يتوجب، سياسياً أوّلاً، ثمّ بحكم القانون الدولي، وكذلك الأخلاق العامة؛ التمييز بين إدانة المرء للتدخلات الإيرانية في شؤون المنطقة، من العراق إلى سوريا ومن لبنان إلى اليمن؛ وبين إقرار، أو تأييد، أو حتى التعاطف، مع العقوبات الاقتصادية الأخيرة التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضدّ الاقتصاد الإيراني، في ميدان النفط خاصة. صحيح أنّ الافتقار إلى الشرعية، وقلّة الأخلاق استطراداً، هما في طليعة القواسم المشتركة بين عربدة ترامب وعربدة أمثال قاسم سليماني؛ إلا أنّ حصّة التمييز النسبي تفرض اعتباراتها هنا، خاصة إذْ يضع المرء في كفَتَيْ ميزان ممارسات “فيلق القدس” هنا وهناك، وقرارات هذا البيت الأبيض في القدس وهضبة الجولان المحتلتين.
إلى هذا، ثمة إشكالية ذات طابع جدلي تدور في قلب إيران ذاتها، حول حكاية العقوبات الأمريكية، وحول “اقتصاد الثورة الإسلامية” بصفة عامة؛ تتردد أصداؤها في أوساط النخب العليا السياسية والفقهية، وتبدو أشبه بمنعكسات مباشرة آتية من مرايا الشارع الشعبي العريض، بمختلف تياراته ربما. وأمّا العبارة/ المفتاح في تلك الإشكالية فإنها، ببساطة: تصدير الثورة. فهل إنّ ستراتيجيات تصدير الثورة، أسوة بإقامة التحالفات والتكتيكات، وتشكيل الفيالق، وتسخير بعثات التشييع، واستفزاز الطوائف والمذاهب، أو السعي إلى ذلك كلّه في الأقلّ… يساوي حقاً ما تسدده إيران من أثمان باهظة، في العميق من اقتصادها وطرائق توظيف خيرات البلد لصالح الشعب وتنمية المستقبل؟
ليس الجواب بالنفي حديث العهد في الواقع، وقبل عقد ونيف كان الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي قد حذّر من تصدير الثورة، واضعاً المسألة في إطار خاصّ جذري، اتضح أنه شديد الحساسية أيضاً: “تشويه أفكار الإمام الخميني”، ليس أقلّ! “هل نحمل السلاح ونتسبب بانفجارات في بلدان أخرى؟ هل نشكّل مجموعات للقيام بعمليات تخريب في بلدان أخرى؟ الإمام كان يعارض بشدّة أعمال الإرهاب ويدعو في المقابل إلى نموذج يقوم على وضع اقتصادي جيد، واحترام البشر، ومجتمع يتجه الى الرخاء وتحسين ظروف الجميع”؛ قال خاتمي.
يومذاك كانت ردود الفعل الرسمية، أو شبه الرسمية قد تراوحت بين الدعوة إلى “محاسبة خاتمي على تصريحاته غير الوطنية”، التي “لا ينجم عنها سوى تلطيخ سمعة الجمهورية الاسلامية وتأكيد اتهامات لا أساس لها يطلقها الاستكبار العالمي”، كما فعلت صحيفة “كيهان” الناطقة باسم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي؛ أو اتهام خاتمي (وكانت تلك النبرة تطوّراً نوعياً خطيراً في لغة انتقاد رئيس سابق) بالعجز عن “التمييز بين الأعمال الإجرامية للطالبان والعمليات الاستشهادية لقوّات حزب الله في لبنان أو للمقاتلين المسلمين في فلسطين”، كما فعل النائب المحافظ مهدي كوشك زاده؛ وصولاً إلى اعتزام 77 عضواً من التيار المحافظ في البرلمان الإيراني التقدّم بشكوى إلى وزارة الاستخبارات، للتحقيق مع خاتمي حول تصريحات اعتبروها مسيئة للخميني.
ومع ذلك، ولكي تكتسب الذاكرة أبعادها الجدلية هنا أيضاً، كانت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد ركبت موجة التظاهرات الطلابية خلال رئاسة خاتمي نفسه؛ قبل أن يدرك دهاقنة المحافظين الجدد، أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل، أنّ التحريض يحتاج إلى فقه آخر غير تسيير القاذفات العملاقة وامتطاء الدبابات وإطلاق الصواريخ العابرة للقارات. فارق في الأسلوب فقط، قد يساجل البعض عند مقارنة سلوك ترامب مع أسلافه بيل كلنتون وبوش الابن وباراك أوباما، وثمة وجهة نظر في هذا بالطبع؛ لولا أنّ سلّة ترامب ليست غاصة بمزاعم أمنيات الخير والرخاء والديمقراطية للشعب الإيراني، بل بقرارات وعقوبات وإجراءات مسخّرة أوّلاً وأخيراً لخدمة مصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي.
فهل ثمة من يتعظ في طهران، مستدعياً دروس الماضي، واضعاً نصب الأعين مصالح الشعب الإيراني أوَلاً، فاتحاً الأبصار على أوهام وأضاليل تلك الخرافة، “تصدير الثورة”؟ لقد أسمع الوعظ لو نادى حيّاً!
القدس العربي