هل انحسر مد الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي؟

هل انحسر مد الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي؟

580

سادت، منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي مقولة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، مفادها أن الغالبية العظمى من البلدان العربية قد باتت، كليا أو جزئيا، بإزاء عملية انتقال ديمقراطي “حقيقي”، حتى وإن اختلفت سياقاتها وتباينت وتائر مساراتها.

-1-

تنبني حيثيات الدافعين بهذا الطرح على مسوغين أساسيين اثنين:

– المسوغ الأول ويتمثل، في اعتقادهم، في الترهل البنيوي المتزايد للنظم التسلطية والكليانية العربية، و”وعي” ذات النظم باستحالة الاستمرار في نهج سياسات القبضة الحديدية، التي لم تفلح لا في بناء الأوطان ولا في تحرير طاقات الإنسان.

ومع أن الحاكم المطلق لم يستسغ كثيرا المس بصولجان حكمه، وتمركز القرار حول شخصه، فإنه أبدى تسامحا وغضا في الطرف عن بعض المعارضات (في الفكر أو في التعبير)، لكن من داخل المنظومة ومن بين ظهراني النسق.

– أما المسوغ الثاني فيكمن، بنظر الدافعين بالأطروحة أعلاه، في حقيقة أنه لم يعد من الموضوعي (ولا من المعقول تقول العامة) أن تبقى البلدان العربية وحدها في منأى عن حركية الانتقالات الديمقراطية ودينامية الانفتاحات السياسية التي شهدتها جهات شبيهة بالعالم، بأوروبا الشرقية ثم بأميركا اللاتينية ثم بآسيا، ثم حتى بالعديد من دول أفريقيا جنوب الصحراء.

“إن صياغة الأطر الدستورية والمؤسساتية والسياسية هي عنصر أساس في مسلسل الانتقال الديمقراطي، لكنها تبقى قاصرة وغير كافية إذا لم تكن تنشد إفراز ثقافة سياسية يكون الارتداد عن الديمقراطية المحققة من بين ظهرانيها عملا مستحيلا”

ويذهب هؤلاء لحد القول بأن الديمقراطية أو العملية المحيلة عليها، أو المؤدية إليها، قد أضحت عملة دولية تتحكم في انتقال تيارات الاستثمار بين الدول، ومؤشرا عالميا لتصنيف هذه الأخيرة وترتيبها وقياس مدى احترامها للحريات والحقوق، الفردية منها كما الجماعية على حد سواء.

وإذا كان لنا أن نسلم بأن هذين المسوغين لا يبدوان كافيين في حد ذاتهما، لتفسير أو تبرير مسلسلات الانتقال الديمقراطي الذي عرفته هذه الدولة العربية أو تلك، بمشرق الوطن العربي كما بمغربه، فإنهما يبدوان ضروريين لتوصيف العديد من المظاهر السياسية التي ميزت الانتقال التدريجي من نظام حكم قائم إلى نظام حكم مأمول، تكون جرعة المبادئ الديمقراطية من بين ظهرانيه معتبرة بمقياس إعمال ذات المبادئ كما بالمقارنة مع ما هو سائد ومعمول به بباقي دول المعمورة.

بيد أن مقدار هذه الجرعة ووتيرة سريانها في المنظومة القائمة لا يمكن أن يتمظهر وينتج المفعول المنتظر إلا إذا اعتمل، من جهة، في بيئة جيوسياسية تضع له السياق وتؤطر له الخلفية والمرجعية، وإذا تجاوز، من جهة أخرى، البعد السياسي والمؤسساتي لعملية الانتقال الديمقراطي، وطال الأبعاد الجوهرية التي تحيل على التحولات المجتمعاتية والاقتصادية والثقافية وما سواها.

ومع أننا لا نؤمن كثيرا بأن ثمة نموذجا نظريا أو عمليا قارا في مسلسلات الانتقال الديمقراطي، تماما كعدم إيماننا بخطية التاريخ أو بالقدرة على ضبط تموجات المستقبل، فإن تجارب انتقال النظم الكليانية (عسكرية ومدنية) إلى الديمقراطية بأميركا اللاتينية كما بأفريقيا كما بآسيا، غالبا ما تقدم باعتبارها تجارب ناجحة في تكريس قيم الثقافة الديمقراطية والمواطناتية وإشراك مختلف المشارب السياسية والجمعوية والجماهيرية في اختيار الحاكم، وسن القوانين واللوائح والتشريعات للجم جنوحه نحو التسلط، أو للحيلولة دون قيامه بما من شأنه الارتداد على الخيار الديمقراطي المعتمد.

صحيح أن عملية الانتقال الديمقراطي هي عملية معقدة، عسيرة وشاقة في شقها المتعلق بوضع الأسس وترسيم الأدوار، لكنها تمتح من ذات العسر (والمشقة أيضا) عندما تراهن على استنبات وتكريس ثقافة سياسية لا تكون ممارسة السلطة بظلها مغنمة لصاحبها وحاشيته، بل تكليفا واجبا لا تسلم تبعاته من المحاسبة والمساءلة إن قصرا، ومن المتابعة والمقاضاة إن تجاوزا أو اعتديا أو حادا عن ناصية المتوافق حوله أو بشأنه.

ولذلك، فإن صياغة الأطر الدستورية والمؤسساتية والسياسية هي عنصر أساسي في مسلسل الانتقال الديمقراطي، لكنها تبقى قاصرة وغير كافية إذا لم تكن تنشد إفراز ثقافة سياسية يكون الارتداد عن الديمقراطية المحققة من بين ظهرانيها، عملا مستحيلا، اللهم إلا إذا انقلبت الأطراف بعضها على بعض، أو جنح بعضها للهيمنة على العملية بقوة النار والحديد، متدثرا في ذلك بالمذهب أو بالقبيلة أو بالعرق أو بما سواها.. وهو ما يعيد “اللعبة” إلى النقطة الصفر، نقطة الحكم الكلياني المطلق، الجامع والمانع.

-2-

لو سلمنا بما سبق من حديث، أو ببعض منه على الأقل، فإننا سنسلم أيضا بأن العديد من النظم السياسية العربية قد كانت حقا وحقيقة، منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، بإزاء مسلسلات في الانتقال الديمقراطي، برزت للناظر بهذا البلد العربي أو ذاك، على شكل تعددية حزبية ونقابية وجمعوية وإعلامية وفكرية وما سواها، بل وتمت ترجمتها من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية، شاملة أو جزئية، كان خيطها الناظم مدى نضج هذا النظام السياسي أو ذاك، وقابليته لإعادة توزيع مكامن السلطة على مختلف الفاعلين، الممارس منهم كما المتطلع للممارسة على حد سواء.

ومع أن العديد من النظم السياسية العربية قد عمدت، لمواكبة ذلك، إلى سن دساتير “متقدمة”، تحدد القواعد العامة لتداول السلطة بهذا الشكل أو ذاك، بل أعلنت انضمامها للمواثيق الدولية ومصادقتها على العديد من التشريعات العالمية الحاثة على احترام حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم، فإن الإنجازات على الأرض بقيت في الغالب الأعم دون طموح الجماهير.

ولذلك، فعندما انطلقت شرارة “الربيع العربي” وانتشرت عدواه كالنار في الهشيم، فإنما كان مدعاة ذلك الاحتجاج على نظم حكم ركبت ناصية المبادئ الديمقراطية في خطابها، لكنها أبقت على النواة التسلطية في ممارساتها وسلوكياتها، بإزاء الفاعلين السياسيين كما بإزاء باقي شرائح المجتمع سواء بسواء.

“الحاصل حقا أن مسلسلات الانتقال الديمقراطي لم يكتب لها النجاح لا مع نظم حكم ما قبل “الربيع العربي”، ولا مع حكومات “الربيع العربي” (ربما باستثناء تونس)، بل بقيت شعارات تتداولها الألسن وتروج لها الأدبيات دون ترجمة عملية على الأرض”

والشاهد على ذلك أن تونس بن علي ومصر مبارك ويمن عبد الله صالح (دع عنك المغرب والأردن) لم تحجر على الأحزاب السياسية، ولا عمدت إلى مصادرة الرأي الآخر المخالف، بل اتخذت منها مجتمعة أدوات لتزيين واجهة النظام، لتأثيث المشهد السياسي العام، ولإخفاء ملامح وجه تضمر تجاعيده قدرة هائلة على إعادة إنتاج التسلط وتعميق تمركز الثروة المادية واللامادية من بين ظهراني الحاشية ومنتسبي “الحزب/القائد”.

لم يكن خطاب النظم إياها حول الانتقال الديمقراطي خطابا صادقا، ولا كانت المسالك المؤدية إليه سليمة، بل كان خطابا مغشوشا، مخادعا، متحايلا، براغماتي المنطوق فيما هو دوغمائي المرجعية.

ولهذا السبب، فعندما نزلت الجماهير بالساحات العمومية وبالميادين أواخر العام 2010، بتونس ثم بمصر ثم باليمن (وإلى حد ما بليبيا)، فهي لم ترفع شعار إصلاح النظام (حتى وإن رفعت ذات الشعار بالمغرب وبالأردن وبالبحرين)، بل طالبت بتغييره بالجملة والتفصيل وإسقاط الجالس على أعلى هرمه.

بيد أن إزاحة الحاكم بتونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها لم يؤد تلقائيا إلى ضمان انتقال تدريجي نحو الديمقراطية، بل أدى إلى إفراز نخب “جديدة” لم تستطع تدبير المرحلة الانتقالية، ولا ترسيم “قواعد لعب” جديدة، بل أعادت إنتاج الاحتقان القائم وأججت من نار الاصطفافات، وفسحت في المجال واسعا أمام الانتكاس والارتداد على المأمول إنجازه.

ورغم أن حكومات “الربيع العربي” قد وصلت للسلطة بآليات ديمقراطية سليمة (حالتي تونس ومصر) أو بتوافقات إقليمية، أو فيما بين الفاعلين على الأرض لتجنب الفوضى والاحتراب (حالتي ليبيا واليمن)، فإن الحكومات إياها لم تتمثل جيدا دينامية الواقع الذي تفعل فيه أو تراهن على تغييره، فكان في ذلك مقتلها المحتم:

– فهي قد اتكأت على “نخب” ضعيفة وغير متمرسة، ادعت أنه بمقدورها الحكم وحدها، ما دامت الآلية الديمقراطية دعامتها الخلفية، ومن ثمة قدرتها على ترجمة “برنامجها” دونما اعتبار للآخرين، مؤسسات أكانوا أم أفرادا وجماعات، فبدت بسلوكها هذا كمن يتغيأ حقا الانقلاب على العملية الديمقراطية في الشكل كما في الجوهر.

– ثم هي هونت من وزن الدولة العميقة، ولم تدرك بالقدر الكافي أنه من شأن هذه الأخيرة أن تخل بالموازين، وتضرب بالديمقراطية عرض الحائط إن هي اصطدمت بمصالحها أو استهدفت البنى المادية والرمزية التي تقوم عليها ذات الموازين والمصالح.

قد يكون الأمر مجرد سوء تقدير، ولا سيما من لدن جماعة الإخوان بمصر وإلى حد ما حركة النهضة بتونس (ومن لدن مناهضي نظام عبد الله صالح أيضا)، لكنه سوء تقدير قاتل، إذ تم الانقلاب عليهم جميعا بنفس الآليات (الآليات الديمقراطية) التي حملتهم لسدة الحكم بالبدايات الأولى “للربيع العربي”.

-3-

وعليه، فلو سلم المرء جدلا بأن انتكاسات “الربيع العربي” هي في جزء كبير منها، نتاج سوء تقدير ومن ثم سوء تدبير الحكومات المترتبة عنه، فإنه سيسلم بالآن ذاته، بأن ذات الحكومات قد اختزلت الانتقال الديمقراطي في تغيير رأس النظام، ولم تدرك بأن ضمان الانتقال إياه يستوجب بالضرورة إذا لم يكن تغيير المنظومة، فعلى الأقل مهادنتها (ولو إلى حين) من خلال إشراكها في تدبير المرحلة الانتقالية، الممهدة نظريا لبلوغ الثقافة السياسية المتحدث فيها من قبل.

“كيف يستقيم الحديث عن الديمقراطية أو عن الانتقال الديمقراطي في ظرفية بات المواطن العربي في ظلها لا يبحث عن الخبز أو الحرية، بل عن حقه وحق أولاده في الحياة ليس إلا؟ أليس من الأولى درء “مفاسد” الحرية والحكم الصالح، لضمان “مصلحة” الحق في البقاء”

ولذلك، فإن الحاصل حقا أن مسلسلات الانتقال الديمقراطي لم يكتب لها النجاح لا مع نظم حكم ما قبل “الربيع العربي”، ولا مع حكومات “الربيع العربي” (باستثناء لربما تونس)، بل بقيت شعارات تتداولها الألسن وتروج لها الأدبيات دون ترجمة عملية على الأرض.

بقي أن نتساءل: هل لا يزال لشعار الانتقال الديمقراطي ذاك البريق الخطابي الذي لازمه لأكثر من عقدين من الزمن، أم أنه لم يعد كذلك في ظل واقع بلدان أصبحت هشيما للفوضى المعممة (اليمن وليبيا وسوريا) أو للاحتقان المبطن (تونس والبحرين) أو للديكتاتورية المغلفة بالوطنية أو المرتكزة على أطروحة “الأمن القومي” كما الحال بمصر؟

قد نسلم هنا، في محاولة للإجابة على التساؤل أعلاه، بأن ظاهرة “الربيع العربي” قد أفرزت وقائع على الأرض مختلفة ومتباينة بين هذا البلد العربي وذاك، مما يحول حتما دون مقارنتها، فما بالك بوضعها في “سلة واحدة” كما يقال. وقد نسلم أيضا بأن مرحلة “الربيع العربي” وما بعده هي في حد ذاتها مرحلة انتقالية لا يجوز الارتكان إليها في التحليل، بحكم اضطراب مجالها وتدافع مكوناتها. إنها تعبير عن مغص ومخاض ووجع ولادة متعسرة، لكنها مؤكدة العبور.

كل ذلك وارد وجائز ومسوغ، لكن الذي لا يمكن للعين أن تزيغ عنه إنما حقيقة أن مسلسلات الانتقال الديمقراطي لم تفرز مآلات يعتد بها، قبل “الربيع العربي” كما بعده، بقدر ما أفرزت فوضى شاملة باتت الشعوب بظلها غير آبهة بما هي الديمقراطية، أو الانتقال الديمقراطي، بقدر ما باتت تبحث عن بعض من الأمن والأمان، يقيها شر واقع أضحى الكل بظله يتحالف مع الكل لقتل الكل.

كيف يستقيم الحديث عن الديمقراطية أو عن الانتقال الديمقراطي في ظرفية بات المواطن العربي في ظلها لا يبحث عن الخبز أو الحرية، بل عن حقه وحق أولاده في الحياة ليس إلا؟ أليس من الأولى درء “مفاسد” الحرية والحكم الصالح، لضمان “مصلحة” الحق في البقاء.. مجرد البقاء؟

 يحيى اليحياوي

المصدر: الجزيرة