نجحت الحملة العسكرية التي قادها حلف شمال الأطلسي سنة 2011 في ليبيا في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، مثلما نجح الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 في الإطاحة بنظام صدام حسين. وفي كلا الحالتين، بدا أن هناك فرصة تاريخية لإرساء ذلك النظام الديمقراطي المثالي الذي روّج له الغرب كثيرا، قبل أن يتضح أن النجاح العسكري في أفغانستان (2001)، والعراق (2003) وليبيا (2011)، وغيرها، كان قصير المدى، ولم يتجاوز حدود الإطاحة بالنظام، وهو نجاح ما كان ليتم لولا نفاد صبر الشعب منه، لذلك دخلت تلك الدول في فوضى عارمة وفشلت الدول الغربية في إقامة نظام آمن وإرساء قواعد الديمقراطية الليبرالية بقوة السلاح، لأن المراهنة ببساطة يجب أن تكون على قواعد واقعية وليس على أفكار هلامية، فالقوة وحدها لا تصنع الحق، بل القائد الجيّد هو من يستعمل القوة لإرساء الحق.
لندن – في كلمة ألقاها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية سنة 2000، قال الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، “لا أعتقد أن علينا استخدام قواتنا من أجل تحقيق ما يسمّى بناء الأمة”. لكن، بعد وقت قصير، وفي واحدة من أكثر التحولات في التاريخ الحديث، أصبح بوش منخرطا في هذا “البناء” الذي انتهى بنتيجة مشوهة استبدل فيها حكم “الطغاة” بفوضى الإرهاب والطائفية والانقسامات السياسية.
تدخل بوش في أفغانستان (2001)، تحت ستار نشر الديمقراطية وتحويل هذا البلد إلى “مدينة فاضلة”، ثم غزا العراق، في سنة 2003، بذات الحجة، التي طعّمها بمذبة السلاح النووي، وجر معه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي قال بدوره في خطاب له في شيكاغو سنة 1999، “لا يمكننا أن ندير ظهرنا للصراعات وانتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في الدول الأخرى إذا كنا نريد أن نشعر بالأمان”.
لكن، كما قال السياسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر، “عندما تطبق المبادئ الأخلاقية دون اعتبار للظروف التاريخية، تكون النتيجة زيادة المعاناة بدلا من تحسينها”، وهو ما يتجسد اليوم في الفوضى في أفغانستان وفي دمار العراق، وأيضا في ما تعيشه ليبيا التي شهدت في سنة 2011 تدخلا قاده حلف الناتو للإطاحة بمعمر القذافي، لكنه انتهى بالبلاد أسيرة في أيدي الميليشيات والفوضى والانقسام.
تدفع هذه الأمثلة إلى التساؤل عن جدوى استخدام القوة لفرض الديمقراطية، كما التساؤل عن معنى الديمقراطية، هذه الكلمة الفضفاضة التي تحوّلت إلى نذير شؤم، وأضحى حديث القوى الغربية عن إرسائها في دولة ما أشبه بدقّ على طبول حرب تبدأ بالترويج لأفكار خيالية عن حرية الشعوب وإسقاط الدكتاتورية وتنتهي بفشل يرى الكاتب البريطاني ماثيو باريس أن سببه الرئيسي يكمن في عدم استيعاب مسؤولين غربيين مثل توني بيلر وديفيد كاميرون وقادة الناتو، لفكرة أنه لا يمكن فرض الحرية بالقوة على العالم.
ينطلق ماثيو في شرح رؤيته مما يجري اليوم في ليبيا، مشيرا في زاويته في صحيفة التايمز، إلى أن ذلك الهتاف، الذي برر به ديفيد كاميرون، التدخل الدولي في ليبيا سنة 2011، وتوجه من خلاله لجموع حاشدة من الليبيين في بنغازي، قائلا إن “مدينتكم هي مصدر إلهام للعالم أجمع، فقد تخلصتم أخيرا من الدكتاتور واخترتم الحرية”، لم يكن سوى عزف قصير المدى لسيمفونية “تحرير ليبيا من دكتاتورية القذافي”، والتي تحوّلت سريعا إلى واقع مرعب.
يقول ماثيو “لم يثبت هذا الهتاف نجاحه على ما يبدو، والدليل على ذلك أن ليبيا اليوم تقع تحت سيطرة حكومتين تحاربان بعضهما البعض”. يحارب جيش خليفة حفتر الوطني الليبي، الذي توجد معاقله في الشرق، حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس، وفي الأسبوعين الماضيين وحدهما، أسفرت المعركة بينهما عن مقتل 174 شخصا.
وعلى مدار الثماني سنوات الماضية، شهد الليبيون العديد من الأحداث العدوانية مثل تفجير السيارات المفخخة والمعارك في الشوارع والقصف العشوائي ووقوع الآلاف من القتلى، والعمليات الإرهابية، وتحول البلاد إلى مركز تدريب للجهاديين.
ويقول الباحث سكوت تومسون، في دراسة حول الجدل بشأن فكرة فرض الديمقراطية بالقوة، إن “الرغبة في مشاركة الديمقراطية مع أولئك الذين يتعرضون للاضطهاد على أساس يومي أمر يستحق الثناء. لكن ينبغي ألا تعمينا النوايا الحسنة عن العقبات. وفي حالة الديمقراطية المفروضة بالقوة، تلوح العقبات التي تعترض محاولة نشر الحريات في جميع أنحاء العالم في الأفق”.
ما يحدث في ليبيا، عاشه قبلها العراق وأفغانستان، وأيضا البوسنة وغيرها من الدول التي شهدت تدخلات غربية بنفس ذريعة نشر الديمقراطية وإسقاط الطغاة. ويثبت، وفق ماثيو، فشل العديد من التدخلات الأجنبية على مدار العقدين الماضيين تحت شعارات “الحرية” و”الديمقراطية” و”العدالة” و”حقوق الإنسان”.
ولئن نجحت المحاولات من الناحية العسكرية على المدى القصير من خلال الإطاحة بـ”الطاغية”، فقد تعثرت بعد ذلك، نظرا لعدة أسباب منها أن التدخل كان سريعا ولم يكن يحمل خطة طويلة المدى على غرار ما حدث في ليبيا سنة 2011، ومنها ما يرتبط بالخصوصية المحلية للدول كالطائفية والاختلافات الأيديولوجية والخصوصية الجغرافية والعلاقات بدول الجوار والإقليم، والعالم.
ولعل هذا ما يفسّر عدم تدخل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في سوريا، وسحبه للقوات الأميركية من العراق، قبل أن يضطر إلى إعادتها ضمن الحرب على داعش. وكان أوباما من السياسيين الذين اختلفت رؤيتهم، وهم مرشحون للانتخابات، عن رؤيتهم وهم رؤساء.
عبّر السيناتور باراك أوباما، خلال الحملة الانتخابية في سنة 2008، عن هذه المشاعر المتناقضة مع الممارسات العملية، وأعلن قائلا في إحدى خطبه “يجب أن نتواضع في إيماننا بأننا قادرون على فرض الديمقراطية على بلد ما باستخدام القوة العسكرية. يجب أن نكون واعين أن المؤسسات الديمقراطية، الأسواق والصحافة الحرة، والمجتمع المدني القوي، لا يمكن بناؤها بين عشية وضحاها بفوهة بندقية”.
لكن، أوباما الرئيس كان يبرّر الجهود الأميركية لفرض الديمقراطية بالقوة، حيث قال إن التدخل العسكري في “مصلحة قومية”. ووصف كاتو للأبحاث السياسية أجندة أوباما في ليبيا، والتي عمل على تنفيذها عام 2011 عبر حلف الناتو، بأنها أشعلت الصراع في البلاد وحولتها إلى عراق ثان.
حماية ولكن…
يقول مايكل ريسمان، أستاذ قانون في كلية ييل للحقوق، “إن كل اندفاع لحماية الضعيف ومساعدة العاجز أمر نبيل. واستخدامنا لوسائلنا لتحرير شعب معين من حكومة لا تشكل تهديدا وشيكا أو متوقعا لنا، لكنها مستبدة وعنيفة وشرسة إلى درجة أن شعبها لا يستطيع التخلص منها، نبيل أيضا. قد يكون الإجراء المتخذ لتنفيذ هذا الدافع ذا طبيعة قانونية دولية. قد يكون في بعض الأحيان عمليا. وغالبا ما يساء فهمه”.
لكن، يجادله ماثيو باريس بطرح مجموعة أسئلة جدلية حول “من الذي تأمل الدول الغربية في دعمه؟ ومن هم أولائك الذين تعدمهم، وهل هم يستحقون أن يصبحوا قادة المستقبل؟ وما مدى شعبيتهم في بلادهم؟ وما هي فرصهم المتاحة لتوحيد بلدانهم؟”. ليختصر الإجابة بقوله “أخشى أن أقول إن حكوماتنا لم يكن لديها أدنى فكرة عما سيحدث”.
تكشف مختلف التجارب أن القوى الغربية مازالت تتعامل مع “دول العالم الثالث”، التي أوهمتها بشعارات دعمها لإرساء الديمقراطية وحرية التعبير وتقرير المصير وفلسفة النهضة وعصر الأنوار، عندما غزت موجة حركات التحرر العالم، وخشيت الدول الاستعمارية على مصالحها وفقدان سيطرتها الكلية على تلك الدول.
اليوم، لا تبدو هذه الدول الغربية أفضل حالا من الدول التي تدخلت فيها، من حيث فقدان الأمن الاجتماعي وانتشار العداء للآخر وتوسع ظاهرة القومية، وأزمة الهجرة واللاجئين وغيرها من المظاهر التي لا ينفصل بعضها عما جرى في دول تدخلت فيها القوى الغربية من البوسنة إلى ليبيا.
ويؤكد على ذلك ماثيو باريس بقوله إن “المشكلة هي أن الإطاحة بالطغاة لم تنجح. ولم يتم إرساء الديمقراطية ولم يتم الحفاظ على حقوق الإنسان حتى بعد أن تدخلنا، ولم يتم تعزيز الاستقرار الدولي وأمننا الداخلي: الدليل على ذلك أزمة اللاجئين التي اجتاحت أوروبا، وصعود التطرف الإسلامي”.
ويشاطره الرأي جي بيدر زين، المحلل في صحيفة نيويورك تايمز، الذي يرى أن الديمقراطية الغربية غالبا ما تقع في أزمات، وأنه يمكن أن تكون لهذه الديمقراطية المنشودة، آثار مضادة خاصة من خلال ظهور جماعات سياسية رجعية تسعى إلى الحد من الحرية أو ظهور الجهود المتواصلة لطبقات النخبة لفرض سياساتها على الجمهور المتمرد.
ويقول سكوت طموسون إن قادة الولايات المتحدة وغيرهم ممن قد يرغبون في فرض الديمقراطية بالقوة، في جوهرها، ليسوا أقوياء بما يكفي لأداء المهمة وتنفيذها كما يجب. عندما يفشلون، يمكن أن يخلق أولئك الذين يستخدمون القوة لفرض الديمقراطية مشاكل جديدة تؤدي إلى تفاقم الظروف التي كانوا يحاولون تحسينها.
لكن، الغرب أدرك متأخرا أن شعوب الدول التي شهدت تدخلات عسكرية للإطاحة بأنظمة دكتاتورية لم تسمع الشعارات عن الحرية والديمقراطية بقدر ما كان جل تركيزها مسلطا على التخلص من الدكتاتور فقط. كان صبرها قد نفد، ولم تكن هناك قدرة على التفكير بالمستقبل.
ويشرح ماثيو ذلك، في حديث عن المثال الليبي، بقوله “لم يمر وقت طويل حتى انقسم الليبيون في تأييد الميليشيات، ورضي الكثير منهم بالذل والخضوع. حتى أن البعض منهم افتقد دكتاتورهم السابق. لم يكونوا هم الذين اختاروا الحرية، بل نحن، فرنسا وبريطانيا، اخترناها لهم. لكن البلاد لم تشهدها يوما”.
القوة لفرض الديمقراطية
يجسد الجدل حول ما إذا كان ينبغي استخدام القوة لفرض الديمقراطية بعض التحديات في تقييم الممارسات على أرض الواقع، خاصة عندما تتداخل المصالح مع “الغاية النبيلة” لرفض الديمقراطية ودعم الشعوب، حينها تكون النتيجة ليبيا اليوم وعراق الأمس واليوم، لكن حين يكون هذا التدخل محدودا فإن النتيجة تكون مثل تجربة تونس، وهي التجربة الوحيدة التي يرى ماثيو باريس أنها ناجحة رغم التعقيدات والتحديات التي فرضها صعود الإسلاميين في الحكم. ويقول باريس “فقط في تونس، حدث التحول تلقائيا دون تدخل خارجي من خلال اندلاع ثورة الربيع العربي.
تم استخدام ‘ثورة الياسمين’ في تونس كحجة للتدخل الليبرالي. بل كانت في الواقع حجة ضد هذا التدخل”، مضيفا أن التدخل الغربي فتح الباب أمام الأصولية الإسلامية الثورية لتحقق نجاحا في زعزعة الاستقرار في الهياكل السياسية التي تهاجمها، لكنها فشلت في محاولتها لإقامة هيكل جديد.
القائد الجيد
يرى سكوت طومسون بضرورة تجنب استخدام القوة لبناء الدول الديمقراطية لأن في ذلك خطرا وتناقضا مع الأسس و”الحقوق” التي تقوم عليها الديمقراطية والقيم التي بنيت عليها، بما في ذلك التعددية واختلاف الرأي والسيادة. ولا يعني هذا أن على القوى في جميع أنحاء العالم أن توقف جهودها لتوسيع نطاق الحرية. لكن، يبقى استخدام القوة لتحقيق الديمقراطية طريقة غير فعالة وغير متسقة من الناحية الفلسفية.
ويدعم ماثيو باريس هذه الفكرة بقوله إن العربة تحتاج إلى حصان: تحتاج إلى قادة يتمتعون بالجاذبية ويعتنقون المثل العليا ويجسدونها على أرض الواقع، أي أن الحديث المطلق والفضفاض عن الديمقراطية لن يؤتي أكله على أرض الواقع دون إيجاد نقطة ارتكاز قوية، وهذه النقطة تكون عادة من خلال زعيم بعينه أو إدارة قائمة، مع مراعاة أن المثل العليا والمدن الفاضلة ليست سوى أساطير وأفكار مثالية؛ ولذلك يمكن مساعدة الزعماء والقادة باستخدام القنابل، ومن الصعب للغاية ترسيخ الفكرة بقوة السلاح. و الغرب أدرك متأخرا أن المراهنة يجب أن تكون على القادة وليس الأفكار.
العرب