محمد نجيب.. مأساة رئيس منسي تلخّص حلما مصريا موؤودا

محمد نجيب.. مأساة رئيس منسي تلخّص حلما مصريا موؤودا

“كنت رئيسا لمصر”، لم يكن هذا مجرد عنوان لمذكرات شخصية، بقدر ما كان صرخة تذكير بالحقيقة التي كادت أن تغيب في دهاليز السياسة، وكأن الرجل يصرخ “أنا أيضا رئيس لجمهورية مصر العربية”، إنها صرخة اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية بشكلها الحديث.

محمد نجيب الذي يمكن وصفه بالرئيس المنسي، تحكي قصة مأساته الحلم المصري في الحرية والحياة السياسية الديمقراطية، والتي انتهت فصولها قبل أن تبدأ، وللمفارقة انتهت مع نهاية نجيب سياسيا.

في منطقة “ساقية معلا” بالخرطوم، ولد نجيب يوم 19 فبراير/شباط 1901، بحسب السجلات العسكرية، لكنه ينقل في مذكراته أنه حائر بين ثلاثة تواريخ بسبب عدم الاهتمام بتسجيل المواليد في تلك المدة، وهي تواريخ: 28 يونيو/حزيران 1899، و19 فبراير/شباط 1901، و7 يوليو/تموز 1902.

نجيب سليل أسرة عسكرية، فوالده يوسف نجيب كان ضابطا بالجيش المصري في السودان، وشارك في حملة دنقلة الكبرى ضد الثورة المهدية، كما شارك في أغلب معاركها، وهناك في السودان عاش نجيب إلى أن أتم دراسته الثانوية ثم عاد إلى مصر ودخل المدرسة الحربية عام 1917.

“في السودان ولدت وتفتحت عيناي وعشت سنوات طفولتي وصباي، كان بيتنا بالقرب من الجامع العتيق في الخرطوم، كان منزلا متواضعا مكونا من أربع حجرات، وأصبح فيما بعد ناديا للموظفين المصريين”، هكذا يصف نجيب ذكرياته في السودان التي عاد إليها مرة أخرى ليبدأ حياته العملية ضابطا بالجيش المصري على غرار والده.

عاد نجيب إلى مصر عام 1924 ليواصل شغفه العلمي بجانب عمله العسكري، حيث حصل على إجازة الحقوق في مايو/أيار 1927، ثم دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1929، ثم على دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، ونال بعدها شهادة أركان حرب عام 1939.

استقال من الجيش عقب حادث 4 فبراير/شباط 1942 عندما حاصرت الدبابات البريطانية قصر الملك لإجباره على إعادة مصطفى النحاس باشا إلى رئاسة الوزراء، وهو ما اعتبره نجيب تدخلا سافرا في شؤون مصر الداخلية، لكن الملك رفض الاستقالة. وفي عام 1948 شارك في حرب فلسطين، وتعرض للإصابة مرات عدة.

الضباط الأحرار
في فلسطين كان عبد الحكيم عامر يعمل مساعدا لنجيب في الوحدة العسكرية التي يرأسها الأخير، ومن هنا نشأت صلته بتنظيم الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، والذي نجح في الاستيلاء على السلطة في 23 يوليو/تموز 1952.

كان تنظيم الضباط الأحرار يتكون من ضباط صغار السن والرتب العسكرية، والذين يبحثون عن قائد كبير يمثل مصداقية عند عموم الجيش، ويمكن تقديمه للشعب المصري، وكان نجيب هو الاختيار الأمثل، خاصة إثر صدامه مع الملك فاروق بعد حريق القاهرة في يناير/كانون الثاني 1952، وقيام الملك بترقية اللواء حسين سري عامر مديرا لسلاح الحدود بدلا منه.

وكان الاختبار الأول لشعبية عامر في انتخابات نادي الضباط حيث تحدى إرادة الملك وفاز بالانتخابات، ثم تحدى الملك مرة أخرى برفض تعيين حسين سري في مجلس إدارة النادي، مما دفع الملك إلى حل مجلس الإدارة ووقف المخصصات المالية للنادي، والانتباه إلى وجود حركة معارضة داخل الجيش، هذا الانتباه دفع نجيب إلى مطالبة الضباط الأحرار بتعجيل التحرك والإطاحة بالملك.

كانت اللحظة الحاسمة عندما اتصل به شقيقه اللواء علي نجيب قائد حامية القاهرة ليخطره بوجود مؤتمر لرئاسة الأركان في مقر القيادة، وهنا كانت لحظة الانتصار، حيث حاصر “البكباشي” (المقدم) يوسف صديق مقر الاجتماع واعتقل قادة الجيش، وفي الوقت نفسه تحرك الضباط الأحرار للسيطرة على المقار الحكومية وإعلان البيان الأول بلسان البكباشي أنور السادات، لكن باسم اللواء محمد نجيب.

أول رئيس للجمهورية
في 18 يوليو/تموز 1953 أعلن نجيب سقوط الملكية وقيام جمهورية مصر العربية برئاسته، مع احتفاظه برئاسة مجلس قيادة الثورة، وحظي نجيب بشعبية واسعة بين المصريين، خاصة مع تأكيده الدائم أن الجيش لن يحكم وأن الديمقراطية هي الحل الأمثل لنهضة مصر والمصريين، ويبدو أن هذا التأكيد المتواصل كان بداية الأزمة مع عدد من الضباط الأحرار الذين كان لهم رأي آخر.

في سبتمبر/أيلول 1952 أصبح نجيب رئيسا للوزراء مع الاحتفاظ بوزارة الحربية، وتبع ذلك قرارات سياسية عدة مثل إلغاء دستور 1923، وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد، وحل الأحزاب السياسية، وإصدار إعلان دستوري مؤقت استمر لثلاث سنوات لاحقة.

مأساة نجيب مأساة مصر
يبدو أن الضباط الشباب كانوا يرون في نجيب مجرد واجهة لحركتهم، وأنهم أصحاب التنظيم وإليهم يرجع الفضل في إسقاط الملكية وقيام الجمهورية، وعلى هذا الأساس كانت العديد من قرارات مجلس قيادة الثورة تصدر رغم معارضة نجيب الذي لم يسانده إلا عضو واحد هو خالد محيي الدين.

عندما نفد صبر نجيب استقال يوم 22 فبراير/شباط 1954، ليقبلها الضباط الأحرار على الفور، إلا أن المظاهرات الشعبية المؤيدة لنجيب أجبرت الضباط على إعادته مرة أخرى يوم 27 فبراير/شباط والإعلان عن إجراءات لتنظيم العمل السياسي الديمقراطي في مارس/آذار من العام نفسه، والاستعداد لحل مجلس قيادة الثورة، وبدا للجميع أن مصر تخطو أولى خطواتها نحو الحرية.

بيد أنه في 29 مارس/آذار تم العدول عن القرارات الديمقراطية، وقرر مجلس الثورة يوم 17 أبريل/نيسان أن يكتفي اللواء محمد نجيب بمنصب رئيس الجمهورية فقط، وأن يتولي عبد الناصر رئاسة الوزراء، ليكون نجيب رئيسا فخريا دون صلاحيات حقيقة، وتكون هذه أولى خطوات نهايته السياسية.

هذه النهاية التي كتب فصلها الأخير بعد الإعلان عن محاولة اغتيال عبد الناصر يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1954، واتهام جماعة الإخوان المسلمين بتدبير الحادث، واتهام نجيب بالتعاطف مع الجماعة، ليقرر مجلس قيادة الثورة يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 إقالة نجيب وتحديد إقامته، والإبقاء على منصب الرئاسة شاغرا حتى “تحقق الثورة أهدافها”، ليصبح بعدها عبد الناصر رئيسا، وتطوى صفحة نجيب إلى الأبد، وتطوى معها محاولة فتح صفحة للديمقراطية في مصر.

“في ذلك اليوم قال لي عبد الحكيم عامر إن إقامتك في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام، تعود بعدها إلى بيتك. ولكن من يوم دخلت هذه الفيلا وحتى أكتوبر/تشرين الأول 1983 لم أتركها، حوالي 29 سنة، إنه الزمن يجبر الإنسان على الألفة والتعايش مع ما يحب وما يكره، ومع ما يريده، حتى مع السجن والمعتقل، وقد كان بيننا أنا وتلك الفيلا المهجورة ألفة وعشرة وارتباط، وكان بيننا أيضا إحساس مشترك بفقدان الحرية”، هكذا يختصر نجيب في مذكراته رحلته من الحرية إلى السجن، وربما كان يختصر أيضا رحلة مصر إلى المصير نفسه.

لم يقتصر التنكيل على نجيب فقط، بل انتقل إلى أولاده، حيث قتل نجله علي في ألمانيا، واتهمت العائلة عبد الناصر بقتله عن عمر يناهز 29 عاما، ولم يسمح لنجيب بحضور الجنازة أو تقبل العزاء، كما تم اعتقال نجله الأكبر فاروق. أما نجله يوسف فقد أصدر عبد الناصر قرارا بفصله من عمله من الحكومة، ليصبح بعدها سائقا في شركة المقاولون العرب بالإسكندرية صباحا، وسائق سيارة أجرة مساء، وذلك بحسب ما ذكره محمد نجل يوسف في تصريحات صحفية.

“قال لي السادات: أنت حر طليق، لم أصدق نفسي هل أستطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة؟ هل أستطيع أن أتكلم في الهاتف بلا تنصت؟ هل أستطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب؟ لم أصدق ذلك بسهولة، فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود على سجنه، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلى حريته”، هكذا وصف نجيب في مذكراته مشاعره عندما قرر الرئيس السادات إطلاق سراحه عام 1971.

كنت رئيسا لمصر
المأساة الكبرى في قصة نجيب تمثلت في شطب اسمه من الوثائق وكافة السجلات والكتب، ومنع ظهوره أو ظهور اسمه تماما طوال ثلاثين عاما حتى اعتقد الكثير من المصريين أنه قد توفي.

وكان يذكر في الوثائق والكتب أن عبد الناصر هو “أول رئيس لمصر”، واستمر هذا الأمر حتى أواخر الثمانينيات عندما عاد اسمه للظهور بعد وفاته وأعيدت الأوسمة لأسرته، وأطلق اسمه على بعض المنشآت والشوارع، ومنها محطة مترو وسط القاهرة، وفي عام 2013 منحت عائلته “قلادة النيل العظمى”.

كما أطلقت مكتبة الإسكندرية في يوليو/تموز 2013 أول موقع إلكتروني رسمي باسم “نجيب” ضم صورا وخطبا نادرة له وعرضا لتاريخه. وفي 22 يوليو/تموز 2017 أعاد الجيش المصري افتتاح قاعدة عسكرية في مدينة الحمام شمالي البلاد وأطلق عليها اسم “محمد نجيب”.

وخلال افتتاح القاعدة، عرضت هيئة الشؤون المعنوية بالجيش فيلما تسجيليا مدته نحو أربع دقائق عن حياته، وبثه التلفزيون الحكومي، كما ضمت القاعدة العسكرية أيضا متحفا يحمل مقتنيات وصورا وتفاصيل من حياة محمد نجيب.

لكن تبقى مذكرات نجيب “كنت رئيسا لمصر” الشاهد الأبرز على مرحلة التحول التاريخي لمصر، حيث ضمت المذكرات شهادته على هذه الأحداث وآراءه الصادمة في الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر تحديدا.

من أهم مقولات نجيب التي يتداولها المصريون حاليا هي وصفه لتدخل الجيش في السياسة حينما قال في مذكراته “إن الإخوان لم يدركوا حقيقة أولية هي إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتما سيطيح بكل القوى السياسية والمدنية، ليصبح هو القوة الوحيدة في البلد، وأنه لا يفرق في هذه الحالة بين وفدي وسعدي، ولا بين إخواني وشيوعي، وأن كل قوة سياسية عليها أن تلعب دورها مع القيادة العسكرية ثم يقضى عليها، لكن لا الإخوان عرفوا هذا الدرس ولا غيرهم استوعبه، ودفع الجميع الثمن”.

توفي اللواء محمد نجيب يوم 28 أغسطس/آب 1984 عن عمر يناهز 84 عاما بعد صراع مع المرض دام أكثر من 4 سنوات، وأمر الرئيس المخلوع حسني مبارك بتشيع جنازته عسكريا من مسجد رابعة العدوية بالقاهرة.