض القانون، واتهامه في قضايا فساد، مما يوضح أن تعامل بوتين مع الأوليجاركيين قد اتسم بالانتقائية. وفي هذا السياق، يري كوتكين أن نمط القوة الواحدة المهيمنة يعيد نفسه في روسيا منذ نحو عقد من الزمان، ونقل عن ستيفان هيدلوند، وهو خبير في الشئون الروسية بجامعة أوبسال بالسويد، أن روسيا قد انهارت ثلاث مرات في أعوام 1610-1613،و 1917-1918، و1991 ، وأنه فى كل مرة، يتم إحياء البلاد دون إحداث تغيير جوهري، وأن روسيا بها حكومة غير خاضعة للمساءلة، وتستخدم أساليب القمع لفرض سيادة القانون، وأن الجهود الرامية إلى التغيير المؤسسي في روسيا قد فشلت تماماً. وينقل كوتكين عن المؤرخ جيفري هوسكينغ : “أن زيادة سيطرة الدولة هى بمنزلة ترسيخ لنزوة شخصية”، ووصف بوتين بأنه أول زعيم روسي يجعل “شيطنة الغرب” أساسا للهوية الوطنية الروسية، وشرعية نظامه.
القطيعة مع أوروبا وبداية الانهيار
يعرض أيضا كوتكين في مقالته أيضا لآراء المحللة ليليا شيفستوفا، التي ترى أن بوتين يتبع سياسة متشددة، سواء في الداخل أو الخارج، ويتملق في الوقت نفسه التيارات اليمينية في أوروبا، وأن روسيا لم يعد لديها حلفاء، حيث إنها قد أضرت بالعلاقة الأكثر أهمية مع ألمانيا. ونظراً لفرض العقوبات من الغرب على موسكو، وانخفاض أسعار النفط، فإن شيفستوفا ترى أن حكم بوتين بات في مراحله الأخيرة، نتيجة لحالة الغضب التي تسيطر على الروس بسبب تصاعد المشاكل الداخلية، وتدهور مستوى التعليم، وغياب رؤية تحديثية للمستقبل، وعدم قدرة نظام بوتين على إيجاد وسائل مرنة للتكيف مع هذه التحديات. وبالنظر إلى توتر علاقات روسيا بالغرب، على خلفية الأزمة في أوكرانيا، وما ترتب على ذلك من دخول شبه جزيرة القرم، الغنية بالنفط والثروات الطبيعية، في هيكل الاتحاد الروسي، يستنتج كوتكين أن بوتين ونظراءه في الغرب لا يخططون للتورط في مواجهة طويلة الأمد بشأن النزاع في أوكرانيا. ويرى أن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لا يمكنهما حل هذا النزاع. فالولايات المتحدة قد أسست “تحالفا من الراغبين” لإضفاء قدر من الشرعية على تدخلاتها الأخيرة، ولكنها لن تذهب للحرب في أوكرانيا، أو قصف روسيا. فهي- أي واشنطن- تفتقر للمال والإرادة الكافيين لفرض عقوبات موسعة على موسكو. وبدلا من ذلك، فإن واشنطن تواجه احتمال التفاوض على تسوية إقليمية أكبر تعترف بروسيا كقوة عظمى ذات نفوذ، وأن أهداف المفاوضات ستتمحور حول تبادل الاعتراف الدولي بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، بهدف وضع حد لجميع الصراعات المجمدة التي تعد روسيا شريكاً فيها. قصارى القول: إن الرؤية النقدية الغربية– التي يطرحها كوتكين، وغيره من المحللين الغربيين- تتمحور حول أن روسيا في عهد بوتين تمثل نظاماً سياسياً هيراركياً، يركز قدراً كبيراً من السلطة في يد رئيس الدولة، وتكتسب قيم وأفكار وشخصية من يتولي هذا المنصب أهمية خاصة، وهو ما يعود إلى طبيعة الشعب الروسي الذي يتسم بتقدير شخصية الزعيم، أو “الرجل الكبير” Big Man إذا جاز التعبير، وهو ما يمهد لوصول شخص قوي للسلطة، ويجعل الناس يعلقون آمالهم عليه. ومن هنا، يدعو كوتكين قادة روسيا إلى اتخاذ خطوات لدمج بلادهم في النظام العالمي القائم، وليس الانقلاب عليه، معتبرا أن النزاع الأوكراني، وانخفاض أسعار النفط، وقيمة الروبل، تشكل دروسا لبوتين، وإن استطاع، بفضل مهاراته، التعامل معها، وتخفيض حدة آثارها على نظامه.
عرض: محمود صافي/ مجلة السياسة الدولية