إحدى الروايات التي ظلت تتكرر حول تفسير تراجع الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة السورية، أن الإسلاميين «شوهوا صورة» المعارضة الثورية، وبغض النظر عن ارتباك منطلقات هذه المقولات التي تفترض إسباغ صورة ما غير إسلامية، على ثورة انطلق أغلبها من مناطق ريفية محافظة دينيا، كما لوّن معظم حراكها الذي خرج من الجوامع، والمرتبط بوقائع تاريخية، تقول إن المعارضة الأشد تصادما مع نظام حافظ الأسد، كانت الحركة الإسلامية المحظورة، الإخوان المسلمين وابناءهم المنشقين في الطليعة المقاتلة.
بعيدا عن كل هذا، فإن الجهابذة الذين سنوا قاعدة أن حركة ثورية سورية لا يمكن أن تنتصر إلا بدعم أمريكي، والإصرار على الـ»تجمل» للقوى الغربية وبتبني خطاب يتناغم معها، كلها طروحات صدرت من طارئين على فهم سياق النزاع الأهلي في سوريا (هذا إن أقروا بأنه أهلي). والأخطر أنها مفاهيم لا تمتلك تقديرا سياسيا رصينا يدرك توازنات القوى المحلية والإقليمية المؤثرة في سوريا والمنطقة، وأسهبت في الاعتماد على قدرة واشنطن الـ»فعالة لما تريد»، بل وجوب تدخلها في النزاع السوري وجعله من ضمن أولويات أمنها القومي، وكأن سوريا ولاية من الولايات المتحدة الامريكية.
بعيدا عن كل هذه التناقضات المركبة في طرح تخلي أمريكا عن الفصائل في معركتها مع الاسد، بسبب الإسلاميين، ورغم أن الأمريكيين لم يتخلوا حقيقة عن دعم الفصائل والمعارضة، إلا بعد نحو أربع سنوات كاملة، لم تتمكن فيها المعارضة المسلحة من تحقيق تقدم عسكري ذي قيمة استراتيجية، إذ اقتصرت سيطرتها على مساحات ريفية دون مراكز المحافظات والمدن الكبرى، وخسرت مركز المحافظة الوحيد الذي سيطرت عليه في ذلك الوقت وهو مدينة حمص، كل ذلك حصل في غضون الأربع سنوات الاولى، أي قبل التدخل الروسي لصالح النظام.
وحتى نعود لصلب الموضوع، وهو تأثير الصعود الجهادي على تراجع الدعم الغربي بعد أربع سنوات، فإن المشهد الميداني يظهر أن تنظيم «الدولة الإسلامية» وشقيقه المنشق «النصرة» وحلفاءه الجهاديين، ظلت سيطرتهم محصورة في جيوب معينة بعيدة عن تمركز الفصائل الثورية المدعومة دوليا، في غوطة دمشق والمعضمية وداريا والقصير وعشرات المناطق في ريف دمشق ومعظم درعا وحمص ومدينة حلب الشرقية، ومعظم ريف حلب الشمالي والغربي، أي أن الساحات الرئيسية هذه ظلت تحت إدارة الفصائل التي تلقت دعما غربيا وإقليميا دوليا، وبالتالي سعوديا وقطريا وتركيا، سواء من تشكيلات الجيش الحر أو الفصائل الإسلامية المعادية لتنظيمي الدولة والنصرة، والمرتبطة بالداعم الخليجي الحكومي، كجيش الإسلام وأحرار الشام وصقور الشام والتوحيد، ولم يكن هناك أي تشابك كبير داخليا في مناطقهم مع مناطق تنظيم الدولة، الذي انعزل في شرق سوريا، خصوصا بعد الحملة الكبيرة التي شنت بقيادة تلك الفصائل المدعومة إقليميا عليه، وأبرزها فصيل جمال معروف نهاية عام 2013، حيث طرد التنظيم لشرق سوريا.
ومن ينظر لحال هذه الفصائل داخل كانتوناتها المستقلة يدرك ربما لماذا لم يمكن للأمريكيين تحقيق تقدم عسكري مع جماعات متنازعة كهذه، فكيف يمكن لجيش الإسلام وفيلق الرحمن، أن يحكما دمشق وهما غير قادرين على إدارة نزاعهما في حي واحد كالغوطة الشرقية؟ والمتابع الآن، لما تفعله الفصائل في عفرين ومناطق درع الفرات، يتضح له أنه رغم الدعم التركي لهم إلا أن حالة الفساد والسرقات والتفلت تطغى على أي مشروع سياسي لديهم، فالاشتباكات داخل عفرين بين فصيلين مدعومين من تركيا استمرت لأيام بسبب نزاع حول مسروقات! فكيف يمكن أن يثق أي داعم بقدرة جماعات كهذه على ملء فراغ الأسد في دمشق؟ هذا الهاجس ذكره عدة مرات أعضاء في غرف الموك والموم الغربية للفصائل، «إذا سقط الأسد فهل ستتفقون على قيادة مكانه؟ أم ستقتتلون؟». حتى الجيش الحر ظل تسمية فضفاضة لا تعني وجود جيش، أو كيان يتبع هيكلية محددة، بل هو فصائل محلية مستقلة القيادة العسكرية. ويجدر بالذكر هنا أن قائد الجيش الحر سليم إدريس كان قد امتدح جبهة النصرة لأكثر من مرة، وهذا يدل على وجود خطاب متخبط، ورغم ذلك كان يمكن للدول الداعمة مساندة فصائلها في ريف دمشق وداريا وحمص وتلبيسة والرستن وحلب الشرقية وحمص المدينة والقصير ضد الأسد، بدون اي تداخل أو تأثير على الحرب على تنظيم الدولة في الرقة.
الفصائل المعارضة في سوريا رغم أنها تمثل اغلبية لكنها مبعثرة ومدعومة من دول عربية مشتتة أيضا
وهكذا فعلت أمريكا مع الأكراد فقد حمتهم من الأسد ومكنتهم من إقامة كيانهم الكردي بعيدا عن سلطة الأسد، ولم يؤثر ذلك على حربهم ضد تنظيم الدولة، بينما استخدم الامريكيون فصائل المعارضة الثورية للقتال ضد تنظيم الدولة بدون دعمهم بحربهم ضد الأسد، فقاتل جيش الثوار مع الأكراد والأمريكيين ضد تنظيم الدولة في مناطق قسد، وقاتلت فصائل البنتاغون مع الأمريكيين في قاعدة التنف، وقاتلت فصائل ثورية من أحرار الشرقية والحمزة وبقايا لواء التوحيد وفرق من الجيش الحر كلواء أحرار سوريا وكتائب شهداء سوريا، الممولين من السعودية، قاتلوا تنظيم الدولة في عملية درع الفرات وغصن الزيتون، بدون أن يحصلوا على أي دعم لقضيتهم الرئيسية ضد الأسد، أي أنهم تلقوا دعما أمريكيا، لكن ضمن الرؤية الامريكية، بينما حصل الأكراد على الأقل على دعم لمشروعهم القومي، قبل أن يتركهم الأمريكيون مجددا، ليس لأن هناك من «شوه صورتهم» كأكراد، بل لأن توازنات القوة المائلة في سوريا لصالح خصوم الامريكيين، لم تبق لهم فرصة مريحة للتواجد، في حين أن حليفي واشنطن، الأكراد والأتراك، متنازعان أيضا.
ومن قال إن الامريكيين لا يدعمون المختلفين معهم ايديولوجيا إذا تقاطعت مصالحهم؟ ألم تدعم واشنطن المجاهدين الأفغان ضد موسكو، أليست الرياض الحليف الأهم لواشنطن، رغم انها تقطع الرؤوس والأيدي وتلاحق أزياء النساء بطريقة وأحكام «داعشية» منذ نصف قرن؟ لماذا لم يعبأ الأمريكيون بصورة الرياض الإسلامية؟ ولماذا لم يشوه الجهاديون صورة الأفغان ولم توقف واشنطن دعمها لهم؟ ولماذا دعمت واشنطن الاكراد اليساريين المعادين للامبريالة العالمية في سوريا؟ ولماذا تدعم موسكو عمائم خامنئي وحزب الله في سوريا؟ كل هذه الأسئلة برسم الحائرين عن إيجاد إجابات لفشلهم في الإدارة السياسية والعسكرية للمعارضة ضد الأسد.
ما حصل بالنهاية أن جهاديي إيران وحزب الله اللبناني وميليشيات العراق من الاسلاميين الشيعة، حافظوا على خطابهم الإسلاموي وانتصروا في سوريا، ولم يخشوا أبدا من «تشويه صورتهم» أمام أحد، ولا أمام موسكو حليفتهم، التي جاءت كحليف دولي مرتكز على حلف إقليمي متماسك، بعد بنائه من نواة تمثل الأسد ونظامه، ثم إيران وميليشيات حزب الله والقوى الشيعية العابرة، ومن ثم يأتي اللاعب الدولي، وليس العكس الذي تمثل بذهنية المعارضة بجلب داعم دولي امريكي قوي لقوى محلية متنافرة مشتتة، ودول إقليمية لم تعتد خوض حروب أصلا.
لم يخش التحالف الإيراني والأسد من أن يتسبب الإسلامويون في (تشويه صورتهم) ولا أن تتسبب مشاركة دولة راعية للارهاب كإيران وميليشياتها لدعم دمشق، فالايرانييون يدركون أن تحصين عوامل القوة الداخلية أهم من الاستنجاد بقوة دولية، فتم بناء حلف شيعي ايراني عراقي لبناني، علوي سوري، استطاع التعامل مع النزاع الأهلي بالطريقة التي تؤمن له حشد انصاره باللغة، التي وإن لم تكن تعجبنا وتعجب العالم المتحضر، إلا أنها اللغة القادرة على التعامل مع نزاع كهذا في منطقة مأزومة من العالم، وهي بالمناسبة اللغة التي اضطر الامريكيون للتعامل بها في العراق، عندما كان للحاكم الامريكي بريمر مبعوثا خاصا مع السيستاني وبنى سياسة الإدارة الامريكية على حقيقة كسب القوى الشيعية الدينية المؤثرة والكردية القومية، بينما ظل السنة في العراق وسوريا تائهين بين مثاليات وطنية وشعارات ليبرالية غربية، جميلة لكنها لا تنجب في نزاعات متوحشة كهذه.
شعارات تخلى الامريكيون انفسهم عنها بدعمهم لميليشيات الحشد الشيعية الاسلاموية في العراق، والقوى الكردية اليسارية القومية، للتعامل بواقعية مع النزاع الأهلي، بينما تركوا للعرب السنة ترديد شعاراتهم.
هذا التحالف الايراني، ضيق الفراغات على الفصائل المعارضة في سوريا رغم انها تمثل اغلبية لكن مبعثرة، مدعومة من حلقة ثانية من دول عربية ايضا مشتتة، وهكذا وبعد أن ضاقت على الامريكيين ساحة العراق بسبب الوجود الشيعي الإيراني واجه الامريكيون المشكلة نفسها في سوريا بوجود حلفاء، إما ضعفاء متنافرين كالمعارضة السورية، وإما متصارعين كما الكرد وتركيا، وكذلك دول داعمة للمعارضة كتركيا وقطر والسعودية أشد تنافرا، فبقي حلف طهران منسجما وحيدا قادرا على التماسك في ساحة «الرمال والموت» كما وصفها ترامب.