على مدار أكثر من ساعتين من مساء أمس الجمعة الموافق 22 من (فبراير/شباط)، كان على السودانيين أن يحبسوا أنفاسهم بترقب وقلق بديهي أمام شاشات التلفاز -بعد يوم واحد من فعاليات تظاهرية أطلق عليها المحتجون “موكب الرحيل”- بينما ينتظرون خطابًا قادمًا تم الإعلان عن موعده قبل ساعات للرئيس السوداني عمر البشير، وقد كان لذلك الترقب والتوجس ما يبرره حقًا، خاصة بعد تسببت خلاصات صحفية غامضة، نسبت إلى مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني “صلاح قوش”، في فتح أبواب جديدة من التكهنات حول مصير النظام القابع في السلطة منذ أكثر من 30 عاما، إثر أكثر من شهرين من الاحتجاجات المتواصلة وواسعة النطاق المطالبة برحيل النظام وفي مقدمته البشير نفسه.
ووفقا للتصريحات(1) التي تداولتها وسائل الإعلام والمنسوبة لـ “قوش” قبيل الخطاب المنتظر، كان من المقرر أن يعلن البشير حزمة من القرارات الجوهرية في مقدمتها حل حكومة الوفاق الوطني المركزية وحكومات الولايات، وتعيين حكومة كفاءات بديلة لإدارة البلاد، وإعلان حالة الطوارئ لمدة عام، والأهم من ذلك -وهو ما أثار الانتباه- كانت التكهنات بأن البشير سيتخلى عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وسيدعو لوقف التعديلات الدستورية التي تهدف لرفع القيود على مدد الرئاسة، مع تعهد بعدم الترشح لانتخابات 2020، في مسار يختلف بالكلية عن كل ما خطط البشير ورجاله له منذ أواخر عام 2017.
لكن ما تفتق عنه خطاب البشير في نهاية المطاف، والذي جاء بعد اجتماع مطول للمكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني، كان مختلفًا كثيرا عما أشيع حوله، فاكتفى الرئيس السوداني بإعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة، لكنه لم يذكر شيئا حول التخلي عن موقعه في رئاسة الحزب الحاكم أو الترشح لانتخابات 2020، باستثناء دعوة مبهمة للبرلمان لتأجيل النظر في التعديلات الدستورية المزمعة ودون تحديد سقف زمني لهذا التأجيل المطلوب، في حين كرّس البشير بقية دقائق خطابه بأحاديث معتادة حول حوار جديد يرعاه بنفسه على أساس وثيقة الحوار الوطني، والتعهد باتخاذ تدابير جديدة لم يكشف عنها لمعالجة الأزمة الاقتصادية، وإشارات غامضة حول الجيش ودوره في المشهد الوطني كحامي وضمانة للاستقرار.
بعد ساعات قليلة من الخطاب، أصبحت إشارة البشير إلى الدور الذي يعنيه للجيش أكثر وضوحا، مع صدور(2) مراسيم جمهورية نص أبرزها على تعيين وزير الدفاع ومدير جهاز الاستخبارات العسكرية الأسبق عوض بن عوف في منصب نائب رئيس الجمهورية مع احتفاظه بمنصبه الحالي كوزير للدفاع، إضافة إلى تكليف حكام عسكريين وأمنيين لإدارة الولايات السودانية المختلفة، وتكليف وزراء وأمناء عموم ووكلاء الوزارات بتصريف مهام وزاراتهم المختلفة في الحكومة الاتحادية لحين تشكيل حكومة جديدة، في خطوة بدا خلالها أن البشير قرر منح مزيد من الصلاحيات للجيش ومنح السلطة ضمنيا لحكومة ظلٍ عسكرية تدير شؤون الأقاليم، وإذا ما تم وضع تلك الخطوة إلى جوار حالة الطوارئ التي تم فرضها، فإن نوايا الرئيس السوداني قد أصبحت على الأرجح واضحة للجميع.
في حقيقة الأمر، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق موجة الاحتجاجات السودانية الأخيرة في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقبلها خلال موجات الاحتجاجات الكبرى في عامي 2011 و2013، كان واضحا للجميع أن “البشير” لم يكن مستعدا في أي لحظة لخلع عباءة السلطة طواعية، ويبدو أن الرئيس السوداني لم ير موجة الاحتجاجات الراهنة أكثر من صفحة جديدة في كتيب حكمه المليء بالأزمات التي بدأت مع استيلائه على السلطة في انقلاب عسكري عام 1989.
وربما لا تقارن الأزمة الحالية في تصور البشير بتلك المصفوفات الطويلة من الأزمات التي نجح حكمه في الصمود عبرها طيلة تلك العقود، بداية من الحرب الأهلية الدموية التي أسفرت في نهاية المطاف عن خسارة بلاده لثلث مساحتها الجغرافية وثلاثة أرباع عائداتها النفطية عندما حصل جنوب السودان على استقلاله في عام 2011، ومرورا بلائحة اتهام المحكمة الجنائية الدولية التي اتهمته بارتكاب «إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية» حد أوصاف المحكمة متعلقة بإدارته للنزاع في دارفور، في سابقة أولى من نوعها لرئيس تتم إدانته بهذه التهم وهو لا يزال في السلطة، وليس انتهاء بنجاته من عدد كبير من المحاولات الانقلابية عليه، أبرزها حركة رمضان الشهيرة في23 أبريل 1990 والتي وأدها البشير بإعدام 28 ضابطا اتهمهم بمحاولة الانقلاب عليه في شهر رمضان، ومحاولة عام 2012 التي كان رئيس المخابرات الحالي “صلاح قوش” أبرز المتهمين فيها، فضلًا عن عدد أكبر من الموجات الاحتجاجية الشعبية، وسنوات طويلة من العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية التي كان البشير ونظامه قادرين على الاستفادة منها لتحقيق مصلحتهما السياسية، مصدرا اللوم ببراعة في إخفاقات نظامه لـ «أعدائه الأجانب».
رئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني” صلاح قوش”(يمين) والرئيس السوداني “عمر البشير”
وعلى مدار ثلاثة عقود، لم يترك(3) البشير حيلة في كتب السيطرة المطلقة على الحكم لم يستخدمها لأجل إحكام قبضته على السلطة، فالرجل الذي وصل إلى السلطة في بداية الأمر عبر انقلاب عسكري، نجح في وقت مبكر في الاستفادة من خلافات معارضيه وحتى مؤيديه البارزين لإبعادهم جميعا خارج الرقعة السياسية، وقام بتدجين حزبه ودمجه داخل الدولة بحيث يتعذر الفصل بينهما، ونجح ببراعة في الاستفادة من الصراعات الإقليمية وتحولات موازين القوى، فارضا نفسه كرقم صعب في المنظومة الإقليمية رغم التحولات الكبرى التي أصابتها قبل وأثناء وبعد الربيع العربي، واستغل سنوات الطفرة الاقتصادية في نسج شبكة واسعة للمحسوبية ضمن بها حكمه، وكدس نظامه السياسي بالأجهزة الأمنية والتشكيلات شبه العسكرية لتأمين حكمه في أوقات الخطر، لكن ما لا يدركه البشير، أو يتجاوزه دومًا على الأرجح، أنه لا يمكنه الاستمرار في اللعب بورقة التوازنات إلى ما لا نهاية، وأن طول عهده بالسلطة ربما لن يكون كافيا في نهاية المطاف لجعله استثناء كليا من تاريخ بلاده، أو من تاريخ المنطقة الأوسع، خاصة بعد أن غيرها الربيع العربي كليا وغير ثقافتها السياسية، وإلى الأبد.
“السودان” أرض الثورات
في أعقاب استقلال السودان عن الحكم الأنجلو-مصري عام 1956، أوكلت بريطانيا السيطرة السياسية على السودان إلى مجموعة مختارة من الزعماء الدينيين والقبليين، فيما تركزت الأراضي والثروة في أيادي عدد قليل من العائلات، وقد تم بناء الأحزاب السياسية الأولى حول هذه العائلات التي فشلت في الاستقرار على مرشح واحد لحكم البلاد، مما أدى إلى تشكيل مجلس السيادة المكون من خمسة أعضاء، ولكن المجلس سرعان ما تمت الإطاحة به في انقلاب عسكري قاده الفريق إبراهيم عبود عام 1958.
لم يضع “عبود” وقتا في اتباع الدليل الإرشادي التقليدي للانقلابات العسكرية، فقام بإيقاف العمل بالدستور وحل البرلمان والأحزاب السياسية ومنح المزيد من السلطة للمجالس المحلية، فيما قادت الأحزاب والطلاب دفة المعارضة لنظامه الجديد، لتندلع شرارة التغيير في أكتوبر/تشرين الأول عام 1964 في جامعة الخرطوم، حين كان اتحاد الطلاب يستعد لعقد فاعلية مناهضة للنظام العسكري، قبل أن تتدخل الشرطة لفض تجمهر الطلاب وتطلق النار على رأس الطالب “أحمد القرشي”، لتحفز بذلك انتفاضة كبرى مع جنازة القرشي ضمت الطلاب والنقابات المهنية، وتحولت إلى إضراب عام فيما صار يعرف بـ “ثورة أكتوبر”، وهي ثورة نجحت في الإطاحة بحكم عبود في غضون شهر من الاحتجاجات بسبب وقوف الجيش ضده.
كانت الحكومة الانتقالية السياسية الجديدة في السودان خالية من النخب السياسية القديمة، وكانت أكثر الحكومات في تاريخ السودان التي عرفت نظاما تمثيليا سياسيًا حقيقيا، ومع ذلك فقد عانت بفعل المشكلات الاقتصادية والخلافات الداخلية والصدامات مع الجيش، لتؤول في النهاية إلى السقوط في انقلاب عسكري آخر عام 1969 على يد العقيد “جعفر النميري”.
ومن جديد، حكم(5) النميري السودان قرابة عقد ونصف العقد وفق إرشادات كتيب الانقلابات العسكرية ذاته، قبل أن ينتفض السودانيون مجددا في أبريل/نيسان عام 1985، بينما كان “النميري” في واشنطن يناشد إدارة الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” باحثا عن حزمة إنقاذ مالية جديدة لحكمه، وتسهيلات إضافية لسداد ديون السودان البالغة تسعة مليارات دولار، وإعفاء من التخفيضات المقترحة من صندوق النقد الدولي على دعم الحكومة للغذاء والوقود، لكن النميري لم يعد إلى السودان أبدا، بعد أن قطع المتظاهرون الكهرباء عن مطار البلاد الدولي لمنع طائرته من الهبوط، ومعها قُطع حكم النميري نفسه الذي اضطر للهبوط في القاهرة لاجئا لمدة 14 عاما، بعد انقلاب ناعم قاده الفريق “عبد الرحمن سوار الذهب”، قبل أن يسلم الأخير السلطة طواعية لحكومة مدنية منتخبة برئاسة “الصادق المهدي” في سابقة تاريخية سياسية.
وكما العادة، لم تعمر حكومة “الصادق المهدي” في موقعها طويلا قبل أن يتدخل الجيش للإطاحة بها مجددا في يونيو/جزيران عام 1989، ولكن هذه المرة على يد ضابط مغمور نسبيا وقتها يدعى “عمر البشير” بدعم من الجبهة الإسلامية القومية- التي تحولت لاحقا إلى حزب المؤتمر الوطني العام الحاكم – بقيادة الزعيم الإسلامي الشهير “حسن الترابي”، ضمن ما صار يعرف باسم “ثورة الإنقاذ”، لكن الخلاف لم يلبث أن دب بين البشير وأستاذه الترابي، حين طلب الأخير من الأول الاستقالة من الجيش وحل مجلس قيادة الثورة، قبل أن يتراكم الخلاف بينهما حول مشروع الجبهة لإنشاء قوات الدفاع الشعبي، وهي قوة عسكرية موازية ومشابهة للحرس الثوري في إيران، ليقوم البشير في النهاية بحل البرلمان الذي يرأسه “الترابي” قبل أن يسجنه بعد ذلك، لتنقسم الحركة الإسلامية السودانية منذ ذلك الحين إلى حزب المؤتمر الوطني بقيادة البشير، وحزب المؤتمر الشعبي الذي قادة الترابي بنفسه حتى وفاته عام 2016.
أكلت ما سميت بـ “ثورة الإنقاذ” أبيها إذن، ورحل الترابي وبقي البشير بعد أن أثبت في كل موقف أن ولائه لهويته كجنرال عسكري يسبق انتماءه المفترض والمُعرّف به لـ “الحركة الإسلامية”، فمنذ وصوله إلى السلطة لم يأل البشير جهدا في تقويض “الحركة الإسلامية” وإضعافها من الداخل، في الوقت الذي استثمر فيه في تعزيز ولاء الجيش وتكديس التشكيلات الأمنية، حتى أن قوة الدفاع الشعبي -التي أسسها الترابي بهدف مواجهة الانقلابات العسكرية المحتملة من قبل الجيش- قام البشير بالسيطرة عليها وحولها لقوة موالية له شخصيا لأجل توظيفها في قمع أي انتفاضات محتملة.
وبخلاف ذلك، عمد البشير لتدعيم حكمه بدعم المزيد من المليشيات شبه العسكرية، وعلى رأسها ميليشيا “الجنجويد” سيئة السمعة والتي استخدمت في قمع التمرد في دارفور، إضافة إلى جهاز الشرطة السوداني بطبيعة الحال، وفي الوقت نفسه فإنه عمد إلى ربط نظامه(6) بطبقة من البورجوازية السياسية التي استفادت من القمع والفساد المالي والسياسي، صانعا نخبة جديدة من الموالين والمعارضين المنتفعين على حد سواء، في الوقت الذي قام فيه “البشير” باستخدام “الإسلام” كديانة سودانية أولى وكخلفيته التربوية وكذا المؤسسات إسلامية الطابع والتوجه لخدمة أهدافه الخاصة، بما في ذلك جماعة “الإخوان المسلمين” التي تحولت نسختها السودانية تدريجيا من حركة “إصلاحية تحررية” كما يتم تعريفها إلى غطاء لنظام أمني قمعي.
الراقص على الحبال السياسية
وفي إطار سعيه لتعزيز صورته “الإسلامية” كما يريد، استضاف البشير “أسامة بن لادن” لخمسة أعوام كاملة، قبل أن يتخلى عنه بفعل الضغوط الدولية محتضنا نموذجا إسلاميا جديدا هو نظام “الثورة الإسلامية” في إيران، حيث سارع البشير لتوقيع اتفاق دفاعي مع طهران منحها بموجبه أول موطئ قدم لها على البحر الأحمر، وسمح لها ببناء مصانع أسلحة في السودان لنقل الأسلحة للميليشيات الموالية لها عبر شمال إفريقيا والبحر المتوسط، وهي المنشآت التي يعتقد(7) أن إسرائيل استهدفتها بغارات جوية متتالية أعوام 2009 و2012 و2015، غير أن التغييرات السياسية التي ضربت السودان والمنطقة منذ عام 2011 فتحت أبواب السودان أمام حليف جديد محتمل هو المملكة العربية السعودية.
ففي ذلك العام، انفصل الجنوب السوداني رسميا وأصبح دولة مستقلة آخذًا معه أكثر من ثلاثة أرباع الاحتياطات النفطية في سودان ما قبل الانفصال، ولكن الدولة الجديدة التي لا تمتلك أي وصول للبحر ظلت معتمدة على جارتها الشمالية للوصول للأسواق العالمية، وكان المال الذي تجنيه السودان من ذلك الدور مصدرا رئيسا للدخل في البلاد، لكنها سرعان ما فقدته بفعل الحرب الأهلية التي خفضت إنتاج النفط في الجنوب إلى الثلث تقريبا، بما يعني أن نظام البشير صار بحاجة للبحث عن مصادر جديدة للدخل.
في الوقت نفسه، كان الربيع العربي يضرب شواطئ المنطقة دافعا دول الخليج للتخلي عن سياسة الانكفاء التقليدي على نفسها، وممارسة دور أكثر حيوية وتدخلًا في محيطها الإقليمي وبالأخص في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وكان السودان الغني بالأراضي الزراعية التي يمكن أن تحل مشكلة نقص الغذاء في الخليج، وصاحب الموقع الجغرافي الفريد على البحر الأحمر وفي ملتقى فرعي نهر النيل، كان ذلك السودان فضاءً جذابا للرياض بالأخص لممارسة النفوذ، وقد وقعت هذه الرغبة على آذان مصغية في الخرطوم التي كانت في أمس الحاجة إلى الأموال السعودية الوفيرة.
بسبب انخفاض أسعار النفط والمشاكل اضطرت السعودية للنكوص عن كثير من وعودها المالية للبشير، وزاد سوء الأمور عندما قامت بترحيل عشرات الآلاف من العمال السودانيين
مواقع التواصل الاجتماعي
ومع توجه المملكة للحرب في اليمن، ارتفعت قيمة السودان في بورصة الرياض الاستراتيجية بشكل غير مسبوق، وقد استغل البشير هذه الحقيقة لاستنزاف أكبر قدر ممكن من المال السعودي الذي لم تكن إيران قادرة على توفيره، وفي المقابل فإن السعودية حصلت على المقابل بتنكر البشير لحليفه الإيراني وشن حملة عامة ضد المؤسسات والمصارف الإيرانية في السودان واستدعاء فزاعة «المد الشيعي»، وقبل ذلك أرسلت الخرطوم تباعا ما لا يقل عن عشرة آلاف من الجنود صغار السن والمراهقين السودانيين منخفضي التكلفة الذين تصدروا الصفوف الأمامية للجبهة السعودية في اليمن، وهو الأمر الذي كشفه تحقيق(8) شهير لـ “نيويورك تايمز” منذ أقل من شهرين بنهاية ديسمبر الماضي.
غير أن انخفاض أسعار النفط والمشاكل الهيكلية التي أصابت الاقتصاد السعودي اضطرت الرياض للنكوص(9) عن كثير من وعودها المالية للبشير ونظامه، وعطلت استثماراتها الموعودة في مجالات الطاقة والسدود الكهرومائية، وزاد سوء الأمور أكثر عندما قامت السلطات السعودية بترحيل عشرات الآلاف من العمال السودانيين بالمملكة، وهو ما دفع البشير إلى مراجعة رهاناته الإقليمية مجددا، محاولًا العبور إلى الجانب الآخر من الصدع الخليجي والشرق أوسطي، حيث يقف الحلف التركي القطري.
لم تكن أنقرة الطامحة إلى دور قيادي في الشرق الأوسط لتتجاهل(10) بدورها مغازلات البشير لها بمنحها موطئ قدم استراتيجي على البحر الأحمر، وهو طريق تجاري مهم لتركيا كما يمنحها موطئ قدم للضغط على مصر من الخلف حال إقدام القاهرة على إغلاق قناة السويس في وجه تجارتها، لذا فإن أنقرة استجابت لدعوة البشير وشرعت في الاستثمار بصحبة الدوحة في الميناء التجاري في جزيرة سواكن، مع إمكانية قائمة لتحويله إلى قاعدة بحرية في أي وقت.
في الوقت ذاته، استثمر البشير في إعادة تأهيل(11) نفسه عالميا في مواجهة العقوبات الأمريكية المفروضة على نظامه منذ عام 1997 بسبب دعم الحركات المسلحة في إثيوبيا وإريتريا وقمع التمرد في السودان الجنوبي، عقوبات توسعت في عام 2006 تحت إدارة الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” لتشمل أصول بعض المسؤولين السودانيين المتورطين في الصراع في دارفور، قبل أن يسقط البشير نفسه هدفا للسخط السياسي الدولي بعد إدانته من قبل الجنائية الدولية عام 2009 بتهم «ارتكاب جرائم حرب» كما ذكرنا.
نجح حلفاء البشير الخليجيون إذن فيما يبدو في إقناع الإدارة الأمريكية بإعادة تأهيل النظام السوداني ضمن خطة أوسع لهندسة منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي من جديد، وهو ما بدأ بالفعل مطلع عام 2017 حين قامت إدارة أوباما برفع مجموعة من العقوبات على السودان، قبل أن تسير إدارة ترامب في الركب ذاته وتقوم بإزالة السودان من قائمة الدول المشمولة في حظر السفر ورفع الجزء الأكبر من العقوبات، لكن مع حفاظها على السودان في القائمة الأمريكية لـ «الدول الراعية للإرهاب»، وفي المقابل فإن البشير وافق على فتح المخابرات الأمريكية لمكتب كبير في بلاده يتم استخدامه لجمع المعلومات حول حركة الشباب الصومالية والحركات المسلحة في ليبيا وحتى جماعة “الإخوان المسلمين”.
لا يبدو(12) هذا التوجه قاصرا على واشنطن وحدها، ففي الوقت الذي تكافح فيه أوروبا لتقليل عدد المهاجرين الأفارقة عبر البحر المتوسط، فإنها رأت في الحكومة السودانية حليفا لها، وقد تجلي هذا التحالف بوضوح في “عملية الخرطوم” التي تم إطلاقها عام 2014 وشملت اتفاقا بين أوروبا ونظام البشير وعدد من الدول الإفريقية، لمحاربة “الهجرة غير النظامية”، عبر إنشاء مركز عمليات إقليمية في الخرطوم يعمل فيه المسؤولون الأوروبيون جنبا إلى جنب مع نظرائهم السودانيين بناء على معلومات يزودهم بها جهاز المخابرات السوداني، وفي المقابل فإن أوروبا ستلتزم بتقديم الدعم للأجهزة الأمنية وسلطات التحقيق في هذه الدول بما يشمل إنشاء وحدات شرطية متخصصة لمكافحة التهريب.
وتعد هذه الالتزامات الأوربية أشبه بتعهد صريح بدعم النظام الحاكم في السودان، وهو موقف يبدو متطابقا مع موقف القاهرة التي أرسلت وزير خارجيتها ومدير مخابراتها لإظهار الدعم للبشير في الخرطوم مع انطلاق المظاهرات المطالبة برحيله، قبل أن تستضيف البشير نفسه في القاهرة في وقت لاحق للقاء الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” في انحياز شديد الوضوح للقاهرة تجاه الأزمة في السودان، حيث لا صوت يعلو -حتى اللحظة -هناك فوق صوت دعم البشير.
أين يذهب الربيع السوداني؟
نجح البشير، والبشير وحده فيما يبدو، في جمع الفرقاء الإقليميين على دعمه في لعبة دقيقة ونموذجية للمصالح السياسية المتداخلة، فبخلاف قناعة(13) مصر أن البشير سيكون مضطرا لدفع ثمن وقوف القاهرة إلى جواره لاحقا في صورة تنازلات جوهرية في ملفات الخلاف الحيوية مثل سد النهضة ومثلث حلايب، فإن التزام السيسي بدعم البشير يبدو نابعا بشكل أكبر من مخاوف جوهرية للقاهرة من امتداد الاحتجاجات السودانية إلى مصر من جديد، خاصة مع تشابه الحالة الاقتصادية للبلدين -مع فارق إيجابي للقاهرة- واضطرار كل من البشير والسيسي لاتخاذ تدابير تقشف اقتصادية لا تحظى بشعبية بين المصريين والسودانيين بداهة، بما يعني أن السيسي على الأرجح ومن خلال دعمه للبشير فإنه يسعى لحماية حكم نظامه بشكل جزئي في المقام الأول.
ينطبق المنطق نفسه على دول الخليج الكبرى، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية، اللتين سارعتا لدعم النظام أمام الاحتجاجات بشحنات وقود للتغلب على الأزمة الاقتصادية، في حين أنهما التزمتا موقفا أقل صراحة في دعم البشير بسبب علاقاته مع تركيا وقطر، وهي علاقات أنعشت الخزائن السودانية بمليار دولار على الأقل، في حين أن الدوحة كانت(14) أول عاصمة تستضيف البشير منذ اندلاع الاحتجاجات السودانية الحالية.
أما على المستويين الإقليمي والدولي فيبدو موقف البشير آمنا، حيث كان الرئيس العجوز قادرا على الاستفادة من هيمنة محور الاستقرار السلطوي المناوئ للتحركات الشعبية والذي تتزعمه الأنظمة الحاكمة في الإمارات والسعودية ومصر، وفي الوقت نفسه فإنه كان قادرا على الاستفادة من موقف الدوحة التي تبدو غير راغبة في خسارة حليف مهم على البحر الأحمر خاصة في ظل الحصار الخليجي، فضلًا عن استفادته من اللعبة الجيوسياسية الأوسع التي تحدد مصالح الولايات المتحدة وأوروبا والقوى الإقليمية في منطقة البحر الأحمر.
البشير لا يزال فيما يبدو يتمتع بدعم “الحركة الإسلامية” مع تردد “الإسلاميين” في التخلي عن البشير واحتضان الانتفاضة
الجزيرة
داخليا، يبدو أن البشير تعلم(15) من دروس الأنظمة الاستبدادية السابقة في بلاده والتي جرفتها الانتفاضات الشعبية، وهو لا يزال متمسكا بالسلطة ولا يظهر علامة واضحة على الاستسلام، خاصة وأن رحيله إن حدث دون صفقة دولية يعني أنه يخاطر بوضع نفسه تحت طائلة المحكمة الجنائية الدولية، ومع إدراك البشير أن الجيش السوداني سيبقى اللاعب الحاسم في المعادلة السياسية، وأن أي انتفاضة في تاريخ البلاد لم يكتب لها النجاح دون مساندة الجيش، فإنه سعى منذ البداية لوضع نفسه في مركز شبكة من المنظومات الأمنية الموازية والميليشيات المسلحة الموالية له، في الوقت الذي يغدق فيه الامتيازات على كبار جنرالات الجيش لضمان ولائهم في مواجهة أي تمرد من الضباط ذوي الرتب المتوسطة، وهذا هو السبب الذي جعل البشير قادرا على قمع انتفاضات شعبية طويلة الأمد مقارنة بأسلافه.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن البشير لا يزال فيما يبدو يتمتع بدعم “الحركة الإسلامية” مع تردد “الإسلاميين” في التخلي عن البشير واحتضان الانتفاضة، بما يشمل حزب المؤتمر الشعبي الجناح الموازي للحركة الإسلامية والذي لا يزال مترددا في الانسحاب من الحكومة، في حين أن القليل من الأحزاب الإسلامية منخفضة النفوذ نسبيا هي من قررت بوضوح الانحياز إلى الانتفاضة ومغادرة الحكومة، وفي مقدمتها حزب “الإصلاح الآن” بقيادة “غازي صلاح الدين”، ولعل إدراك البشير لأهمية غطاء الشرعية الذي توفره “الحركة الإسلامية” هو ما جعله مترددا في التخلي عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني.
من المؤكد أن ذلك المزيج المعقد من التفاعلات الداخلية والخارجية يجعل رحيل البشير أمرا أكثر صعوبة في ظل براعته في الرقص على حبال الخلافات السياسية الإقليمية والداخلية، ومهارته في القفز بين صفتي “الإسلامي” و”الجنرال” بمرونة كبيرة، لكن ذلك لا يجعل حكمه مستقرا أو محصنا، خاصة أن المعارضة السودانية اليوم تمتد إلى ما هو أبعد من الأحزاب السياسية التقليدية، وتقودها فئات غير حزبية مثل “جمعية المهنيين السودانيين” المشكلة حديثا والحركات الشبابية مثل “قِرِفْنا”، في الوقت الذي تنتشر فيه الاحتجاجات في المناطق الريفية والحضرية بما في ذلك المعاقل التقليدية لحزب المؤتمر الوطني في عطبرة والمدن الشمالية.
يأتي ذلك في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من تداعيات أزمة اقتصادية غير مسبوقة، خاصة بعد قرار البشير بتحرير سعر الصرف العام الماضي وما تبعه من انهيار لقيمة الجنيه السوداني، تزامنا مع ارتفاع أسعار الخبز والوقود ونقص الأدوية ونقص السيولة في العملة والقيود الصارمة على السحب البنكي، وفي ظل هذه الظروف فإن أي مبالغ مالية من الدعم مهما بلغت لن تكون كافية للبشير للحفاظ على النظام الموالي له الذي يدعم حكمه كونه ذي تكلفة مادية عالية.
ومع انهيار منظومة الفوائد، فليس هناك ما يضمن أن البشير سوف يحظى بدعم الجيش أو الميليشيات الأمنية إلى الأبد، وقد ظهرت بالفعل بوادر انشقاقات داخل الأجهزة الأمنية، حيث حثت إحدى الجمعيات الشرطية الضباط على رفض إطلاق النار على المتظاهرين، وحتى ولاء قوات الدعم السريع أصبح موضع تساؤل بعد تصريحات قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتو” التي دعى خلالها الحكومة للوفاء بمسؤوليتها تجاه مواطنيها.
وحتى “صلاح قوش” رئيس الاستخبارات ورجل النظام، فإنه لم ينس على الأرجح حين قام البشير بالإطاحة به ومحاكمته على خلفية ضلوعه في محاولة انقلاب قبل أن يعيده للخدمة مجددا، ومن المؤكد أن “قوش” ليس مواليا للبشير للدرجة التي تدفعه لرفض الانقلاب عليه إذا سمحت الظروف بذلك، خاصة وأن الرجل يحظى(16) بدعم أمريكي كبير خاصة من المخابرات المركزية الأمريكية التي يرتبط معها بعلاقات وثيقة، ويبقى “قوش” إحدى الأوراق الرابحة لخلافة البشير حال تعذر استمراره في الحكم.
في ضوء هذه المقدمات، فإن احتمالية الانقلاب العسكري المدعوم شعبيا تبقى حاضرة بقوة حال توسع الاحتجاجات وخروجها عن السيطرة، وفي حين لا يمكن الجزم إذا ما كانت قرارات البشير الأخيرة تأتي في سياق في تعزيز سلطته الشخصية عبر الاستقواء بالجيش، أو أنها أقرب إلى سياق التنازل عن جزء من صلاحياته إلى المؤسسة العسكرية ضمن انقلاب سياسي هاديء وشديد النعومة كاحتمال ثاني، في حين لا يمكن الجزم بأيهما فإن عودة السلطة إلى المؤسسة العسكرية وفق أي من السيناريوهين لا تعني بحال أن الجيش سيعيد السلطة للمدنيين مجددا كما فعل “سوار الذهب” في الثمانينيات.
ما نعلمه اليوم بالضرورة -قبل خطاب البشير وبعده- أن الرجل سوف يقاتل على مقعده حتى آخر رمق، خاصة مع قناعته أن نظاما صقلته الحرب لن يطيح به الهتاف
الجزيرة
وفي حين يبقى سيناريو الصفقة مع الجيش الأقرب حال خروج البشير -وهو ما تدعمه شواهد التعيينات الأخيرة- فإن السيناريو الآخر ينطوي على عقد صفقة مع حزبه الحاكم، بوساطة دولية، تقضي بتخليه عن الرئاسة لأحد أعضاء حزب المؤتمر المقربين منه، وهو سيناريو يقف على رأس مرشحيه “معتز موسى” -رئيس الحكومة التي تم حلها- لقربه من البشير، سواء بشكل فوري أو بشكل مباشر خلال انتخابات 2020، على أن يتم ضمان الخروج الآمن للبشير وأسرته.
ومع كل هذه الاحتمالات المتباينة، فإن ما نعلمه اليوم بالضرورة -قبل خطاب البشير وبعده- أن الرجل سوف يقاتل على مقعده حتى آخر رمق، خاصة مع قناعته أن نظاما صقلته الحرب لن يطيح به الهتاف، ولكن المدى الذي ستذهب إليه الاحتجاجات لا يمكن التنبؤ به، وإذا أدت احتجاجات الشوارع في الخرطوم إلى إزاحة البشير، فإن ذلك سيشير إلى أن الفترة بين الانتفاضات الشعبية الناجحة في العالم العربي أصبحت أقصر بكثير، وإذا كان الأمر قد استغرق 26 عاما بعد الإطاحة بالنميري لإسقاط أربعة زعماء عرب آخرين، فلم يمر اليوم سوى ثماني سنوات فقط على الربيع العربي قبل أن تتأرجح حكومة أخرى على حافة الهاوية، وهو ما يؤكد أن الثورات صارت وبشكل غير ملحوظ للكثيرين جزءً ثابتًا ومنتظمًا ومتكررًا من الثقافة السياسية العربية، وأنه على الرغم من عودة الدول البوليسية للهيمنة على الشرق الأوسط، فإن الثورات الذي هزت عروش الاستبداد في عام 2011 قد ولدت لتبقى وإن ذبلت أزهارا حينا من الدهر أو يزيد.
الجزيرة