الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أعلن في التوقيت الخطأ فكرة تشكيل جيش أوروبي يحمي أوروبا من روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، ويقلل الاعتماد على الأخيرة في حفظ الأمن في أوروبا. والتوقيت كان غير سليم لأنه كان على الرئيس الفرنسي لقاء رؤساء الدول المعنية في اليوم التالي في حفل إحياء ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى، فاضطر بدبلوماسية إلى تصحيح ما صرح به لصالح إذاعة «أوروبا» قبل أيام قليلة.
الفكرة في حد ذاتها ليست جديدة، حتى من جهة ماكرون نفسه الذي عرضها قبل عامين، وقبله اقترحها شارل ديغول، وقبله كان حلم نابليون في الهيمنة على أوروبا… فما مخاوف الأوروبيين الحقيقية التي تدفعهم إلى تأسيس جيش قارّي؟ وهل اختلفت من ديغول إلى ماكرون؟
بعد الحرب العالمية الثانية شعر الجنرال ديغول بأن نشوة الانتصار تتيح له مقعداً مع الدول الأربع التي تحكم العالم، وأن هزيمة ألمانيا النازية هي إعلان لبروز الدولة الأقوى في أوروبا وهي فرنسا التي كانت تنوي أن تكون نواة تشكيل هذا الجيش، ليس دفاعاً عن القارة بقدر ما هي آلية ترمز إلى قوة عسكرية موحدة تتماهى مع قوة الاتحاد الأوروبي الجديد، خصوصاً أن بريطانيا كانت ولا تزال ضد تشكيل هذا الاتحاد العسكري الأوروبي مع وجود حلف الناتو الذي يضم الولايات المتحدة الأميركية. ماكرون أعاد السيناريو نفسه مع اختلاف في بعض الظروف، أهمها أن أوروبا تعرضت لضربتين أوجعت كلٌّ منهما رأس القارة العجوز؛ الأولى الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ولم توضح بريطانيا حتى اليوم الآلية الإجرائية لخطتها الانسحابية، مما سيؤثر على السوق الأوروبية، كأن بريطانيا تردّ الصفعة لفرنسا التي رفضت دخول بريطانيا للاتحاد الأوروبي حتى عام 1973. الضربة الثانية هي العقوبات الأميركية التي تفرضها الولايات المتحدة على بعض الدول لأسباب سياسية وتدفع أوروبا ثمنها بطريق غير مباشر. الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، على سبيل المثال، تسبب في حرج للحكومات الأوروبية مع قطاعها الخاص الذي كان قد أبرم عقوداً مع الإيرانيين فور توقيع الاتفاقية. واشنطن اليوم تتوعد الشركات، أياً كانت، التي تواصل العمل مع الإيرانيين، فظهرت الحكومات الأوروبية عاجزة عن تعويض شركاتها وعاجزة أيضاً أمام إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب على قراره. هذا من الناحية الاقتصادية، أما سياسياً وعسكرياً فالجيش الفرنسي الذي يعد خامس أقوى جيش في العالم هو الأقوى أوروبياً، فألمانيا رغم تفوقها الاقتصادي وصناعاتها العسكرية لا تزال شبه محتلة من نحو 40 ألف جندي أميركي في عشرات القواعد العسكرية، ولا تزال أمنياً غير مستعدة لخروج الأميركيين الذين يقدّمون لها الحماية من جهة دول شرق الناتو.
الرئيس الفرنسي ماكرون حدّد الدول التي يُخشى على أوروبا منها؛ الصين وروسيا والولايات المتحدة. بالنسبة إلى الروس كان الرئيس فلاديمير بوتين متناغماً مع فكرة الجيش الأوروبي، فهو في النهاية يتمنى أن تؤدي الفكرة إلى تفكيك حلف الناتو الذي تأسس حينها للدفاع عن أعضائه ضد الاتحاد السوفياتي، وفي نظره أن حلفاً عسكرياً بلا أميركا هو في صالحه على كل حال، ودلالة على ذلك أن ثورة الانفصاليين في إقليم القرم في أوكرانيا التي دعمتها روسيا، قد أوجبت عقوبات أميركية أقسى من الأوروبية على موسكو.
في رأيي أن ماكرون اقترح فكرة إنشاء الجيش الأوروبي لمواجهة خطر تفاقم الهيمنة الأميركية على أوروبا، وشعور الأوروبيين بأن الولايات المتحدة تضطرهم إلى اتخاذ الطريق الذي ترسمه وفق سياساتها، حتى إن الألمان رغم الوجود العسكري الأميركي الكبير على أراضيها تحاول أن تضم دولاً أوروبية صغيرة مثل التشيك ورومانيا إلى تكتل عسكري ينطلق منه حلف عسكري أوروبي – أوروبي. وهنا يجدر ذكر أن فكرة الجيش الأوروبي أساساً ليست محل توافق من كل الدول الأوروبية التي ترى في «الناتو» مكوناً عسكرياً كافياً لصد أي مخاطر.
مشكلة أوروبا الحديثة ليست مع الرئيس ترمب، أو الصين أو روسيا؛ مشكلتها الأساسية أنها أقصت نفسها عن القضايا الرئيسية في العالم وتريد في الوقت نفسه أن تكون لها يد عليا، بحكم تاريخها، في القرارات التي تمس هذه القضايا، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب والجماعات والدول التي تدعمه. العالم اليوم منكشف بعضه على بعض، لم يعد مقبولاً ولا مفهوماً كيف لدول كبرى في أوروبا الدفاع عن علاقاتها مع دول وجماعات تدعم الإرهاب مع أنها من أكثر الدول المتضررة، خصوصاً فرنسا.
كل ما قامت به إدارة ترمب أنها عادت إلى مطبخ الأحداث؛ العلاقات مع كوريا الشمالية، المنافسة على الساحة السورية، تحجيم النشاط الإيراني المهدد للسلم العالمي، في حين هربت أوروبا من ليبيا في وقت حساس بعد الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، ومواقفها مائعة من «حزب الله» اللبناني وجماعة الحوثي وراعيتهما إيران.
الخلاصة، أن أوروبا بلا «ناتو» قوي مدعوم منها ومن الولايات المتحدة تعد ثغرة لأعدائها الحقيقيين، وفكرة جيش أوروبي في أوروبا غير متوافقة، هو فشل آخر يضاف إلى فشلها السياسي في ملفات رئيسية.
أمل هزاني