يبدو أن خيار الحكومة الائتلافية في تركيا بات خيارا مطلوبا بقوة، منعا لدخولها مرحلة من عدم الاستقرار السياسي سيؤثر بالضرورة على اقتصاد البلد ومعيشة ناسه.
لذلك سيحاول حزب العدالة والتنمية الحاكم التوصل إلى ائتلاف مع الأحزاب الأخرى لتشكيل الحكومة، في ظل قناعة قادته أنه ليس مضمونا أبدا الحصول على نتائج جديدة تدعم تفرده بحكم البلاد إذا نظمت انتخابات تشريعية مبكرة.
الاستقطاب السياسي
وقد أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية، التي جرت في 7/6/2015، أن خيار الناخب التركي في المرحلة الراهنة هو خيار تعددي، لذلك لم يمنح حزب العدالة والتنمية الحاكم فرصة أخرى ليحكم البلاد بمفرده.
ولعل وجاهة هذا الخيار تجد متحققها في أن الفوز المتكرر لهذا الحزب في أكثر من انتخابات، محلية وتشريعية ورئاسية، دفع قادة الحزب وأنصاره إلى الاعتقاد بأنهم الوحيدون المؤهلون لقيادة البلد، وزاد من ثقتهم بشكل جعلهم في غفلة عن حل بعض مشكلاته السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو أمر أصاب هذا الحزب، الذي يحكم تركيا منذ أكثر من 13 عاما، حيث فاز، منذ تأسيسه في 14 أغسطس/آب 2001، بأربعة انتخابات عامة، في الأعوام 2002، و2007، و2011، فضلا عن تصدره انتخابات 2015.
كما أن هذا الحزب، الذي يتولى السلطة منذ 13 عاما، فاز في ثلاثة انتخابات محلية، في الأعوام 2004، و2009، و2014، إلى جانب فوزه بانتخابات الرئاسة التركية، التي جرت العام المنصرم.
إذن، وبعد أعوام عديدة من التمتع بأغلبية مطلقة، شكل خلالها حكومة بمفرده، خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته في البرلمان، في انتخابات تشريعية مثيرة، أدخلت حزب الشعوب الديمقراطي الكردي إلى البرلمان التركي، بعد تخطيه عتبة الـ10% المطلوبة لدخوله، بينما حافظ كل من حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الحركة القومية، على نسب قريبة من النسب الانتخابية المعتادة، التي كان يحصل عليها كل منهما في انتخابات سابقة.
وفي ضوء معطيات ونتائج الانتخابات التشريعية، فإن حاجة تركيا إلى حكومة ائتلافية أضحت الشغل الشاغل للأوساط السياسية التركية في أيامنا هذه، حيث تجري مناقشتها والبحث في ممكناتها وتبيان ضرورتها في هذه المرحلة، وذلك حرصا على عدم تدهور الأوضاع والدخول في متاهات التعطيل والتجاذبات السياسية، التي تؤثر على المنجزات الاقتصادية التي تحققت في الفترة الماضية.
غير أن خيار تشكيل حكومة ائتلافية في تركيا، تستدعيه -أيضا- ضرورة معالجة الاستقطاب السياسي الحاد الحاصل في المجتمع التركي، الذي خلقته الممارسات السياسية للأحزاب، وتحول إلى استقطاب مرضي لا علاج له سوى الخيار الائتلافي، القائم على إرساء مبادئ التفاهم والتوافق والتصالح في تركيا.
شروط الائتلاف
أما شروط تشكيل حكومة ائتلافية فليست سهلة أبدا، بالنظر إلى أطروحات وتوجهات الأحزاب التركية، وتصريحات قادتها، حيث طالب رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، بأن يكون نظام رئاسة الوزراء تناوبيا، واعتبر أن هنالك إمكانية لتشكيل حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطية، الحكومة الجديدة، على اعتبار أن هذه الأحزاب الثلاثة مجتمعة حصلت على نحو 60% من أصوات الناخبين.
ولم يخف رغبته في رؤية زعيم حزب الحركة القومية، “دولت بهتشلي”، رئيسا للوزراء، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك بأن تحالف حزب الشعب الجمهوري مع حزب العدالة والتنمية قد يكون صعبا شيئا ما.
في المقابل، هناك من يرفض هذا الشرط التناوبي على رئاسة الوزراء، حيث يعتبر قادة حزب العدالة والتنمية أن حكومة لا تضم حزب العدالة والتنمية لن تستطيع النجاح، وفشلها محتوم، وبالتالي لا إمكانية لتشكيل حكومة يمكنها الاستمرار دون اشتراك حزبهم، الفائز بالانتخابات التشريعية، بالنظر إلى حصوله على نسبة 40% من أصوات الناخبين. وهي نسبة تجعله الحزب الأول، المخول بتشكيل الحكومة.
كما أن تشكيل تحالف بين الأحزاب السياسية المعارضة لحزب العدالة والتنمية يبدو أمرا صعبا جدا، لأن حزب الحركة القومية يرفض علانية “مسيرة السلام”، الهادفة إلى حل المسألة الكردية.
والواقع أن تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من أحزب المعارضة، دون حزب العدالة والتنمية، سيكون هدفها الرئيسي، هو إعادة الحساب، أو بالأحرى تصفية الحساب، مع حزب العدالة والتنمية، ومع الرئيس رجب طيب أردوغان شخصيا. وهذا ما سيكلف تركيا، دخولها في حالة من عدم الاستقرار والأزمات غير المحمود عقباها.
لكن ما يطمئن إليه بعضهم هو أن المعطيات الراهنة تشير إلى استحالة تشكيل حكومة ائتلافية بين أحزاب المعارضة، خصوصا أن حزب الحركة القومية لا يمكنه تقبل وجود حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان، فكيف له أن يقبل بحكومة ائتلافية معه.
ورغم أن مباحثات ونقاشات تشكيل الحكومة الائتلافية جارية في هذه الأيام، ولو بشكل غير رسمي، فإن ممكنات نجاحها وشروطه تتعلق بشكل كبير بإمكانية إدراك جميع الأحزاب التركية لحجمها الحقيقي، ولنقاط قوتها وضعفها، ولعل العملية في النهاية مبنية على النسب الانتخابية، التي حصلت عليها في الانتخابات التشريعية.
وإذا نسينا أمر تصريحات قادة الأحزاب أثناء الحملة الانتخابية، وبعيد إعلان النتائج، نجد أنه من خلال التصريحات، التي تصدر هذه الأيام عن أعضاء حزب العدالة والتنمية، أن هنالك احتمال تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الحركة القومية، بوصفه الاحتمال الأسهل من الاحتمالات الأخرى، حيث تشير المعطيات إلى أنهما من الناحية الإيديولوجية، الأكثر تقاربا بين الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة التركية، فكلاهما ينتمي إلى التيار اليميني في السياسة التركية، وبينهما مشتركات عديدة.
لكن هناك مشكلة كبيرة تتعلق بالتحالف بين الطرفين، تتصل بكيفية ومصير “عملية السلام الداخلي”، التي يعتبرها حزب الحركة القومية “مسيرة إهانة لسيادة الدولة التركية”. ورغم ذلك يذهب بعض المتابعين للشأن التركي إلى القول إن هذه المشكلة المعقدة لن تمنع الحزبين من تشكيل حكومة ائتلافية، حتى إن بعضهم بدأ يتحدث عن كيفية توزيع الوزارات بينهما.
لكن السؤال يبقى مطروحا حول موافقة حزب الحركة القومية على استمرار “عملية السلام”، التي يصر قادة حزب العدالة والتنمية على عدم التراجع عنها مهما كلف الأمر.
وبالحديث عن السيناريوهات والاحتمالات الأخرى المطروحة لتشكيل حكومة ائتلافية في تركيا، تبدو مستبعدة إمكانية تشكيل حزب العدالة والتنمية تحالفا مع حزب الشعوب الديمقراطي، بالنظر إلى أن قادة حزب العدالة بعد فقدان حزبهم أصواته في المناطق الكردية باتوا لا يثقون بالأحزاب الكردية.
هذا فضلا عن أن حزبي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطية ليست بينهما مشتركات سوى “عملية السلام الداخلي”، فيما يختلفان تماما على إدارة وحكم تركيا، وفي السياسة الخارجية، الأمر الذي تستبعد معه إمكانية قيام تحالف بينهما لتشكيل حكومة ائتلافية، وما يدعم ذلك هو تكرار زعيم الحزب “صلاح الدين ديمرتاش” الحديث عن عدم دخوله في تحالف مع حزب العدالة.
أما إمكانية قيام تحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، فإن خلافات عديدة بينهما، تتعلق بأسلوب إدارة تركيا، خاصة في موضوع النظام الرئاسي، لكن، رغم المنافسة والعداء الشديد بينهما، فإن ذلك لا يمنع -وفق ضرورات السياسية- قيام نوع من التحالف بينهما، خاصة أنه سيلقى دعما دوليا، إضافة إلى دعم مجتمع الأعمال التركي، والمجتمع التركي كذلك.
وسيعطي قيام مثل هذا التحالف إشارة هامة لسياسة التوافق في تركيا، مع عدم إسقاط الخلافات الأيديولوجية العميقة بين الحزبين، ولعله سيتجسد في الاستمرار في عملية السلام الداخلي، وتغيير الدستور، وإصلاح القضاء، والاستمرار في عملية إبعاد عناصر “الكيان الموازي” (جماعة الداعية فتح الله غولن) عن مؤسسات الدولة التركية.
ويمكن القول إن القاسم المشترك بين جميع قادة الأحزاب التركية هو الإجماع على أن جر البلاد إلى إجراء انتخابات مبكرة بسرعة لن يعود بالفائدة على أحد، وبالتالي فإن الأجدى هو البحث في ممكنات تشكيل حكومة ائتلافية.
الحكومات الائتلافية
يشير تاريخ الحكومات الائتلافية في تركيا إلى أن مرحلة سبعينيات القرن العشرين المنصرم عرفت حكومات ائتلافية عديدة، لكنها غالبا كانت تنتهي بتدخل الجيش التركي، وسيطرته على مقاليد الحكم. ولعل من أشهر تلك الحالات الانقلاب العسكري الذي حصل في 12 سبتمبر/أيلول 1980، بقيادة كنعان إيفريل، وأنهى الحكومة الائتلافية، برئاسة سليمان ديميرل، في ذلك الوقت.
وبعد هذا الانقلاب، أجريت أول انتخابات تشريعية في العام 1983، وأفضت إلى قيام حكومة أغلبية، شكلها حزب الوطن الأم منفردا، لكن الحكومات الائتلافية عادت للحياة السياسية أكثر من مرة، بعد ذلك، حيث انتقلت تركيا إلى عهد الائتلافات بعد انتخابات عام 1991، وشكل “حزب الطريق القويم” بزعامة، سليمان ديميرل، ائتلافا مع حزب الشعب الديمقراطي الاشتراكي بزعامة أردال إينونو.
أما بعد انتخابات 1995، فقد تشكل ائتلاف حكومي بين حزب الرفاه، بزعامة نجم الدين أربكان، وحزب الطريق القويم، بزعامة تانسو تشيلر، لكنه لم يدم طويلا، حيث أنهي التحالف بانقلاب عسكري “ناعم” في 28 فبراير/شباط 1997. ثم شكل حزب اليسار الديمقراطي بزعامة بولنت أجاويد حكومة ائتلافية مع حزب العمل القومي وحزب الوطن الأم.
وعادت تركيا إلى حكومة الحزب الواحد، إثر وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في 2002، وفوزه في انتخابات 2007 و2011، قبل أن يفقد غالبيته في الانتخابات الأخيرة، ويفتح الباب أمام عودة الخيار الائتلافي مرة أخرى.
ويشهد تاريخ الحكومات الائتلافية على اتسامها بعدم الاستقرار والجمود السياسي وفشل معظمها في تمرير إصلاحات أو قوانين مهمة، لكن ذلك لا يمنع قيام حكومة ائتلافية في أيامنا هذه، بالنظر إلى ضرورات واعتبارات سياسية واقتصادية، ولعل المؤشرات ظهرت سريعا مع هبوط البورصة التركية، وانخفاض سعر الليرة لأدنى مستوياتها، إضافة إلى إعلان المستثمرين العرب والأجانب تخوفهم من القادم، وعزمهم أخذ المزيد من الحيطة بشأن استثماراتهم في تركيا.
وفي جميع الأحوال، فإن استعراض ممكنات واحتمالات تشكيل حكومة ائتلافية تركية مقبلة، واستشراف المشهد السياسي للمرحلة الحاسمة المقبلة، يظهران أن عملية تشكيلها لن تكون سهلة أبدا، وأن خيار الانتخابات المبكرة سيبقى قائما.
عمر كوش
الجزيرة